| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
saieb.khalil@gmail.com

 

 

 

الأربعاء 8/7/ 2009

 

البعث قادم....ولا استثني منكم احداً

صائب خليل

من يراقب الساحة "الثقافية" السياسية العراقية، من مقالات إلى تصريحات حكومية وحزبية حول عودة البعث، يشعر أن العراق صار كقلعة محاصرة ترتعش خوفاً "في انتظار البرابرة" (1)، ذلك القدر الذي ليس لها قدرة على رده.! مقالات غاضبة وأخرى محتجة وأخرى مرتجفة، وأخرى تبحث عن منفذ أخلاقي لقبول ذلك القدر: "صحيح أنهم مجرمون.. لكن ..."، والبعض يتحدث عن "الذين لم تلطخ يدهم بالدماء منهم"، لكن الحقيقة المرة المخيفة هي أن البعثيون قادمون، إن لم يكونوا قد وصلوا، وليس هؤلاء من الذين أجبروا على البعث، فهؤلاء لاحاجة لأحد بالتفاوض معهم، بل هم بالذات الذين "لطخت أيديهم بالدماء" منهم، وهم بالذات من يبحث عنهم علاوي ومن أنتخب علاوي وأصر عليه في أول حكومة عراقية بعد الغزو.

البعثيون قادمون في تقديري كتداع منطقي لمسلسل انهزام الرأي الشعبي في العراق وانحداره المتواصل نحو استسلام تام للأجهزة السرية والعلنية التي زرعتها الولايات المتحدة في أركان البلاد. الإستسلام التام لم يصل بعد، لذلك يضطر المالكي العودة عن تصريحاته، فالأكل لم يستو بعد، ولم يشعر كافة العراقيون بعد بأنهم محاصرون بلا خيار، لا في هذه المسألة ولا في غيرها من القضايا التي تهم الإحتلال، وكل ما هو مهم يهم الإحتلال. العراقيون بحاجة لمزيد من الإرهاب لدفعهم إلى قبول ذلك السرطان، لذا أجل المالكي المشروع وأعاد القدر إلى النار، وقامت الأجهزة الأمريكية برفع درجة الحرارة، وتهدئة الوضع حتى يستوي العراقيون تحت تعاون الإرهاب والحر وغياب الكهرباء. وفي انتظار الطبخة لابأس بالإستفادة من الوقت بالمزيد من تعويد العراقيين على قبول الدكتاتورية الجديدة: صور الدكتاتور الضخمة تجوب فيها أجهزته العسكرية الخاصة، إعتداء على رسام كاريكاتير لم يكن حتى ينتقد الحكومة، وأمثالها من الدروس.

لكن كل هذا ليس سوى رتوش ونتائج لهزيمة الشعب العراقي في معركة المعاهدة، الهزيمة التي أعطت الشعب الدرس الأعمق حول حقيقة الوضع في بلاده، وجعلته يدرك حقيقة توزيع القوى بعيداً عن توزيعها الورقي.

العراقيون، وبعد فشلهم في إيقاف مشروع المعاهدة الأمريكية رغم المعارضة الشعبية الشديدة والدعم البرلماني الذي فشل في مقاومة الضغط الأمريكي، صاروا لايثقون بمؤسساتهم السياسية، وأدركوا أن القوى التي تحرك الأشياء من وراء الستائر، لها الكلمة الأخيرة في هذا النظام. لقد تمت تربية المواطن العراقي على الدرس الذي تعلمه أميركا لكل شعب توصل الديمقراطية إليه أو تسمح له بشم رائحتها: عليك ان تفهم وتقبل أن ديمقراطيتك فارغة، عندما تتعارض مع إرادتنا. يمكنك أن تتظاهر من أجل حقوق المرأة، وأن تطالب بمنع أو السماح بالمشروبات الروحية أو الحجاب وأن تنتقد الطائفية والمحاصصة والإرهاب لكن لا تأمل شيئاً يتعلق بمسيرة البلد السياسية والإقتصادية والأمنية. رأى المواطن العراقي بالفعل مسرحية مخيفة تذبح فيها الديمقراطية أمام عينيه وتمرر اتفاقية لم تعلن، مع أشرس الدول في التاريخ، وتوقعها الأحزاب "العريقة" و "الطريفة" بنفس الحجج السخيفة الكاذبة.

