|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  30 / 4 / 2018                                                       صباح كنجي                                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

لا أعترف بحق الأبوة!

صباح كنجي
(موقع الناس)

اهداء.. الى طلال حسن ..

اتذكر هذا حينما يدور الحديث عنك يا أبي .. اتذكر ذلك اليوم.. تلك الساعة واللحظة التي جعلتني اقف بوجهك لأقول لك:

لا أعترف بحق الأبوة!!..

وأنا صبي لم أبلغ السادسة عشر .. حينما بدأت أنشط في صفوف إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية.. لا أستوعب ردود فعل سلطة البعث وأستخف بإجراءات اجهزة الأمن التي تقتحم مدرستي بالتنسيق مع ادارتها وتحريض من المنظمة الطلابية البعثية التي ناصبتني العداء في تلك المرحلة.. التي كنتَ قد خبرتها وأدركتَ خطورتها عليّ وعلى زملائي من الذين اندفعوا بحماس الشباب للانخراط في جملة نشاطات وفعاليات طلابية فتحت العيون عليهم و جعلتهم هدفاً لأجهزة القمع.. التي كان لك باع طويل في التعامل معها منذ العهد الملكي وما اعقبه في العهد الجمهوري قبل سلطة البعث بفصولها الدامية.

كنت في مقتبل العمر حينما بدأت أول مواجهة في فناء المدرسة الذي حوله البعثيون لساحة نزال حيث اجتمعت عليّ مجموعة منهم تركل وتضرب بإشراف المفوض خليل الساعد الأيمن لضابط الأمن في بعشيقة حينها.. وكانت النتيجة رغم الحاق الأذى بيّ تعرض المهاجمين لضربات موجعة جعلتهم يفرون الواحد بعد الآخر واعتباري انا المذنب الذي يستحق العقاب.. وكان قرار الفصل المؤقت لأسبوعين جاهزاً بيد عبد السلام يونس عباوي مدير الثانوية البعثي.. الذي علم بالمخطط وانصاع له بحماس بحكم معاداته للشيوعيين.. واعتبرني وفقاً لدوره في المخطط الذي لم استوعبه حينها.. من اتباع عزيز الحاج .. الذي لم يكن لدي اية معلومات تفصيلية عنه ناهيك عن دوره وملابسات انشقاقه من الحزب الشيوعي..

هكذا فجأة ارى نفسي متهماً محسوباً على جناح عزيز الحاج وممنْ.. مِنْ مدير مدرستي الذي تحول الى محقق جلاد قبلَ بدخول عناصر الأمن لمعاقبتي واستكمل اجراءه بفصلي وأنا ما زلت يافعاً لا يكترث بمن يناصبه العداء أو يستوعب المخاطر المحيطة به.. بالرغم من عدم انتسابه للحزب الشيوعي بعد بحكم صغر سنه..

أما انت يا ابي فقد استوعبت الحدث وقدرت نتائجه واصبحت قلقاً عليّ تتابعني وتتحسب لخطواتي .. كان قلقك يزداد وهواجسك تدفعك لبذل المزيد من الوقت لمتابعتي دون أنْ تتدخل في شؤوني الاّ بالقدر الذي يمنحني المزيد من الثقة بالنفس وانت تتابع قراءاتي وتجلب لي ولأخوتي واخواتي المزيد من الكتب التي تجاوزت قصص الاطفال واليافعين واحتوت على المزيد من الروايات منها رواية الام لمكسيم غوركي وقصص نجيب محفوظ بالإضافة الى الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ .. كان من بينها كتب المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية واصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لفردريك انجلس وعشرة أيام هزت العالم ..

هذه الكتب التي شكلت جزء اساسياً من تكويني وجعلتني أدرك اهمية الثقافة وتطوير المهارات الشخصية للفرد وحولتني مبكراً من صبي لرجل يعتقد انه قادر على تحقيق الاحلام الكبيرة وتجاوز الصعوبات والمحن فأخذت ازيد من نشاطي الطلابي بعد انتخابي سكرتيراً للاتحاد وعضواً في اللجنة التنفيذية لمحافظة نينوى واغيب لساعات طويلة عن الدار بحكم الاجتماعات واللقاءات بعد انتهاء الدوام وكان هذا يزيد من قلقك عليّ ويدفعك للتوتر .. لحين جاءت تلك اللحظة حينما كنتُ عائداً في ساعة متأخرة من الليل لأجدك واقفاُ بين دفتي الباب المواجهة للزقاق المظلم بيدك سيكارة تنفث منها دخان صبرك النافذ .. وانت تسألني لأول مرة بلهجة عتاب .. أين كنت ؟؟.. لماذا تأخرت ؟.. ببرود اجبتك: كنت في اجتماع ..

