|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  13  / 2 / 2015                                 د. صباح قدوري                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

من ذاكرة انقلاب شباط الاسود 1963، وشهداء الوطن

د. صباح قدوري

1- كنت طالبا في كلية التجارة - جامعة بغداد السنة الثانية، عندما حدث انقلاب ثمانية شباط الاسود. وصادف يوم الجمعة وكان رمضان. وقد سبق هذا التاريخ ولمدة اكثر من شهر بتحريك التظاهرات الطلابية من قبل الناشطين في تنظيمات حزب البعث السرية.

وشملت هذه المظاهرات عدد من كليات الجامعة. وتفاقمت شدتها في بعض الكليات ومنها كلية التجارة ، كانت انذاك في منطقة الوزيرية بجانب كلية التربية. ومعظم قياديي التظاهرات ، كانوا في كلية التجارة ، امثال عمار علوش ، فلاح ميرزا ، سناء عمر العلي ، فؤاد عبد المجيد، عاتكة الخزرجي وغيرهم . حاول منظمو التظاهرات منع حضور الطلبة الاخرين الى الدراسة ، وافشال الامتحانات ، والتي تزامنت في نفس الفترة. قاوم الطلاب من اعضاء ومؤيدي الاتحاد العام لطلبة العراق في مسعى لافشال هذه التظاهرات والاستمرار في الامتحانات. استخدم المتظاهرون اساليب القوة والضرب وادخال السكاكين والاسلحة وجرت اصدامات مع الطلبة المعارضين للاضراب ، مما سبب في جرح كثير من الطلبة المعارضين للاضراب في كثير من كليات الجامعة ونقلهم الى المستشفيات للمعالجة. وكان دور الشرطة والجيش ضعيفا جدا ، وفي كثير من الاحيان كان بعض القياديين من الجيش ، وعلى راسهم عبدالكريم الجدة ، وكان حينها امر موقع بغداد ، يتواجد في الكليات مع الجنود لمتابعة تطورات الاضرابات ، ويلقون القبض على الطلاب المعارضين للاضراب من اعضاء الاتحاد العام لطلبة العراق وايداعهم رهن التوقيف في معتقلات بغداد، بدلا من الطلاب البعثيين الناشطين في الاضرابات.

2- في ليلة الخميس قبل وقوع الانقلاب بيوم واحد ، كنا كاعضاء في الاتحاد العام لطلبة العراق في حالة من اليقظة والحذر من وقوع الانقلاب . غادرنا الاقسام الداخلية ، التي كنا نسكن فيها والواقعة في باب المعظم والوزيرية ، خوفا من القاء القبض علينا، وتوزعنا في غرف مؤجرة في الحيدرخانة والبتاويين واماكن اخرى من بغداد .وقد قابلت في نفس الليلة بعض الضيوف الذين جاءوا الى بغداد من السليمانية ، بمناسبة العطلة الشتوية للمدارس والكليات انذاك. وكان في لقائنا مع هؤلاء الضيوف ، الشهيد الملازم صلاح محمد جميل، وهو من اهالي مدينة السليمانية، الذي كان قادما الى بغداد من وحدته في معسكر سعد بن ابي وقاص في بعقوبة لقضاء يوم العطلة الاسبوعية (الجمعة) برفقتنا . وقد رافقني الشهيد صلاح الى غرفتي ، التي كنت قد استأجرتها في منطقة البتاويين.

استيقضنا صبيحة الجمعة في الساعة السابعة صباحا ، وتناولنا الفطور بشكل طبيعي جدا ، وفي حدود الساعة التاسعة سمعنا نبأ الانقلاب من المذياع ، فسارع الشهيد للالتحاق بوحدته في معسكر سعد مع زميله الشهيد الملازم عبد المجيد محمد جان . وفور وصولهما خطب الشهيد صلاح بالجنود فاضحا الانقلاب طالبا مقاومته. اغتال الانقلابيون الرئيس الاول عبد الكريم حسن العلي في معسكر سعد. وبعد انتهاء المقاومة القي القبض على الملازمين صلاح وعبد المجيد ، ومعهما 23 جندياً وضابط صف، نقلوا جميعا الى سجن (رقم واحد) .

