|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس 8  / 9 / 2016                                أ.د. سيار الجميل                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

تشكيل الشخصيّة العراقيّة
دراسة في سوسيولوجية وسايكلوجية المجتمع العراقي المعاصر
الحلقة الاولى : المقدمات

أ. د. سيّار الجَميل *
(موقع الناس)

كم هي الحاجة ملحة اليوم من اجل الشروع بدراسة مظاهر ومخفيات الشخصية العراقية وتشكيلها الصعب ، وتفكيك بنيتها ، واستبطان مضامينها ورصد طبيعتها ومقارنتها مع تلك الشخصية العراقية التاريخية التي تمتع به المجتمع العراقي في ازمنة سابقة ؟ ما مدى قوة الوعي الجمعي بهول التحولات الضارة التي اصابت الشخصية العراقية ؟ وما مدى حجم الادراك العلمي بكل المثالب التي اصيبت بها الشخصية العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين ؟ وما دلالات ذلك ؟ ما حجم الامراض والاوبئة النفسية التي ابتلى بها المجتمع العراقي الذي زادت انقساماته ، وتجذرت اسقامه ، وتفككت اواصره .. حتى بات خرابا ، وقد كسي بالمفاسد وغلبت عليه التفاهات بعدما كان يتمتع بسمعة طيبة في كل اصقاع المنطقة ؟ دعونا في هذا " المشروع " ان نقدّم معالجات معمقة عنه ، وان نحلل سايكلوجياته المتنوعة والتي زخرت بعادات وحالات قلما وجدت في بيئات اجتماعية اخرى في العالم .. ناهيكم عن درس مقارن لما هو سالب وضار للمجتمع ، ولما هو ايجابي وبار بالمجتمع .. وسيجد القارئ الكريم انني ساقدم بعض العلاجات والمقترحات التي يمكن ان يستفيد منها العراقيون في اعادة بناء مجتمعهم وعلاقاتهم الاجتماعية على احسن ما يكون .. كنت افكّر في مثل هذا " المشروع " ، وقد طلبه مني بعض الاصدقاء ، ومنهم الاخ الاستاذ اكرم سليم ليكون على شكل حلقات .. ومن ثم اخرجه ككتاب في قابل الايام . دعوني اكرس الحلقة الاولى لبوهيميا خراب الشخصية العراقية قبل ان ادخل في معالجات معمقة لطبيعة التناقضات الصعبة التي حفلت بها هذه الشخصية التي اثارت ولم تزل وستبقى تثير المزيد من التساؤلات والبحث عن اجوبة ومكاشفات ومقارنات ..

بوهيميا الخراب : فنتازيا تاريخية للبؤس العراقي
اهداني الصديق الروائي العراقي المغترب صلاح صلاح روايتيه " تحت سماء الكلاب " ( صدرت 2005 ) و " بوهيميا الخراب " ( صدرت 2009) منذ خمس سنوات ، وقد وعدته ان اسجل رؤيتي النقدية عنهما مذ يتسنّى الوقت عندي لقراءتهما .. والاخ صلاح اديب عراقي اغترب عن ترابه واهله سنوات طوال ، فهو مغترب في كندا منذ زمن طويل . وعليه ، فانه كان متحررا من قيود التفكير المغلق ، فكان من الطبيعي ، أن تأتي رواياته وأعماله ناضجة تماما ، وصريحة ، ومباشرة من دون اخفاق ، او اخفاء للاشياء ، او نفاق ، وقد قاربت الحقائق من المكان : التراب والماء بشكل خاص .

لا اريد ان اكون ناقدا لسرديات الرواية وبنيتها الفنية ودلالاتها واشاراتها وشكلياتها ، بقدر ما يستوجب مني استنباط روحها بتصنيف معانيها القريبة والبعيدة ، كونها وثيقة تاريخية ينبغي الوقوف عندها وتحليل احداثها والربط التاريخي بين ما كان عليه المجتمع العراقي وما آل اليه اليوم .. وما تأثير بوهيميا الخراب على تدميره الذي يحصل اليوم ؟ وسوف لا احاسب النص على ما ورد فيه من اخطاء طباعية ، واعذر المؤلف من ذلك ، اذ كان على غرار بقية المؤلفين اليوم يعتمدون على ناشرين لا يحترمون الاعمال التي ينشرونها على الناس وهي حافلة باخطائها من دون اي تصويب لها ! وثمة امر آخر ، لا يمكنني معالجته لاحترامي فسحة الحرية التي يتمتع بها صلاح صلاح ، فالرجل كتب النص في مكان ما من وراء البحار ، ولم يكتبه من داخل العراق . (بوهيميا الخراب) التي سرد فيها صاحبها سيرته الذاتية ووظفها بالاسماء الحقيقية والذكريات المؤلمة ، صدرت عن دار التنوير اللبنانية للطباعة والنشر، تقع الرواية في 477 صفحة من القطع المتوسط .. ودعوني افتتح هذا " المشروع " في محاولة لسبر اغوار الشخصية العراقية من خلال قراءة معاني "بوهيميا الخراب ".

ان " بوهيميا الخراب " لم يستخدمها المؤلف بمعناها اللغوي فالبوهيمي هو الأفّاق المتشرد المترحّل، واعتقد ان صلاح صلاح قد عني بها ما حل من خراب في السلوكيات العراقية للافراد او في الجماعات الذين تفاقم امر انتشارهم بعد ان تورموا وانتفخوا لينتجوا بشرا عراقيا لا يمكننا معرفته ولا يمكننا كعراقيين التعامل معه كونه كان ولم يزل ينخر العراق ويدمّره .. وعليه ، فانني اعتقد ان البوهيميا قادت الى خراب العراق .

ولادة هستيريا التناقضات العجيبة
ان المؤلف نفسه هو نتاج حقيقي لتاريخ اجتماعي بائس اودى به تاريخ سياسي لعين ، فولادته كانت في منطقة البتاويين ببغداد عام 1962 لأب موظف رحل قبل ان يرى ولده الذي ولد بعد رحيل ابيه بخمسة اشهر، وقد تزوجت امه بعد ولادته بثلاثة اعوام .. هكذا ، وجد الطفل نفسه قد خلق ليدفع اثمانا صعبة في حياته .. وبالرغم من فراقه عنها بسبب زيجتها ، لكنه فقدها نهائيا بعد ، ان اعتقلها النظام السابق واعدمها بتهمة الانتماء للحركة الشيوعية، فكان ان صدم ولدها الوحيد صدمة قوية وبقي يفكر في المصير المجهول .. ويفكر بالزمن والغدر .. ويفكر بالمرأة التي قتلت .. وماذا فعلت حتى تقتل ؟ وحتى اناث الحيوانات لا يمكن قتلها ، فهي الوحيدة التي تمتلك سلاسل الحياة وولادة الاجيال جيلا بعد آخر ..

ان اضطهاد المرأة العراقية وقتلها هو جزء من ثقافة البؤس العراقي الذي شهدنا نماذج منها ليس في التواريخ القديمة او الوسطى ، بل في التواريخ الحديثة والمعاصرة ، فكم قتلت من نسوة وفتيات جراء شبهة او تهمة او حكاية تمس شرف العشيرة او العائلة ، وقد وصلت الى درجة الابادة الجمعية بقتل نسوة العائلة المالكة ولسيدة تجاوزت الثمانين من العمر ، وانتقالا الى سحل وتقطيع جسد امرأة في شارع الغزلاني بالموصل عام 1959 ومرورا باعدام شيوعيات عراقيات جراء عقيدة سياسية يؤمنّ بها وكيف فتك بهن بعد انتهاك اعراضهن من قبل اجهزة الامن والمخابرات وانتهاء بقتل مئات النسوة واعدامهن والفتك بهن من قبل عصابات وجماعات وميليشيات طائفية والتشفي بذلك تشفيا جماعيا من دون ان يتحرك الضمير العراقي .. بل وصل الامر الى استعادة ظاهرة السبي للنساء ، واغتصابهن عنوة والمتاجرة بهن ، واختيار الفتيات اليزيديات لهتك اعراضهن في ابشع الحالات التي حدثت في العراق بعيدا عن النخوة والعفة والادانة الجمعية .. ناهيكم عن السلب والنهب وافراغ مدن كاملة من سكانها الذين نزحوا او هربوا من هذا التنين المتوحش .

يقول المؤلف : " كانت المرأة هي حلمي الخرافي المجنون، اتعاطف مع المرأة حد الجنون، وأتصور ان مسألة الانسان الاول او اول صنع للانسان لم يكن آدم بل حواء ". في هذا الضياع التاريخي ، غدا المجتمع يعيش هستيريا من التناقضات العجيبة التي سببتها له عوامل متضاربة سلطوية وسياسية وتخلفية ، فهرب الى الماضي ، او هرب الى الطائفة ، او هرب الى ممارسة ادران وشقاوات بطرق ملتوية او مكشوفة ، وبات رخوا ومنه امّعا تافها ، ومنه منافقا ، ومنه لوكيا ومنه كذابا اشرا ، ومنه شريرا ، ومنه لصا ، ومنه نذلا ، ومنه ماكرا ، ومنه حاقدا ، ومنه مجرما ، ومنه ممثلا بارعا لادوار متخيلة ، اذ يعتقد بأنه الافضل على الاخرين فيبدو منفوخا على الدوام وعلى عكسه نجد شخصية من نوع آخر ، اذ يبقى معتقدا انه ضئيلا قميئا كارها حتى لنفسه ، ومنه ذاك الكاره للناجحين كبير الاذى ، ومنه متعصبا مقيتا ، .. الخ وبقدر ما نجد جملة من الطيبين والمتواضعين والانقياء والكرماء والاصفياء والنزهاء واللطفاء والذين يمدون لك يد المساعدة ، ولكن بدا واضحا ان الغلبة كانت قد حصلت للاشرار على حساب الاخيار في مجتمع تهتك علنا لاسباب مباشرة وغير مباشرة متنوعة منها سلطوية ومنها سياسية ومنها الخلطة الاجتماعية غير المدروسة ولا المتكافئة ، بل وغير المستكشفة اصلا ! – وسنحلل لاحقا اياها في حلقات قادمة - .

ان المجتمع العراقي مصاب باصابات خطيرة ، ولم يزل يعيشها حتى يومنا هذا من خلال ذاكرة جماعية بحاجة الى الالاف المؤلفة من الاطباء النفسيين ، وان ما حصل ويحصل حتى الان ما هو الا نتيجة من نتائج تحطيم المجتمع وتدميره عندما فقد المجتمع اخلاقياته العليا وسلوكياته الحضرية ، وغدا على النقيض ليغدو اليوم "مزبلة " يرعى فيها مجموعة من المجانين !

فما الذي سيبقى من هذا العالم اذن؟
سيبقى عراق بالاسم فقط ، فلا تجده الا جدثا معفرا بالتراب .. كان في يوم ما يسمى بوطن يستوطنه شعب ويتكون من مواطنين صالحين .. كان شعبا يظهر على العالم بتاريخه وعمق تراثه وحجم ضحاياه وشهدائه ياسمانه بوطنه ، ولكنه بدا على غير ذلك تماما .. وبلاد لا تجد فيها من يعمل او من يصنع او من يزرع ليكون بلدا منتجا ، فاذا بها بلاد لا تعرف الا التفسخ والكسل والجهل المطبق .. وكيان مهزوز يسمونه " دولة " لا قانون يحكمها ، ولا مؤسسات تؤدي وظائفها ، ولا الجيش يحترم تقاليده وعقيدته الوطنية ، ولا خدمات بلدية تقدم الى الناس ، ولا امن او امان تفرضه او توفره للمجتمع ، وحكام يحكمون بلا اية وطنية ولا اية خبرات ولا اية اخلاق ولا اية سلوكيات مشروعة .. شخصية المسؤول ضعيفة وتافهة وجاهلة ومراوغة ولا يتمتع بأي حياء ، ولقد توضحت صورة المسؤول في العراق على انه السارق والمجرم والمستلب الذي اتى الى السلطة من اجل نهب المال العام . ان المشكلة مضاعفة عندما نعلم بأن هؤلاء قد مارسوا كل الموبقات ، ولكن السكوت عليهم من قبل العراقيين يعد جريمة كبرى .


انتظروا الحلقة الثانيه



نشرت في 1 آب / اغسطس 2016 في صحيفة أكد AKKAD ، تورنتو – كندا وعلى موقع الدكتور سيار الجميل
 

* مؤرخ عراقي
 


 


 





 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter