| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

سهر العامري

 

 

 

 

الأربعاء 27 /9/ 2006

 

 

الشاعر الشيوعي ، يوسف أتيلا  József Attila

( 2 )

 

سهر العامري

كانت سنوات المدرسة الابتدائية ، التي أمضها الشاعر يوسف أتيلا خلال الحرب العالمية الأولى في مدينة بودابست ، سنوات قحط ، وقلق عاشتها أسرته المعدمة عيشة كفاف وحرمان ، هذا في وقت كانت فيه أمه تغالب مرض السرطان الذي غيبها عن يوسف بعد ذلك ، ووارها الثرى سنة 1919م ، وهو مازال بحاجة ماسة لرعايتها وحنوها ، لكن ما حدث كان على العكس من ذلك ، فقد كان يوسف على صغر سنه هو من يمد لها يد العون والمساعدة ، ما استطاع الى ذلك سبيلا .
لقد كان يبيع الماء على رواد سينما ( Világ ) ، ومثلما يكتب هو نفسه ، فقد كان يسرق الحطب ، والفحم من محطة قطارات ( Ferencváros ) ، وذلك من أجل أن يحصل على مصدر لتدفئة دارهم في تلك الأيام السود ، هذا في وقت كان يصنع فيه هو الدوارات الورقية الملونة ليبيعها هو على الأطفال الأكثر رخاء منه ، لكنه بعد هذا تحول حمال ينقل السلال والصناديق للمتسوقة من الناس ، وحين اشتد المرض بأمه عاد من جديد الى لجنة حماية الأطفال الهنغارية ، ليمضي فترة قصيرة تحت رعايتها في مدينة أخرى هي ( Monor ) . عاد هو بعدها الى بودابست ، العاصمة ، من جديد ، ليبيع الجرائد والطوابع في شوارعها ، مثلما يعمل كذلك نادلا في مقهى من مقاهي تلك المدينة تدعى ( Emke ) ، ومع ذلك فقد كان هو في هذا الوقت بالذات حريصا على مواصلة دراسته في مدارس من العاصمة ، بودابست .
بعد موت أمه عن عمر ناهز الثالثة والأربعين سنة صار زوج أخته الكبرى:Jolán ، الدكتور : Ödön Makai وصيا عليه ، ولكنه واصل هو العمل في هذه الفترة في ثلاثة قوارب بخارية ، تابعة لشركة أطلانتك للرحلات البحرية المحدودة ، وفي فصلي الربيع والصيف من السنة فقط ، وفي هذا الفترة بالذات أرسله الوصي عليه ، الدكتور : Ödön Makai ودكتور آخر يدعى : Sándor Giesswien الى أحدى المدارس الدينية التي رفضته بعد إسبوعين من الدراسة بها بسبب من أن مذهبه كان كاثوليكيا أغريقيا ، وليس روميا ، بعد ذلك انتقل الى مدرسة داخلية في مدينة ( Makó ) من جنوب شرق هنغاريا ، حيث حصل فيها على مقعد دراسي مجانا ، لكنه كان خلال فصل الصيف يلقي دروسا خصوصية في مدينة أخرى هي (Mezöhegyes ) ، تلك المدينة التي اشتهرت بتربية الخيول المنحدرة من الرس العربي ، وذلك بعد أن قامت فيها مؤسسة لتربيتها سنة 815م .
لقد كان عمل الشاعر في التدريس بما يسد به جوعه من أكل ، وما يوفر له قسطا من راحة في نوم ، ورغم ذلك فقد استطاع هو خلال هذه الفترة من اجتياز الصف السادس الثانوي ، وبدرجات نجاح عالية في كل المواد الدراسية ، ولكنه في نفس الوقت ، ونتيجة لنضوجه في السن ، وإحساسه بما يلاقيه من جشوبة العيش ، ومن تعب الكدح ، حاول الانتحار غير ما مرة .
في هذا الظرف العصيب ، وفي هذه المأساة المتواصلة ، ومن قلب المعاناة الثقيلة ، واشتداد البلوى ولدت القصيدة الأولى ، وكان الشاعر ساعتها قد بلغ سن السابعة عشرة من العمر ، وقد ظهرت تلك القصيدة ، التي أعلنت عن ولادة شاعر تقاتله ساعات من زمان جائر ، على صفحات جريدة ( Nyugat ) الصادر في العاصمة بودابست . ( لقد أُعتبرتُ الطفل المعجزة ، وما أنا إلا طفل فاقد الأبوين لا غير. ) هكذا كتب الشاعر عن نفسه بعد أن فاجأ الجميع بولادة قصيدة المعاناة تلك .