لكن ما علاقة توقيع المعاهدة بعودة برابرة البعث؟ الحقيقة أن تمديد الأمريكان لبقائهم لسنتين لم يكن يهدف إلا لتهيئة الساحة لإعادة تسليم السلطة في العراق إلى الحثالات وتثبيت أقدامهم، خاصة في المجال العسكري والأمني، وهما المجالان اللذان تعجز الديمقراطية أن تقف بوجههما إن أرادت اللعب بذيلها مستقبلاً. ورغم أن مغادرة القوات الأمريكية الفعلي أمر مشكوك به تماماً، ويجري بشكل يومي تربية المواطن على قبول هذه الحقيقة إعلامياً، لكن تسليم البلاد لحثالاتها هي الخطة الأمريكية الثابتة في كل بلاد أحتلتها او كانت لها فيها سلطة ما لكي تكون لها الحرية مستقبلاً في مغادرة قواتها البلاد إن قررت ذلك، دون المخاطرة أن تعود البلاد وثرواتها إلى اهلها وللأمريكان تاريخ "مجيد" في مثل هذه الأمور. (2) و (3)

ولا يقل اهمية عن فرض سيطرة اليأس وقبول "الأمر الواقع" على الساحة الشعبية والسياسية، أن المعاهدة والطريقة التي فرضت بها، هيأت الكذب للسيطرة على الساحة (4) وعلمت السياسيين انفسهم أن لا يستحوا (5).
وتعلم رئيس الحكومة أن تجاوز الدستور (بتمديد الطوارئ مثلاً) و تجاوز صلاحيات البرلمان، ليس شيئاً خطيراً، ما دام يتم برضى الأمريكان، بل تعلم اللصوص الكبار أن لا خوف عليهم ما داموا قد اتفقوا مع الأمريكان على تسفيرهم إن تعرضوا للإنكشاف والمحاكمة. وما احتفاظ الجيش الأمريكي بالمحكومين بالإعدام لفترة طويلة بالرغم من الحكومة المنتخبة، سوى الإحتفاظ برمز يشير إلى الشعب ومن بقي في قلبه وهم من السياسيين طوال تلك السنين إلى من هو الذي يمسك زمام الأمور الفعلية في البلاد.
كذلك علموا الناس أن يقبلوا حقيقة أن كلمات الدستور العراقي ستفسر دائماً بالطريقة التي تناسب أميركا (مثلاً حول قانون المعاهدات). وعوّدوهم في هذه الأثناء أن سياسييهم قد يتذابحون على أمر ما حتى يأتي مبعوث أمريكي فيرضى كل منهم بما كان يحلف أغلظ الإيمان برفضه المبدئي له.(6) وعوّدوهم أن هؤلاء لا يختلفون إطلاقاً في بعض المقدسات السرية التي لا يجرؤ أي من الأحزاب حتى بفتح النقاش فيها، مثل دعم الحكومة الأردنية الغريب العجيب باسعار النفط، والعراق وشعبه بحال أسوأ منها الف مرة، ومدين لها بمبالغ مازالت مستمرة!

هيأت المعاهدة المسرح لعودة البعث، اخلاقياً، بتعويد المواطن العراقي على قبول الكذب الإعلامي كجزء من "الديمقراطية" الجديدة، وعلى قبول قيام هذه الديمقراطية بقصف أحياء المعارضين للإرادة الأمريكية واغتيال ممثليهم في البرلمان، وعلى قبول تصرفات الحكومة مهما كانت عجيبة ومنافية لكل قانون ودستور، مادامت تتم بانسجام مع أجندة القوات المحتلة في البلاد، على أنها أمر لا مرد له، وأن تلك الأجندة هي الدستور الحقيقي. لقد صار الشعب لا يسأل كثيراً، ولم يعد يتظاهر بتلك القوة وذلك الحماس والجهات التي كانت تصرخ في وجه الخطأ خففت من ارتفاع صوتها.
لقد عوّدت الحكومة الشعب أن لا يسأل، عندما تعلن بصلافة تامة عن إعدام المئات وسجن مئات مؤبداً بدون تقديم اسماءهم أو تفاصيل محاكمتهم او تفاصيل جريمتهم، وافهمتهم أن أحزابهم لن تسأل لماذا وكيف، ولن يحتاج الرئيس أن يفسر للشعب التناقض بين حساسية ضميره المفرطة لإعدام صدام ولا اباليته بإعدام المئات! عوّدت الحكومة البرلمان أن لا يسائل رئيس الحكومة عن الجرائم الدستورية والإنسانية بقصف الأحياء السكنية والتغاضي عن الأحكام القضائية وتمديد حالة الطوارئ، السلاح الكلاسيكي الذي بدأت به كل الدكتاتوريات التي خرجت من الديمقراطيات في العالم! عوّدت الحكومة وقوات الإحتلال الشعب أن يبلع مخاوفه وقلقه وينتظر القدر التالي الذي سيفرض عليه، ويجلس على الأسوار ليستقبل "البرابرة" لعلهم يخففون قسوتهم عليه. علموا الناس أن تبلع أسئلتها!