وبعد تعذيب وحشي تعرضا له ، لم يستطع الجلادون اخضاعهما . كان الشهيد صلاح يردد بتحد وثقة : اني أموت في سبيل شعبي ووطني ، ولكن كونوا على ثقة ان النصر الاكيد للشعب ، وان حكمكم زائل حتما لانه لا يستند على الشعب ، متحملا بنفسه مسؤولية مقاومة الانقلاب ، رافعا المسؤولية عن زملائه الاخرين ، فعلقوه من رجليه واثقلوا ظهره بالبطانيات والكراسي. يؤكد من رأوه في الموقف انه كان يسهر على زملائه الجنود ومعالجة جروحهم. وبعد محاكمة صورية ، حكم المجلس العرفي برئاسة شمس الدين عبد الله بالاعدام على جميع المعتقلين ، ونفذ حكم الاعدام بالمقاومين يوم 11 اذار 1963. الشهيد البطل صلاح خاطب الجلادين اثناء تنفيذ حكم الاعدام ، وامام الجنود الذين احضروا لمشاهدة الاعدام قائلا: ايها الجلادون ان نهايتكم ستكون على ايدي هؤلاء الجنود الذين جمعتموهم ليشاهدوا موتنا. (
انظر كتاب شهداء الحزب ، شهداء الوطن – الجزء الاول، 1934 - 1963، أصدار الحزب الشيوعي العراقي، دار الكنوز الادبية ، الطبعة الاولى 2001 بيروت – لبنان، ص 153).

3- بعد سماعنا لنبأ الانقلاب توجهنا فورا الى ساحة التحرير حيث ودعت الشهيد صلاح . قمت بالاتصال ببعض الطلبة من زملائي وبالتنسيق مع النشاطين في الحزب الشيوعي العراقي ، وقمنا بتوزيع بيان الحزب ، الداعي لمقاومة الانقلاب والى حمل السلاح بوجه الانقلابيين ، وهناك في ساحة التحرير تجمعت الجماهير بحشد كبير. وتم قطع الطريق بواسطة سيارات باصات مصلحة نقل الركاب لمنع عبور دبابات الانقلابيين على جسر الجمهورية القادمة من الكرخ .

عندما تقربت الدبابات من نهاية الجسر المطلة على ساحة التحرير ، لاحظنا صور عبدالكريم قاسم وقد وضعت في مقدمة الدبابات ، وبهذه الخديعة تمكنوا من شق طريقهم الى وسط ساحة التحرير وسرعان ما بدأ اطلاق النار بكثافة بأتجاه الجماهير المحتشدة فيها.

وكرد فعل عفوي ، بدأنا نقاوم باستخدام اخشاب وقضبان حديدية بسيطة ، كانت الجماهير قد تسلحت بها وهي تتجمع حال سماعها بنبأ الانقلاب ، وتم تكسير المصطبات التي كانت في داخل حديقة الامة واطرافها لغرض استخدامها كأسلحة لمواجهة دبابات الانقلابيين .
في تلك الاثناء مر موكب عبدالكريم قاسم قريبا من ساحة التحرير ، متوجها نحو وزارة الدفاع في منطقة الميدان ، فتعالت هتافات الجماهير مطالبة الزعيم بالعودة الى معسكر الرشيد وتزويدهم بالسلاح .

تحركت الجموع بعد ذلك الى وزارة الدفاع ، وهي تحمل اسلحتها البسيطة المكونة من الاخشاب والقضبان الحديدية ، ولكن سرعان ما حسم الوضع برجحان كفة الانقلابيين بعد معركة عنيفة خاضها عبدالكريم قاسم ومعه مجموعة من الضباط الذين اثروا البقاء معه والاستمرار في المقاومة ، ورغم قيام الانقلابيين بأعدام عبدالكريم قاسم والضباط الذين كانوا معه ، الا ان الجماهير ظلت تقاوم الانقلاب لعدة ايام في مناطق متفرقة من بغداد وضواحيها ، وتمكن الانقلابيون من القاء القبض على الاف الشيوعيين وتصفية اعداد كبيرة منهم .

