| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سهر العامري

 

 

 

 

الجمعة 13 /10/ 2006

 

 

الشاعر الشيوعي ، يوسف أتيلا  József Attila

( 3 )

 

سهر العامري

مرت السنة العشرون من عمر الشاعر يوسف أتيلا عليه ، وهو طالب في جامعة فينا ، ويبدو أن هناك ثلاثة عوامل دفعت به للرحيل لها ، يأتي في المقدمة منها قرار فصله من جامعة ( Szeged ) ، بينما كان العامل الثاني هو إجادة الشاعر للغة الألمانية التي هي اللغة الرسمية السائدة في النمسا ، أما العمل الثالث فهو قرب العاصمة الهنغارية ، بودابست ، من العاصمة النمساوية ، فينا ، حتى لكأن المسافر من احدهما الى الأخرى يسير في دولة واحدة ، وليس في دولتين اثنتين ، فالمسافة بين العاصمتين لا تأخذ من وقت المسافر ذاك أكثر من ثلاث ساعات بقطار يسير بين مروج سندسية ، غناء ، تسير أنى سار ذلك القطار ، تراها حيثما طاف بصرك ، وامتدت العيون منك الى الأفق البعيد .
ولكن الشاعر حين حل تلك الديار حلها وهو على شظف في العيش ، وحال بائسة في نبذ قاس تعرض لها طوال العشرين سنة من عمره ، كللت بطرده من الدراسة في الجامعة تلك ، لا لشيء إلا لأن كتب قصيدة ترجم فيها صدق مشاعره الجياشة ، وحرارة معاناته المستعرة ، تلك المعاناة التي تواصل على مدى سنوات طوال ، رأى فيها ما رأى من عذاب متصل ، وهو ما زال طفلا يحبو ، وفي جريمة لم يرتكبها هو على ما يراه الشاعر الفيلسوف ، أبو العلاء المعري ، في بيته الذي خطه على قبره ، والذي ظل على مدى تراكض السنون شاهدا على تلك الجريمة التي ادعاها هو :
( هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد )
فيوسف أتيلا ما كان ليكذب حين قال في قصيدته : قلب نظيف ، إنه لا يملك ما يملكه غيره من الناس ، يعيش في بحر من الحرمان ، تلاطمت أمواجه العاتية إمعانا في تعذيبه ، فبات على الطوى أياما دون أن يذوق فيها طعم الخبز ، ولكنه ، مع ذلك ، ظل متماسكا ، ولم تبلغ به الثورة ما بلغته من أبي العلاء المعري حين ضاق العيش عليه ، وانحبس الرزق عنه ، فقال :
                 إذا كان لا يحظى برزقك عاقل              وترزق مجنونا وترزق أحمقا
                 فلا ذنب يا رب السماء على امرئ          رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا

يستمر الشاعر في عرض تراجيديا حياته تلك ، فيقول : ( بعد أن سمع عميد الكلية : Antal Lábán من أنني أبيع الجرائد خارج مطعم ( Rathus Keller ) من العاصمة ، فينا ، وضع حدا لذلك عن طريق تقديم ثلاثة وجبات غذائية ، مجانية لي في اليوم الواحد ، ومن مطعم الكلية ذاتها ، وزاد على ذلك في أنه هيأ لي فرصة تعليم طالبين أخوين ، هما ولدا : Zoltán Hajdu الذي كان يشغل المدير العام للمصرف الانجليزي النمساوي ) . ويضيف : ( من فينا ، حيث سكني الرهيب الذي أمضيت فيه أربعة أشهر دون غطاء يغطيني ، وصلت مباشرة الى قصر : Hatvan كضيف عند أسرة : Värdinna، زوجة :Albert Hirsch التي زودتني باجرة السفر ، وذلك حين عزمت على الرحيل الى باريس في نهاية صيف تلك السنة ، وحال وصولي لها سجلت نفسي كطالب في جامعة " السوربون " ) من باريس ، تلك المدينة التي قرأ فيها الشاعر نفسه الفلسفة عند هيجل ، ثم انتقل الى دراسة يساره ، فاعتنق الفكر الماركسي ، وهذا قبل أن يضم هو الى الحزب الشيوعي المجري . أما في الأدب فقد تعرف هناك على المذهب السوريالي الفرنسي ، ويبدو أن قصائده الشعرية التي كتبها على هدي من هذا المذهب ، وباللغة الفرنسية ، صارت تقرأها الناس على صفحات بعض المجلات الفرنسية هذه المرة .
بعد أن أمضى الشاعر سنة دراسية واحدة في باريس قضى صيفها في قرية صيد سمك تقع في الساحل الجنوبي من فرنسا ، عاد الى بودابست ، ليسجل نفسه في الجامعة من جديد ، ورغم أنه أكمل فيها فصلين دراسيين إلا أنه لم ينجز امتحان التخرج ليصبح مدرسا ، مثلما كان يرغب ، والسب في ذلك كما يقول هو : ( بعد تهديد البروفسور : Antal Horger لي ما كنت أظن من أنني سأحصل على عمل كمدرس . )
كان تهديد البروفسور ذلك قد جاء بعد أن نشر الشاعر قصيدته : قلب نظيف ، وهو في العشرين من عمره ، ويوم كان طالبا في جامعة ( Szeged ) ، تلك القصيدة التي يقول في بعض من أبياتها :
لا أما لي ، ولا أبا !
لا ربا لي ، ولا وطنا !
لا حبا لي ، ولا قُبلا !
لا مهدا لي ، ولا كفنا !
لم آكل لثلاث ليال ٍ
حتى لو كان المأكول قليلا !
سنوات العشرون هباء !
سأبيع سني العشرين .
إن لم يرغب أحد فيها ،
فالشيطان سيشتريها !
ويبدو أن التهديد في حرمان الشاعر من أن يكون مدرسا ظل قائما حتى بعد اغترابه ، وعودته الى المجر ثانية في صيف سنة 1928م ، قادما من مدينة الكومونة ، باريس ، محملا بالفكر الثوري بعد أن درس الفلسفة الماركسية هناك ، تلك الفلسفة التي قادته الى صفوف الحزب الشيوعي المجري السري بعد تلك العودة مباشرة طبقا لما قالت به بعض المصادر ، بينما ذكرت مصادر أخرى أن الشاعر قد انظم الى الحزب المذكور سنة 1930 م ، أي حين بلغ هو الخامسة والعشرين من العمر ، هذا في الوقت الذي حصل فيه هو على عمل في معهد التجارة الخارجية كموظف مراسل لهذا المعهد باللغة الفرنسية ، ولكنه سرعان ما ترك العمل في هذا المعهد رغم أنه ، بالإضافة الى إجادته لثلاث لغات ، يمتلك خبرة كبيرة في المراسلات التجارية باللغتين : المجرية ، والفرنسية ، ومع سرعة كبيرة في الكتابة على الآلة الكاتبة ، ومقدرة على الاختزال ، وتكنيك الطباعة ، وكان سبب وراء الترك ذاك هو أنه لم يعد يقاوم المرض الذي ألم به رغم صلابته الجسدية والعقلية ، مثلما يقول هو ، فقد أظهر الفحص الطبي أنه مصاب بإنهاك عصبي ، ولهذا قرر ترك ذلك المعهد خشية من إرهاق العمل المتواصل ، خاصة وإن المعهد المذكور كان حديث النشأة ، وهذا ما ج أن ينصرف ، بعد ذلك ، للعيش على ما توفره له كتاباته الأدبية ، قبل أن يصبح مديرا لمجلة تعنى بالنقد الأدبي تدعى ( Szép Szó ) ، ولكنه عاد وترك العمل في تلك المجلة من جديد ، وكان ذلك سنة 1936 م ، ولكنه ، رغم كل ذلك ، ظل متوقد الشاعرية ، يكتب القصيدة متى ما أشاء ، مثلما رد هو بذلك على صديقته ( Márta Vágó ) التي كانت تخشى من أنه لا يستطيع كتابة قصيدة يرحب بها بالكاتب الألماني الشهير ، والحائز على جائزة نوبل 1929 م ، ( Tomas Mann ) الذي كان في زيارة للعاصمة الهنغارية ، بودابست ، وذلك في كانون الثاني / يناير من سنة 1937 م ، وقد صدق الشاعر في رده ذلك ، رغم أن المسافة الزمنية بينه وبين الموت صارت تعد بالأشهر ، وليس بالسنوات ، فقد كتب هو قصيدة جملية بتلك المناسبة ، يقول في بعض منها ، مخاطبا الكاتب ذاك :
أنك تعرف أن الشاعر لا يكذب .
والحقيقة المتخفية لا تفي .
افصح عنها ، فهي التي تملأ العقل بالضياء .
ولهذا ، ودونهما ، الكل في ظلام .

يتبع

¤ الجزء الثاني

¤ الجزء الأول