وفي الوقت الذي كتب صاحب هذه السطور، ضمن أقلية، أن رفض المعاهدة يجب أن يتم حتى بدون قراءتها لأنها فرضت في جو غير سليم ولسمعة الجهة المقابلة السيئة ولعدم توفر الحكم الدولي للخلاف، أصر الأمريكان ومن هم أكثر أمريكية من الأمريكان، على أنه يتوجب الإنتقال فوراً لمناقشة التفاصيل. وبدا الأمر معقولاً ومقنعاً، وهو كذلك في حالة الحديث عن حسابات وتفاصيل في ظروف طبيعية، إلا أن الأمور مع المبادئ والشعوب واللحظات الحاسمة المصيرية لها حسابات أخرى غير حسابات التجارة وغير منطقها.

أدعوكم لقراءة هذه السطور عن المساومة على المبادئ وأثرها لـ رالف هاردي (Ralph W. Hardy):

"
عندما تدخل المساومة إلى نسيجنا الأخلاقي، فأنها تنتشر كالسرطان. نتصور أننا بنينا أسواراً تحمي المساحات التي تحتوي مقاييسنا، لكننا في اللحظة التي نخفض فيها ارتفاع السور، ونحطم إرادتنا القوية من أجل اتخاذ الموقف الصحيح مبدئياً، مهما يكن الثمن، فإننا نعرض أنفسنا إلى قوى تنتشر خارج سيطرتنا. المساومة تبدأ دائماً حول أمور مبدئية غير ذات تأثير عملي. ويبدو القبول بالتنازل عنها ليس كبير الخطر. وكثيراً ما نبدأ بالمخاطرة بخسارة الأشياء التي لا تجذب الإنتباه بسهولة، محاولين تجنب الإعتراضات. لكننا نصحوا لنجد أنفسنا نتاجر بمبادئنا مقابل قيم مزيفة، في السوق السوداء للعلاقات الإنسانية".

هل هناك وصف أدق لما حدث في العراق في تلك الأيام من هذا الوصف؟ الأمريكان كانوا يبدون كأنهم لا يريدون شيئاً سوى "حمايتنا من الإرهاب"، ومن له أن يرفض مثل هذا؟ من كان يصدق الرواية الأمريكية للإرهاب وجد في التنازل عن السيادة تعويضاً كبيراً، ومن لم يكن يصدق، قال لنصبر سنتين أخريتين على السيادة. وفي هذه الأثناء كانت جوقة من الكتاب تعمل جاهدة بأجر أو تطوعاً، لتثبت في رؤوس الناس أن المبادئ والكرامة أمور قديمة بالية لا يتمسك بها إلا المتخلفون عن العصر، وأن "السيادة" مفهوم انتهى بفجر عصر العولمة بل أعاد بعض هؤلاء الكتاب ، تذكير الشعب العراقي بلحظات تاريخ مذلة داعين إياه إلى عدم المكابرة!