ـ مرة ثانية إنْ تأخرت لأي سبب أعلمني .. بنبرة فيها شيء من الغضب و العتاب.. تطلع تعبر بلغني!!

شعرت بـ "الإهانة" من هذا التدخل وهذه اللهجة التي لم أتعودها منك يا أبي.. لا أعرف كيف تجرأت وقلت لك مستفسراً بأي حق تطلب مني هذا؟!..

ـ أنا ابوك وقلق عليك..

بهدوء يعكس الثقة بالنفس والشعور بالاستقلالية والتفاخر إنسابت الكلمات خارجة لتجيبك بعنفوان الشباب غير المدرك للمشاعر .. مشاعر الأب وقلقه على ابنه في مثل تلك الساعة..

ـ لا اعترف بحق الابوة!!

كان الجواب صاعقاً لك .. ذهولك دفعك للصمت و السكوت.. المفاجأة كانت اكبر من أن تدفعك لرد مباشر في مجرى حوار بين أب اختبر الحياة وابن يستهين بها.. تجرعتَ الصدمة واغلقتَ الباب بألم وانسللنا كل الى غرفته.. بدأت حينها على الفور بـ لملمة حاجياتي وكتبي وقررت ترك الدار لأبقى اشهراً اتقاسم السرداب الفسيح مع جدي في بيته الكبير الذي ورثه عن ابيه ..

بعد اشهر .. حينما تيقنتَ انني لا اقدر الموقف ويصعب عليّ الادراك وتقدير الموقف جئتني لتسألني بهدوء.. قل لي ماذا قلت لك؟.. أنا ابوك اليس من حقي ان اقلق عليك؟.. أم ما زلت تعتبر نفسك فيلسوفاً لا يعترف بحق الأبوة .. يجب ان تعرف انك حتى لو اصبحت فيلسوفاً ستكون بنظري فيلسوفاً صغيراً بحكم علاقتي بك كأب يقلق على ابنه ..

قد يكون صعباً على الفهم إنْ أوضحتُ إني لا املك الكثير من الذكريات معك ـ يا أبي ـ لأودعها طي الصفحات التي يعدها عنك في مشروع كتابه الجديد الوفي طلال حسن.. و قد تكون صدمة لمن يعرفك عن قرب.. لو اوضحت ان فترة وجودي معك لو جمعتها لما تجاوزت الخمس سنين من عمري الذي تخطى الستين الآن..

مع هذا سأستعيد بناء على رغبة طلال ما علق بذاكرتي شيئاً من تلك الايام والصور التي ما زالت تنز بالكثير من الآلام تذكرني بطفولتي وأولى المشاهد في ساحات السجون وحدائقها وأنا ما زلت في الخامسة من عمري ..

اتذكر الباب الكبير الأخضر .. حشود الشرطة .. طابور النساء ومن يرافقهم من رجال وأطفال وهم يحملون الأطعمة وجدر الدولمة الذي اخذ الشرطي ينبشه بسيخ في اكثر من موضع مع تقليبه الملابس قبل الموافقة على ادخالها للمعتقلين في كركوك .. حيث التدافع على البوابة للدخول قبل التفتيش والتدقيق .. كان ذلك بعد مؤامرة الشواف في الموصل وما رافقها من اعتقالات للشيوعيين من بينهم أبي جمعة كنجي ـ ابو باسل وصديقيه خضر حجي مادو ابو مجاهد وشيخ صبري ابو مراد..

اتذكر دائرة الجلوس حيث يتجمع عدد من السجناء مع زوارهم.. وما كان يودع في جيبي الصغير من اشياء تتكرر بينها شدة سكائر مزبن تم اعدادها ليلاً قبل يوم لتوضع في احداها رسالة سرية صغيرة ملفوفة بعناية كي تخبأ بين تبغها بمهارة ..

علمت لاحقاً انها ليست مجرد سيكارة مزبن عادية.. بل و سيلة لنقل البريد الحزبي.. أدركت ذلك في صباي وأنا أستعيد المشهد.. مشهد الزيارة مع والدتي و أم مجاهد .. حيث اديت مهمة مراسل حزبي في ذلك العهد من طفولتي.. ولست ادري ان كنت قادراً اليوم على تصنيف هذه المهمة بأول لعبة مارستها في صغري ..