غادر يوسف أتيلا المدرسة الداخلية في مدينة (Mezöhegyes ) بعد أن أنهى الدراسة في الصف السادس منها ، ليعمل في مدينة أخرى هي ( Kiszombor ) فلاحا أجيرا ، وحارسا في مزارع الذرة ، ومعلما خاصا ، ثم قرر ، بعد ذلك ، أن يواصل دراسته في الصف السابع والثامن ، وفي وقت واحد ، وقد استطاع أن ينجز الدراسة فيهما بفارق سنة عن أقرانه السابقين من الطلاب ، وفي هذا الوقت بالذات حُوكم بسبب من قصيدة قالها ، وبزعم من أنه جذف فيها على الرب ، لكنه بُرئ أخيرا من تلك التهمة ، وبأمر من السلطات العليا .
بعد ذلك صار الشاعر بائعا للكتب في العاصمة بودابست ، ثم موظفا في أحد المصارف الخاصة الذي عانى فيه من نقص في حماسته للعمل بسبب من أن الموظفين الأكبر منه في السن كانوا يجبرونه على إنجاز جزء من أعمالهم هم ، وفي نفس الوقت الذي يؤدي فيه عمله هو ، كما كانوا لا يتركون فرصة تمر من دون أن يحطوا من شخصيته لما تنشره الجرائد من قصائد له ، كان يكتبها في هذا الوقت ، فالعديد من أولئك الموظفين كان يردد : ( إن الإفلاس سينزل بالمصرف سريعا )
ولهذه الأسباب قرر هو ترك العمل في هذا المصرف ، مثلما قرر أن ينصرف الى الكتابة ، وأن يجد في البحث عن مهنة ترتبطه بالأدب ، فلطالما كانت أمنيته هي أن يصبح مدرسا ، ومن أجل ذلك فقد سجل نفسه في قسم الإنسانيات من جامعة (Szeged) ، ليدرس الأدب الفرنسي والهنغاري بالإضافة الى الفلسفة .
لقد درس الشاعر اثنتين وخمسين ساعة في الأسبوع الواحد في تلك الجامعة ، وقد استطاع أن يجتاز امتحان تلك السنة بدرجة امتياز رغم أنه كان يأكل حين تكون لديه مقدرة على شراء الطعام ، بينما كان يدفع أجرة منامه من مردود بيع قصائده الى الصحف والمجلات .
( كنت فخورا جدا حين أوضح البروفسور : Lajos Dézsi من أنني أستطيع أن أزاول البحث مستقلا بنفسي ) هكذا كتب الشاعر عن تقدير استاذ له في السنة الأولى من الجامعة .
لكنه فقد الرغبة في الدراسة حينما استدعاه استاذ فقه اللغة الهنغارية في الجامعة نفسها ، البروفسور : Antal Horger ، وذلك بعد أن نشرت مجلة تصدر باسم تلك الجامعة قصيدته : مع قلب نظيف ، وفي حضور شاهدين صارا فيما بعد مدرسين ، ليقول له : على مدى وجوده كإستاذ في تلك الجامعة فإنه لن يسمح له أن يكون مدرسا ، قال ذلك وقد رفع عددا من مجلة ( Szeged ) بيده ، فإنسان يكتب مثل هذه القصيدة لا يمكن أن يؤتمن على تربية جيل قادم .
( يمكن للمرء أن يقول أن ذاك كان من سخرية القدر ، أفي مثل هذا المكان حقا يُقال مثل هذا الكلام ؟ فقصيدتي : مع قلب نظيف ، ذاع صيتها بين الناس ، وقد صارت في الوقت ذاته مادة لسبع مقالات نقدية ، ومرات عديدة وصفها البروفسور Lajos Hatvany : من أنها وثيقة لجيل ما بعد الحرب ، وعنها كتب Ignotus في جريد ( Nyugat ) : بروحه هز ، وداعب ، وناغم ، وغنى تلك القصيدة الرائعة والجميلة . )
هذا بعض مما رد به الشاعر على حرمانه من مواصلة دراسته الجامعية بعد أن حطمت حملة رايات الفكر الرجعي آماله في أن يصبح مدرسا يوما ما ، وبسبب من قصيدة اعتبرها الكثيرون أنها طلائع الشعر الهنغاري الحديث ، ومع كل هذا الشقاء والآم واصل الشاعر الفقير كفاحه بعد أن حل الآن السنة العشرين من عمره ، وبعد أن عقد العزم على هجر المجر ميمما وجهه صوب العاصمة النمساوية ، فينا ، ليدخل في إحدى جامعاتها ، معتاشا على ما يبيع من جرائد يومية خارج مطعم : Rathhaus Keller ، أو على عمله في تنظيف بعض المحلات .

يتبع

¤ الجزء الأول