لكن سمعة أميركا وتاريخها المخيف مع الشعوب الصغيرة في "حديقتها الخلفية" وفي أفريقيا وآسيا، دفعت بعض الراغبين بالموافقة، ولكن القلقين من ذلك التاريخ، إلى أن يضعوا بعض "الأسوار حول المساحات التي تضم مقاييسنا" للإطمئنان. فاشترط البعض "كشف الإتقافية بشكل رسمي والسماح للشعب بمناقشتها بشكل شفاف" وبعضهم اشترط "سوراً" آخر هو أن يسمح للشعب بالإستفتاء على المعاهدة بعد توقيعها بفترة. ولكن بعد أن "دخل جو المساومة إلى نسيجنا الأخلاقي" و "حطمنا إرادتنا القوية من أجل اتخاذ الموقف الصحيح مبدئياً ، مهما كان الثمن" وجد حتى الذين كانوا صادقين في وضعهم لتلك الشروط، أنهم فقدوا السيطرة على الأمر فتم التوقيع على المعاهدة وبدون شرطهم، ودون أن يفتحوا فمهم بالمطالبة بها. فسكت مشترطي الشفافية وسكت اؤلئك الذين تاجروا بالمبدأ مقابل الفصل السابع، ذلك البعبع الذي استفاد من العزف على وتر التخويف منه كل من دعا إلى قبول المعاهدة، من المالكي إلى كل الأحزاب التي وافقت بلا استثناء، وجميعهم بلا استثناء تخلوا عن هذا "المكسب" الخطير للمعاهدة ولم يعد أحد يسأل عنه إلا همساً. وكذلك لا أحد يأخذ اليوم بموضوع الإستفتاء بأية جدية!

لقد تمت تهيئة المسرح لعودة البعث، من خلال الذين أرادوا المعاهدة الأمريكية ورحبوا بها، "فخفضوا أسوار مبادئهم" متغاضين عن الكذب الذي كان لابد من تثبيت سلطته من أجل تمريرها، ومتنازلين عن الموقف المبدئي القوي في "رفض الكذب مهما كان الثمن"، وساعدوه في القضاء على المعترضين عليه وعليها. والآن يعترضون على الكذب لأنه يريد إعادة البعث، لكنهم يكتشفون أنه "انتشر خارج سيطرتهم" حين "تاجروا بالمبادئ في السوق السوداء" حين كانت أجندة الكذب تنطبق مع أجندتهم. لقد فرض نفسه الآن ولم يعد بحاجة إلى موافقتهم.

حينما أدخل مسعود البارزاني قوى الجيش الصدامي "لتنظف" له المدينة من خصومه من أبناء قومه، فأن تلك القوى وظفت تواجدها الذي قدمه لها، بطبيعة الحال، من أجل أجندتها أيضاً، سواء رضي مسعود أو لم يرض.

واليوم سكتّم حين كان المالكي ينتهك الدستور لأن انتهاك الدستور كان حينها من أجل هدف ترضون عنه، وسكتم حين قصف المدينة لأن المذبحة كانت موجهة ضد خصومكم في الرأي وفضلتم الصمت حين كان وزير الدفاع يخوّف الشعب العراقي بالقراصنة إن لم يوافقوا على المعاهدة، وتركتم القضاء حين كانت الحكومة تتجاهل أوامر التوقيف التي يصدرها بحق جلاوزتها المتهمين بحرق المنازل، ولم تفتحوا فمكم دفاعاً عن القانون حين قالت الحكومة أنها اعدمت 200 شخص بعد محاكمات سرية لم يسمع بها أحد، لأنكم قدرتم أن من أعدم ليس منكم....وهكذا "أدخلتم كل زناة الأرض" إلى دولة القانون ....وتطالبونها اليوم بالوقوف بوجه البعث!

لذلك فالبعث قادم، وأنتم من عبّد له الطريق بفرض الكذب والإرهاب أسلوباً في الحوار واتخاذ القرار، ونشر الإحباط والخضوع في الشعب العراقي لأجل تمرير معاهدتكم... لذلك اهتف مع مظفر النواب أنني "لا استثني منكم أحداً"!


(1) قسطنطين كافافي .. البرابرة
http://www.alhafh.com/web/ID-370.html
(2) الجزء 1 - قصة مدينتين مع -الحرس القومي-: سوابق امريكية في إعادة الجلادين الى السلطة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=108052 
(3) الجزء الثاني - قصة مدينتين و-الحرس القومي-: سوابق امريكية في إعادة الجلادين الى السلطة
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=108161
(4) الإتفاقية الأمريكية العراقية : وزير الخارجية وقضية لا تجد سوى الكذب للدفاع عنها
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/29usa.htm
(5) كيف دافع المؤيدين الخجولين عن معاهدة مخجلة؟
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/5usa.htm 
(6) متى يعترض عادل عبد المهدي ومتى يقبل؟
http://al-nnas.com/ARTICLE/SKHalil/20usa.htm
 



8 تموز 2009

 

free web counter