تليها صور لمجموعة من المسلحين المحيطين بك يرافقونك ويغادرون الدار بين الحين والآخر بعد أن هاجرنا بحزاني في اعقاب انقلاب شباط 1963 حيث سكنا قرية بوزان بالقرب من مدينة القوش قبل عودتنا من جديد لأجواء بحزاني في ذاكرة طفولة لا تعي التحولات الخطيرة حولها اثر الانقلاب وكانت نتيجتها بقائي في الصف الثالث الابتدائي بالرغم من تفوقي بسبب عدم استكمال نقلي من مدرسة بوزان الى بحزاني واعتبرت سنة رسوب ..

تلك كانت اقدم صور حفرت بذاكرتي ولا اذكر انك رافقتني لمنتزه او متجر عداها ـ في طفولتي ـ إما لصغر سني وعدم ادراكي او نتيجة لغيابك ودخولك دهاليز السجون وما تلاها من سنوات الكفاح المسلح ومن ثم الدورة الأخيرة من اعتقالك وخروجك وأنا متجاوز لطفولتي ليس لكبري بل للأهوال التي تعرضنا لها بعدك وتجوالنا مع والدتي المتخفية التي تنقلنا بين قرى ومدن سنجار مشياً على الاقدام هاربة من الاعتقال .

أما الفترة القصيرة التي ترافقت بصباي حيث كنت اعمل في اكثر من مجال لأساعدك واعينك على تحمل اعباء المعيشة بعد فصلي من الدراسة واضطراري لاستكمال تعليمي باللجوء للدراسة المسائية في الموصل فلم تتعدى السنوات الثلاث.. كنت خلالها صديقاً لا يتدخل في شؤوني وتركت لي الحبل على الجرار خاصة بعد جولات اختطافي واعتقالي لمرتين قبل ان اتوجه لبغداد مع مجموعة من رفاقي واصدقائي للتخفي هيأت الفرصة لحسم الموقف والتفكير باللجوء لإعلان الكفاح المسلح ..

فأذكر منها عملي في معمل للغزل والنسيج ينتج الدانتيلات والكراكيش الخاصة بالستائر .. لصاحبه غازي ابو فيصل
* في حي الصناعة بالموصل و له معمل آخر مجاور له ينتج الاحذية البلاستيكية عمل به نائب الضابط الشيوعي المفصول خيرو دلالة .. والذي لم يستغرق اكثر من اسبوعين .. حيث قرر غازي ابو فيصل فصلي في الاسبوع الثاني من العمل بعد قيادتي لأضراب بطريقة تراجيدية / درامية حينما استدعاني بعد ان جمع العمال وعلم باني المحرض والمخطط للإضراب للمطالبة برفع الاجور قائلاً: اربعين سنة لدي معامل ومؤسسات واعمل بلا مشاكل .. من أين طلعت لي؟!! .. لتخطط وتعلن الإضراب وفوق هذا كله اسمك باسل.. تعال يا باسل.. كم يوم لك عندي؟..

قلت له يومان.. وكنت اقصد بهما يوما الاضراب الذي لم أأتي للعمل بهما بعد ان كنا قد استلمنا يوم الخميس اجرة الاسبوع الاول .. كانت اجرتي دينار وربع في اليوم حينها وهو مبلغ ليس قليلا في حسابات ذلك الزمن في منتصف السبعينات .. وقال ماذا تريد بعد؟ .. قلت اجعلها دينار ونصف انا طالب ولدي مصاريف هذا الاجر لا يكفيني .. وانت تمنح المصري الذي يؤدي نفس العمل اكثر من دينار ونصف .. اخذ يحدّق النظر بيّ .. تمعن في وجهي مذهولا وصمت لم يتفوه بكلمة واحدة .. ذكرني موقفه بالمشهد السابق معك ابي .. ومدّ يده لجيبه .. انتزع منه رزمة نقود وهو يقول لي متسائلاً.. الشهر كم يوم يا باسل؟ ..

قلت بلا تردد ولم افهم لماذا سألني ذلك السؤال في تلك اللحظة التي كانت اصابعه تعد الدنانير ليصل الى الرقم ثلاثين..

ـ ثلاثين ..

قال هذه اجرة شهر كامل مقدماً روح حل عني لا تشوفني وجهك مرة ثانية ..

في اليوم الثاني لم اذهب للعمل .. هكذا اليوم الثالث والرابع كنت اشبع نوماً الى ما قبل الظهر.. قبل أن اتفاجأ بوقوف أبي عند رأسي قائلاً .. اراك لا تذهب للعمل من ايام ما القصة؟ ... قلت له وأنا ما زالت التحف الفراش .. قدت اضراباً عن العمل وتم فصلي.. أخذ يعاتبني .. هل هذا زمن اضرابات؟.. الا ترى وضعنا الاقتصادي راتبي لا يكفي لأجرة الدار وأعباء العائلة.. وانت لا تقدر الوضع وتخطط للإضرابات وتترك العمل .. ابدى انزعاجه من تصرفي .. لكنه تفاجأ وفرح حينما أعلمته بأن صاحب المعمل الذي فصلني عوضني بأجرة شهر كاملة وانا بحوزتي 28 دينارا منها الآن .. لا عليك سأبحث عن عمل آخر هذا الاسبوع .. نهضت سلمته بخفة 22 ديناراً منها .. لاحظت اسارير فرحه .. التمعت عيناه .. أخذ يتمتم كأنه يحدث نفسه.. لقد حُلت مشكلة القرض المطلوب الدفع من ثمن الكنبات وكراسي غرفة الجلوس نهاية الشهر..

واظن انْ لم تخني الذاكرة.. كان المتبقي اقل من نصف ثمنها البالغ 28 ديناراً شكلت عبئاً كبيراً عليه في ذلك الوقت الذي اصبحت عوناً له في دفع تكاليف الحياة الصعبة التي عاشها وعشناها معه .. بحكم نشاطه السياسي وجولات اعتقاله ومطاردته وكذلك التحاقه في صفوف الثوار او نفيه وابعاده للمناطق النائية في الصحراء كما حدث في تنسيبه لمدرسة الحجف في الجزيرة اثناء فترة اعادته للتعليم بنصف راتب كان لا يكفيه وحده ..

مع ذلك حينما اتذكره اليوم .. رغم قسوة ما حل بنا كعائلة و فقداننا لما لا تحتمله الجبال .. أقول بلا تردد .. انْ كان هناك شيئاً جميلا في حياتي اتفاخر وأتباهى به كانسان يدرك معنى الحياة.. فإن الفضل يعود فيه لأبي .. الذي ورثني قيمه الانسانية وتعلمت منه الصبر والثقة بالنفس ومدني بطاقة لا حدود لها لتجاوز المحن والصعوبات .. ابي الذي تعلمت منه الكثير وحثني على مواجهة الظلم وتحدي الاضطهاد والجور والقمع..

ابي الذي منحني قدرة هائلة من الشجاعة والصراحة وحب المعرفة وصقلني لأصبح اقوى كي اكون قادراً على مجابهة تحديات الزمن الذي كان يستشرف معالمه ومستقبله بنظرة خبير ثاقبة عن بعد .. لا ترتكن لأوهام القبطان .. حسّت بتأرجح العربة.. وادركت ضرورة تغيير عتلة القيادة.. و إنْ لم يجدي نفعاً المطلوب التفكير بصناعة عربة جديدة وعدم الركون للأخطاء والاستسلام للأوهام..

لم يكن جمعة كنجي الذي ورثني حلمه الافضل وعناده الثوري مجرد ابٍ في حياتي شاكسته في صباي ذات يوم.. كان بوصلة علمتني معنى الصراع وكشفت لي المستور من الحقائق.. حلم لابل يقين لا يقبل الشك.. ان عالما افضلا على هذا الكوكب الجميل المتسع للجميع ممكن التحقيق في الآتي من الزمن القادم لا محالة ..

أبي اعتذر منك
صدأت عقولنا من الركود
اصابنا الجمود
بسبب نكران حق الانسان في الوجود
اضعنا الطريق
خسرنا المزيد من الجهود
كجيش مهزوم انفرط منه الجنود
تركنا الجموع محشورة تئن من القيود
المقابر الجماعية تفصل الاخدود عن الاخدود
الانين يخترق الحواجز والسدود
اعتذاري عن حق الأبوة بلا حدود



اكتوبر 2017

* علمت بعد سقوط النظام من الفقيد خيرو دلالة ان صاحب المعمل غازي ابو فيصل هو الآخر كان شيوعياً ..



 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter