|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس 8  / 9 / 2016                                أ.د. سيار الجميل                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

تشكيل الشخصيّة العراقيّة
دراسة في سوسيولوجية وسايكلوجية المجتمع العراقي المعاصر
الحلقة الثانية : العراقيون وصناعة البؤس العراقي

أ. د. سيّار الجَميل *
(موقع الناس)

فنتازيا البؤس العراقي

لقد تنقلت بوهيميا الخراب معي في اماكن عدة ، وتجدنى طورا اتوقف لأتأمل سلاسل الاحداث فيها ، وطورا افكرّ مليا في عمق تلك الاحداث وتداعياتها ، خصوصا وانها تحكي ، كما استطيع تسميتها بفنتازيا تؤرخ للبؤس العراقي .. وهو بؤس لم يشق بمثله أي شعب من الشعوب ، ولم يعان منه أي مجتمع من المجتمعات ! وبالرغم من كل ما لديّ من رؤى وافكار حول " النص " ، الا أنني ساختزل ما يمكنني تسجيله حول فلسفة صلاح صلاح للخراب الكلي الذي اصاب العراق والعراقيين منذ عقود طوال من الزمن الصعب ، ان بوهيميا الخراب تمثل باختزال تلك الشخصية غريبة الاطوار والتي نضجت في ذلك الفضاء المخيف للعراق ليس فقط حيث بعقوبة او بغداد او غيرهما ، او دجلة ومتفرعاته الشرقية حسب ، بقدر ما تعنى بالانسان في قلب وادي الرافدين ومتفرعاته ، وما حل عليه من تداعيات مريرة ، لم يشهدها أي انسان على وجه الارض .. وبوهيميا الخراب تجسّد صورة البؤس الذي كان ولم يزل يخّيم على العراق واهله الذين يتمتعون بقدر كبير من الصبر على الاذى ، وقدر كبير من الاستجابة للتحديات المريرة ، ولكن بنفس الوقت ستثير التساؤلات حجما واسعا من الغرابة عن هذه الشخصية العراقية التي جمعت فيها كل التناقضات الصعبة وطغت الطوالح فيها على الصوالح ، وهي من اصعب الشخصيات السايكلوجية المعقدة في هذا العالم ، بل وانها كانت هكذا او شبيهة منها عبر تواريخ مضت منذ القدم ، اذ تخبرنا مصادر التاريخ عن غرائب وعجائب قد حدثت عند العراقيين ، حكاما ومحكومين ، زعماء ونخب وفئات وجماهير ، اغنياء وفقراء ، علماء وادباء وجهلاء وبلداء ، متمدنين ومستنيرين ومتريفين قرويين .

ان بوهيميا الخراب ، تعبير فاضح لنظام الخراب الواحد والذي افنى المجتمع الجمعي وتنوعاته .. من خلال فرديته واحاديته وغطرسته وقسوته وساديته .. ولقد بدا المجتمع واحدا موحدا ، ولكنه كان يتحلل ويهترئ في الخفاء .. كان الرعب سيدا للموقف ، وهو الذي وحّد المجتمع في العلن ، ولكنه نخره من الدواخل نخرا في كل اجزائه ، فغابت الصراحة والانفتاح والطيبة والمثل العليا والقيم الاجتماعية الرصينة والتقاليد والاعراف الجميلة ، وغدا الانسان مريضا ومعقدا ومتلونا ومنافقا ودجالا وخداعا ومناورا وكاذبا والعوبانا ومخبولا .. او جعله مسحوقا ومهترءا ومهزوزا وخائفا ومرعوبا ومشوها ويتعامل بعدة اقنعة .. وثمة من ابواق تنفخ وتزعق ليل نهار .. او شرطة سرية ، او جواسيس ورقباء وكتبة تقارير ورجال مسالخ وأمن ومخابرات وميليشاويات رسمية بدءا برجال الامن العام والشرطة السرية وانتقالا الى المقاومة الشعبية الى الحرس القومي ، ثم الجيش الشعبي الى اشبال صدام وانتهاء بالحشد الشعبي والمليشيات الطائفية وهلم جرا .. ولم يقتصر الامر على اناس عاديين ، بل شمل الامر حتى ابناء النخب من اطباء وشعراء ومهندسين واساتذة جامعات وضباط ومعلمين وموظفين .. الخ بقدر ما نجد من اناس بمنتهى الطيبة والعطاء والكرم والمحبة وروعة الصداقة .. ستجد اناسا بمنتهى البشاعة والاذى والضرر والحقد وقلة الذوق والركض وراء المصالح الانوية والشخصية .. بقدر ما تجد مناطق وجهويات عراقية فسيحة فيها كل الايجابيات والاخلاق الطيبة والمثاليات التي لم تعد الا مثالا للتندر والسخرية .. ستجد مناطق وجهات اخرى لا تعرف فيها الا السلبيات ..

ولعل اصعب حالة في مجتمع واحد يسكن في بلد واحد ان تجد من العراقيين يكره عراقيين آخرين كراهية عمياء .. او ان تجد مجتمعا كاملا يظهر عكس ما يبطن .. او ان تجد مجتمعا كاملا يتقلب بكامل هويته وامزجته وعقائده والوانه وحتى ثقافته بين الازمنة ، ويتلون بالوان شتى بين عهد وعهد آخر .. حكت لي احدى المثقفات العراقيات اليساريات عن بلدتها التي عاشت فيها طفولتها ، وكيف كانت تعامل المرأة من قبل ابيها او اخوتها .. وكم قتلت شابات عراقيات بمباركة امهاتهن بمجرد وشاية من الوشايات ، وكم ديس على كرامتها ، وسلبت حقوقها ليس من قبل الدولة ، بل من قبل المجتمع نفسه .

وثيقة تاريخية عن بئس سايكلوجية مجتمع لم يتخلص من امراضه
ستغدو بوهيميا الخراب وثيقة تاريخية فهي بمثابة تسجيل لزمن آني عبرت عنها حالات كانت نادرة الحدوث قبل ازمنة مضت ، وغدت عادية اليوم في حياتنا العراقية ، فهي تعبير سايكلوجي عن المشاعر التي باتت ملتبسة وهي تحمل مظاهر القسوة البشعة بابعد صورها ، خصوصا وانها حولّت الانسان من الاعلى نحو الادنى ، وغدا مجرد آلة ليس لها الا بوقها حتى تنكسر ، فيرمى في سلة المهملات من دون اي شعور بالذنب ، وقد اكتسحت حياتنا جملة من الاخلاقيات الرديئة التي لا تراعي اية مشاعر ، ولم تحترم اية احلام ، ولم تسع لتحقيق اية آمال .. وقد استلبت حريته .. وقد عدّت كل القيم الانسانية عبارة عن اشياء تافهة .. لقد تيبسّت حقوق الانسان بتأثير الحروب البشعة والسلطات القهرية والحصارات الاليمة .. وماتت معها قيم الصداقة والعلاقات القيمية الحقيقية ، وعمّت النذالة حتى لدى اولئك الذين يحملون شهادت عليا ويعدون انفسهم من النخب العليا .. واجدهم وقد استخدموا جملة من الاقنعة ، اذ يلبسون في كل يوم قناعا معينا ، ناهيكم عما فعله الكبت في سايكلوجيات الناس سواء كانوا من الذكور او الاناث ! واصبح أغلب العراقيين اليوم لا يعرفونك الا لقضاء مصالحهم الشخصية ، ولما تنتهي مصلحتهم معك قطعوا علاقتهم معك بمنتهى السفاهة والوقاحة .. انهم من ابعد الناس عن المثل والاخلاق العليا .

كنه الحرية ..
لقد نجحت بوهيميا الخراب في التعبير تعبيرا صارخا عن كنه الحرية التي افتقدت في العراق خلال مرحلة اشتعل فيها العراق باقسى حرب خاضها العراقيون وتسلط اقسى سلطة استبدادية في حياته ، وقد قادت الظروف بطبيعة الحال الى انهيارات سايكلوجية مريرة ، وسادت حالات كبت المشاعر ، وافضت الى ابشع حالات الفوضى والهمجية ، وتحول البشر الى مجموعة من الحيوانات التي تستخدم المراوغة والخيانة والنذالة والدعارة والاكاذيب والسكوت عن الحقوق وعن سفك الدماء وعن التعذيب وعن هتك الاعراض وكل المفاسد الناتجة عن ذلك من تزوير وتشويه وتلفيق وكراهية وجلافة لسان وحماقات بليدة وشتائم مقذعة وتشويه سمعة الاخرين والايذاء بسبب او من دون سبب لاذلال الضعفاء ، والضعيف عند العراقيين هو صاحب السلوك القويم ، مما يجعله يمارس السادية بابشع صورها ، ويلتذ بها ، بل ويتشفى بنكبات الاخرين حتى وان لم يعرفهم .. اما امام القوي والشقي والمتسلط والمتنفذ ، فيمارس المازوخية بأغرب صورها ، فيذل نفسه ويستصغرها ، ويغدو تافها من اجل مأرب او غاية او مصالح .. ان الامراض السلوكية تبدو مزدحمة في سايكلوجيات من ازدوجت ثقافتهم من مكان الى آخر ، او من طبيعة الى اخرى ، او من طائفة الى أخرى ، واعتقد جازما ان امراض المجتمع قد انعكست تعابيرها على السياسات التي مورست في العراق منذ عقود طويلة من السنين .. والتعبير عن الفوضى البشعة باسم الحرية الخ من الصفات الذميمة .

بالقدر الذي تمثله هذه الرواية من نزوع إلى الحرية، فإنها أيضاً عبارة عن صرخة مدوية بوجه مرحلة قاسية من حرب العراق وايران ابان عقد الثمانينيات التي خربت النفوس وزرعت فيهم التفاهات واضاعت عندهم المقاييس وخلطت من خلالها الناس الذين انهارت قيمهم وانسحقت اخلاقياتهم ، واصبح كل شيء تافها وبلا معنى . واعتقد تاريخيا ان المجتمع العراقي قد عبّر عن منتهى فوضويته باسم الحريات والقيم النبيلة كذبا وبهتانا في احداث ووقائع لا تعد ولا تحصى ابان القرن العشرين ، فاذا كان التسلط هو بيضة القبان في ابقاء المجتمع يعيش مكبوتا بكل جروحه وقروحه الداخلية وهو يظهر امام العالم بلدا موحدا وقويا ، بل واشيع بأنه من البلدان المتقدمة ( كذا ) ، ولكن بانت حقيقته وانفضح كل شيئ فيه اثر انفلات فوضويته المريرة جرى بعد العام 2003 ليدخل مرحلة مفككة مبعثرة متشرذمة بعد مرحلة الازمنة المرعبة التي كان يخشى فيها من خياله .. فانقلب الحمل الوديع كما كان يبدو الى حيوان متوحش يظهر كل ما في دواخله من سيئات .

وتدور الاحداث الصعبة في العراق لتجسّم الشخصية العراقية ، وتحديدا في توصيف فترة اجتياح الكويت وزمن الحصار الاقتصادي على العراقيين ، حيث افتقدت الادوية والغذاء والحاجات الاساسية للانسان الذي تحطّمت معنوياته وانكسرت خواطره ، وغدا ذليلا ، ولم يعد يشغل باله الا سدّ رمقه مع انعدام الكهرباء في عموم العراق باستثناء العاصمة بغداد التي بقيت منيرة ، ونال الاطفال نصيبهم من جحيم الحياة ، ولم يعد يشغل بال العراقيين مستقبلهم عندما غابت حتى اقلام الرصاص ليتعلم اولادهم وبناتهم القراءة والكتابة .. وانسد العالم بوجوههم ولم يعد يعرفوا من العالم شيئا ، اذ حوصروا اعلاميا وثقافيا بقوة السلطة والخوف من عقوباتها ، اذ كان الحصار قد دمّر مجتمع العراق ثقافيا ، وانسحق كل المثقفين العراقيين ودمرت سايكلوجيات الادباء والمبدعين ، كما انتهكت العلاقات الاجتماعية في بنية المجتمع انتهاكات مريرة جراء فساد العلاقات واستغلال ذوي النفوس الضعيفة للموقف الشاحب ، وسيطر الخوف على الناس ، وكلما تقدم الزمن كان الخوف يتحول الى فوبيا مرعبة ، بل ويتحّول سايكلوجيا تحت مسميات شتى الى شخصية متعددة الاشكال ، ومستترة الاغراض ، اذ تمت اوسخ الساديات والمازوخيات في عمليات تفريخ الجواسيس والمخبرين وكتّاب التقارير الحزبية ، وتجييش المصفقين .. من اجل عبادة " البطل " ، او تقديس " الحزب " ، او تأليه " المرجع " ، او تمييز " الطائفة " ، او الهذيان بـ " الشعارات " .. ، فتفكك نسيج المجتمع بصورة لا يمكن تخيلها جراء القمع والاضطهاد الذي لم يجد الناس مهربا الا الدين الذي غدا بديلا او مهربا بعيدا عن الرؤية والتفكير في أساليب العصر والتمدن ، ولما كان الدين لا يحمي ابدا منظومة الاخلاق المدنية التي تمّ توظيفها لدى اجيال سابقة ، فان المناداة بشريعة السلف اصبحت بديلا عن قوانين هذا العصر ، فكان ان انحدر المجتمع انحدارا سريعا نحو قيعان ومستنقعات لا يحيا فيها الا بعض المتوهمين الغاطسين في اعماق من البوهيميا والضياع والاوهام والمؤمنين بالخزعبلات واخذوا يمارسونها باساليب متعصبة مغالية جهويا وطائفيا ..
 

انتظروا الحلقة الثالثة

لندن في 3 سبتمبر / ايلول 2016


نشرت في 1 آب / اغسطس 2016 في صحيفة أكد AKKAD ، تورنتو – كندا وعلى موقع الدكتور سيار الجميل
 

* مؤرخ عراقي
 


 


 





 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter