| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. صادق أطيمش

 

 

 

الخميس 26/11/ 2009



بصحتك يا وطن ...
(3)
المتنبي شامخاً

د. صادق إطيمش

كان الألم شديداً جداً حينما زرت شارع المتنبي ، شارع الثقافة العراقية ، قبل سنتين ووجدته لا زال يئن تحت ضربات الإرهابين التي أتت على بعض واجهاته ولم تترك عليها إلا سواد وجوههم وبصمات حقدهم على هذا المعلم الثقافي الذي تحول انينه إلى أصوات هادرة تهد مضاجع ألقتلة وتنغص حياة المجرمين الذين تجرأوا محاولين النيل من الثقافة العراقية من خلال النيل من رمزها وما يلفه هذا الرمز من ينابيع الفكر وموارد العطاء.
وكانت الفرحة عارمة جداً حينما اتيته بعد سنتين لآراه وقد أزال سواد الجريمة من على محياه ليبدو مشرقاً زاهياً بكل ما فيه من فسيفساء الفكر والفن والأدب وبكل ما يتحرك فيه من الكتب والصور والقرطاسية والصحف والأقلام والناس وآلات التصوير ، حتى الأوراق النقدية تبدو زاهية ضاحكة فرِحة حينما تُغير مالكها كبديل لكتاب أو مجلة وكأنها تسعى بنفسها إلى ذلك . وعلى شاطئ دجلة يشمخ بالإباء الذي عُرِف به صاحب هذا اليم الثقافي رافعاً يده وكأنه يردد اليوم كما ردد بالأمس ويهتف بزائريه مرفوع الرأس قوي الشكيمة :

أنا ألذي نظر ألأعمى إلى أدبي        وأسمعت كلماتي مَن به صمم

وتسمع المتنبي وترى قامته الباسقة وكأنها تُشرف بكل دقة وثبات على ما يدور بين تجمعات زائريه على إمتداد السوق ، في الوقت الذي لا يتوانى به هذا الطود الشامخ عن مشاركة جالسيه على النهر تحت السرادق التي أعدها لهم بكل ما تجود به مجالسهم من طرب وغناء وأدب ونقاش وشعر وموسيقى .
ما أروع عازف السنطور الذي تناغمت ألحانه مع نسائم دجلة في صباح يوم الجمعة مرددة أنشودة يا جارة الوادي التي أجاد أداءها شيخ في العقد السادس أو السابع من العمر بحنجرة لم تعرف كلل السنين وبثبات عراقي أصيل يسحق رأس ألإرهاب والإرهابيين ويتحدى بكل ما في دجلة من بأس وما في المتنبي من شكيمة كل جرذان البعثفاشية الحاقدة وخفافيش ظلام التخلف الفكري والتحجر العقلي ، أعداء الفن والعلم والأدب والموسيقى والتمثيل والغناء .
الحياة التي يمنحها المتنبي لزائريه لها نكهة خاصة لا تكاد تستنشق عبيرها لأول مرة حتى تُصاب بالإدمان على الإلتصاق بهذه النكهة ، لا تفارقها حتى يخالجك شعور المواصلة في اليوم التالي أو في الجمعة القادمة على أبعد تقدير ، فللجمعة بدورها وقع خاص في مجالس أبي الطيب . الجمعة التي تتزاحم فيها الكتب والمجلات والصور على ارضية الشارع وتفرش الأرض للزائرين لكي يدلو كل بدلوه حول هذا الكتاب او تلك المجلة ولكي يتشعب الحديث إلى السياسة والفن والأدب وكأن المتحدثين ينتظرون هذا اليوم لا بل ويتهيأون له لإبداء هذا الرأي وتسجيل تلك الملاحظة ونقد ذلك الموقف ، هذه الممارسات التي يمكن إعتبارها عادية تماماً في حياة إنسان القرن الحادي والعشرين . إلا أن البعثفاشية المقيتة التي ظلت تحاسب الفرد العراقي على شهيقه وزفيره لم تحرم هذا الإنسان من هذه الممارسات فحسب ، بل وجعلته يخشى ظله ويتحاشى الكلام مع نفسه إن تجاوز على مشاعره يوماً ما وفكر بما لا يريد أن يسمعه الدكتاتور ولا يقع في نطاق المسموح به في عرف همجية الدكتاتورية الحاكمة . الجمعة التي تتزاحم فيها الأحداث في شارع المتنبي بحيث لا يستطيع المرء ان يُشبِع كل رغباته مما يجري في هذا اليم المائج الهائج . فدار المدى في شارع المتنبي تعلن عن إحتفالية لتكريم الفنانة الراحلة زينب من خلال فتح أبواب هذه الدار لإستقبال الضيوف الذين ملأوا قاعة المحاضرة دون أن تتأثر حلقة رواد الكافتريا الشرقية على بساطهم الذي توسطه عازف العود بدندناته الخفيفة . ولم يتوقف الباحثون عن هذا الكتاب أو تلك المجلة عن مواصلة التنقيب بين الرفوف المتراصة على قاعات دار المدى والتي حوت كل ما لذ وطاب . الجمعة في شارع المتنبي التي يعيش فيها المرء الظاهرة الوحيدة في العالم لشراء الكتب بالمزاد الذي إبتكره صاحب مكتبة الشطري ، نعيم الشطري ، والذي يعلن عنه في كل جمعة وبصوته الجهوري متغنياً بأشعار الكتاب .....وخير جليس في الزمان كتاب . أو بعشق بغداد ....
حييت نبعك عن بعد فحييني            يا دجلة الخير يا أم البساتين

أو التغني برواد الفكر والثقافة الذين ضحوا بانفسهم في سبيل نهضة الثقافة وسمو الأفكار الحرة :

سلام على جاعلين الحتوف           جسراً إلى الموكب العابر

هذا التراث العراقي الأصيل ، المتنبي وشارعه العتيد سيظلان رمزاً لثقافة وشموخ وإصرار الإنسان العراقي الجديد الذي لم يستطع الإرهاب البعثفاشي أن ينال منه رغم أربعة عقود من الجور والظلم والملاحقات والسجون والإعدامات التي مارسها الحكم المقبور طيلة تسلطه على رقاب الناس وعبثه بأمر البلاد .
كما أنهما سيظلان الشوكة الدامية في عين الإرهاب الأسود مهما كان مصدره وكيفما كانت الشعارات الكاذبة التي يتستر خلفها قومية كانت أم دينية ، إذ ان الثقافة التي تشع من شارع المتنبي ، ثقافة التنوير والعطاء والحب والأخاء كفيلة بردم هذه المستنقعات الآسنة ، مستنقعات الإرهاب والتسلط والقمع .


 

¤ بصحتك يا وطن ...(2) إشكالات علاقة الدين بالدولة
¤ بصحتك يا وطن ... (1) طيبُ العِناق

 

 

free web counter