4- اختفينا في بغداد لاكثر من اسبوعين ، على اثر صدور بيان رقم 13 المشؤوم ، متنقلين في اماكن مختلفة بسبب وجود قوائم لدى الحرس القومي لمراقبة الشيوعيين والوطنيين ، واقيمت حواجز تفتيش على الطرق العامة ، ووصل الامر الى تفتيش باصات الركاب لاعتقال من يشكون بأمره ، فامتلأت السجون ومخافر الشرطة بالاف المعتقلين .

ولاننا مجموعة من الطلبة الاكراد الدارسيين في جامعة بغداد انذاك فلم نكن مستهدفين بشكل مباشر ، فاستطعنا الخلاص من قبضة البعثيين وسافرنا الى السليمانية الى ان هدأت الامور، ورجعنا فيما بعد الى الجامعة بعد انهيار سلطة الانقلابيين وهروب حرسهم القومي ، واستلام عبدالسلام عارف للسلطة ، وكان ومجموعة من الضباط القوميين حليفا للبعثيين في التآمر على ثورة 14 تموز1958 .

اتذكر اول يوم عدت فيه الى الكلية بعد الانقلاب ، جاءني احد المسؤولين البعثيين اسمه فؤاد عبدالمجيد ، الذي اصبح فيما بعد مديراً للشركة العامة للسيارات ، وقال : هناك توصية من اكراد تابعين للحزب الديمقراطي الكردستاني بخصوصك ، وكان الحزب الديمقراطي انذاك من المؤيدين لانقلاب البعث (على اثر الاقتتال الذي شنه عبدالكريم قاسم ضد الاكراد) . واستمر قائلا : (انت شيوعي ، وكردي ، و مسيحي وخر(...) ، تريد تصير وزير براسنا ؟.. سمحنا لك بالدوام ولكننا سنراقب نشاطاتك).

5- ختاما، ان انقلاب 8 شباط 1963 ، كان مؤامرة انكلو - امريكية بالتعاون مع حلفائهما في المنطقة من الرجعيين والعملاء وبقايا الاقطاع وازلام العهد الملكي المباد والقوميين الشوفينيين في العراق، وبتنفيذ من حزب البعث في العراق، للاطاحة بالجمهورية الفتية، التي لم تكمل عامها الخامس .فقد استشهد عبدالكريم قاسم ورفاقه من العسكريين الذين قاوموا الانقلاب. واستشهد ايضا الاف من الشيوعيين والوطنيين ، وزج بالاف اخرى في معتقلات وسجون النظام البعثي مستخدمين حتى النوادي ، مثل النادي الاولمبي في الاعظمية، وسجن رقم واحد ، وقصر النهاية ، وخلف السدة ، ونقرة سلمان ، وفي قطار الموت . وعانى العراق من حكم البعث المقبور وحرسه القومي 35 عاما ، ملئت ارهابا وقتلا وحروبا مجنونة وحصار جائر بحق الشعب العراقي طال امده 13 سنة ، وبالنتيجة تم احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الامريكية وحلفاءها في عام 2003، ولحد اليوم يعاني الشعب العراقي من ويلاتهم ومؤمراتهم متعاونين مع العملاء في المنطقة، وبقايا ازلامهم في العراق لتدمير العراق وشعبه، الذي لا يسود فيه الامن والاستقرار لحد اليوم، ولا يزال يقدم التضحيات البشرية الجسيمة، ووضعه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي مزري، والعملية السياسية الحالية فاشلة بامتياز، وتقود العراق الى مستقبل مجهول ، والخاسر الاول والاخير ، هو الشعب العراقي المجروح.

6- ننحني باكبار واجلال واعتزاز امام هؤلاء الشهداء ، وكل شهداء الحركة الوطنية العراقية التي ناضلت من اجل الوطن وشعبه، وتحقيق الحرية والقيم الانسانية والعدالة الاجتماعية. وستبقى ذكراهم حية دائما في ضمير وقلوب كل الشرفاء ، ولن ينساهم شعبنا ابدا.
 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter