|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  16  / 4 / 2015                                أ.د. سيار الجميل                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

تدميرٌ حضاريٌ أم تطهيرٌ ثقافي؟

أ. د. سيّار الجَميل


"ما يجري في العراق وسورية وغيرهما يترجم معنى الكارثة التاريخية التي حلّت بنا"

عندما وصفت المديرة العامة لليونسكو، إيرينا بوكوفا، ما يجري على يد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الموصل بأنه "تطهير ثقافي"، فقد أخطأت التقدير والتوصيف، فالثقافة لا تُطهَّر، بل تُحطَّم بأساليب متوّحشة كهذه، وربما حصل خطأ في التوصيف. ما يجري اليوم في الموصل وأنحائها تدمير حضاري منظم، والفرق كبير بين التوصيفين، فكل ما قام به هذا التنظيم من تدمير للثقافة، إنما هو سحق للمكونات الحضارية والآثار التاريخية والرموز الدينية والمأثورات والكنوز المادية، وطاول حرق الكتب العلمية والمخطوطات النادرة.

لم يتعامل التنظيم المتشدد بقسوة متناهية، مع الإنسان وحرياته وحقوقه وقيمه الثقافية والبشرية فحسب، بل بدأ بتفجير أبرز المعالم الحضارية في المدينة، والتي شملت جوامع كبيرة للأنبياء والائمة ، يونس وشيث وجرجيس ودانيال والإمام الخضر والامام يحي بن القسم وغيرهم ، وحطم نصب رموز الموصل وعمالقتها العظام امثال الشاعر ابو تمام والمؤرخ ابن الاثير والموسيقار الملا عثمان الموصلي وغيرهم .. ثم أفرغت المدينة من سكانها المسيحيين السريان واليعاقبة الأرثوذكس والكلدان الكاثوليك والنساطرة الآشوريين والأرمن، باستئصالهم والسيطرة على أموالهم وأملاكهم، بلا أي قانون أو أخلاق، والعبث بكنائسهم القديمة، وتفجير أديرتهم العريقة، فمثلاً يعود تاريخ دير مار بهنام الشهيد وأخته سارة إلى القرن الرابع للميلاد. ثم التفت التنظيم إلى المتحف الحضاري، فحطم محتوياته الفريدة وبمنتهى الانتقام، وهو ثاني أكبر متحف في العراق، ويضم كنوزاً من الموجودات الآثارية الأشورية والعربية الإسلامية، ثم طاول التنظيم المكتبات العامة والمركزية في الجامعة ومكتبة المتحف نفسه.

وسمعت أن تنظيم داعش يريد هدم قلاع الموصل الأثرية التي يعود تاريخها إلى أحقاب مضت، خصوصا المطلة على نهر دجلة، ولكل قلعة تاريخها الزاهر الذي يعتز به الموصليون، كون دفاعاتها قد خدمت آباءهم وأجدادهم ضد الهجمات والغزوات الشرسة قبل مئات السنين. وهدم التنظيم مدينة الحضر الأثرية، جنوب غرب المدينة، وحطم ما فيها من كنوز وآثار عربية عريقة، تعود إلى مملكة عربايا العربية القديمة التي كانت الحضر Hatra عاصمتها قبل الإسلام. وجاء تهديم الحضر، بعد حملات التنظيم لسحق العواصم الآشورية وتفجيرها ، وخصوصا : نمرود وخورسباد ونينوى، وكانت كل عاصمة تمثل عصراً معيناً في تاريخ الإمبراطورية الآشورية التي يمتد تحقيبها التاريخي لثلاثة عصور زمنية .

ويبدو أن هناك نهباً لمكتنزات أثرية قديمة، فمن مدينة النمرود الآشورية التي عاشت قبل ثلاثة آلاف سنة في العراق، جرى تحطيم اللقى في عملية بشعة، وصفها الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون بأنها "جريمة حرب"، وهذا ما جرى في المدن التاريخية والحضارية الأخرى. ولم تنفع أية بيانات صدرت، أو نداءات صدحت، أو تقارير كتبت، وهي تدعو المجتمع العالمي للوقوف ضد تلك الممارسات البشعة، وأن تسرع كل منظمات العالم مستجيبة للأزمة في العراق، من أجل منع الأعمال الوحشية بأي وسيلة كانت.

ان الهجمة التي تعرضت لها الموصل بالذات منظمة ومدروسة ومخطط لها، لسحق المدينة حضارياً، وتحطيم الإنسان نفسياً، وتنتشر القناعة اليوم بين الناس بأن الأمر لا يقتصر أبداً على حزمة تحديات سياسية، أو مجرد خلافات دينية أو ثقافية، بل إنها كارثة تاريخية بامتياز، تفاعلت عوامل مختلفة على إحداثها وسيرورتها وترتيبها لسنوات مضت، اذ عانت المدينة بالذات من بطشها منذ العام 2005، وشملت كل مكونات المدينة وأطرافها المزدحمة بأنواع البشر الذين كانوا متعايشين معاً على امتداد أزمنة مضت، مع تضامن ثقافاتهم في عيش مشترك قلّ نظيره.

لقد طاولت هجمة اليوم الجميع .. وهي واحدة من النتائج الكسيحة التي أثمرتها تناقضات سياسية وأيديولوجية ومذهبية وطائفية في العراق ، ليتولد هذا التنين البشع الذي أكل الأخضر واليابس، مع صمت مطبق وجهالة سادرة في غيها، وحكومات بليدة، مع انقسامات شنيعة، وصلت إلى عموم الناس. ناهيكم عن انشغال العالم بمشكلاتٍ لا حصر لها، تعم أرجاء المنطقة، علما أن الناس لم تألف مثل هذا الإعصار الذي جعلهم يواجهون الجحيم بعينه، وما زالوا يعيشونه، إذ كانوا قد عرفوا كوارث الحروب المنظمة والصراعات السياسية فقط واحترقوا بنيرانها، لكنهم، اليوم، يعانون الكارثة التي تهدد وجودهم.

فإذا كانت المدن الكبيرة قد عاشت جملة مشكلات وتحديات سياسية سابقاً، فإن الأمر اليوم لم يقتصر على تمزيقها وسحقها حضارياً، بل طاول أريافها الآمنة، بسكانها المحليين المزارعين البسطاء ، ليتمزقوا شر ممزق، وتبدأ عمليات ترحيلهم وتقتيلهم، وتشتد الوطأة على مجتمعات ريفية قديمة، كالتي يمثلها اليزيديون لتقتل رجالهم، وتسبي نساءهم، ويمتهن أطفالهم، والانتقام من الأبرياء، بسبب أديانهم وعقائدهم أو تواريخهم وتقاليدهم. فضلا عن قتل العرب والكرد ، وتشتيت التركمان والشبك وغيرهم .

كانت مدينة الحضر، الواقعة على بعد 110 كم جنوب غرب مدينة الموصل، مدينة محصنة كبيرة، في عهد الإمبراطورية الفارسية على ايام الاخمينيين والساسانيين اذ تأسست في القرن الثاني قبل الميلاد، وهي عاصمة المملكة العربية الأولى (عربايا)، وصنفت اليونسكو مواقعها من التراث العالمي. كانت قد صمدت أمام الغزوات إبّان زمن الرومان 116م، وهي تمتاز حضارياً بصمودها، كون جدرانها عالية، وسميكة ويرافقها 160 برجا. وامتدت ستة كيلومترات في محيط المركز التجاري القديم، وتضم سلسلة من المعابد، مع واحد من أعظم المعابد الكبرى، وهي مدينة صاحبة بنية، تدعمها أعمدة ضخمة ترتفع إلى مائة قدم. وقد قالت المديرة العامة لليونسكو، إيرينا بوكوفا، إن "تدمير الحضر يمثل نقطة تحول في استراتيجية مروعة من التطهير الثقافي الجارية في العراق".

ان الهمجية التي طاولت الموصل وحضارتها تمثل أبشع العمليات التي سيذكرها المستقبل بألم وحزن عميقين، وهي تترجم حالات الاحتقار الذي تربى عليه بعض الناس المرضى في مجتمعاتنا ، كما يترجم سيكولوجية الكراهية والحقد الذي يكنه هؤلاء للتاريخ الحضاري، بعد أن عاشت المجتمعات العربية في السنوات الخمسين الأخيرة، وهي تنخر وجودها ليأكل بعضها بعضا اليوم. ان المسؤولية التاريخية لا تقع على فصيل دون آخر، فما شهدناه، في السنوات الأخيرة، يكفي لأن نقول إن الحكام والمسؤولين في المنطقة قاطبة يشتركون في خلق هذا الوباء المدمّر، وعندما لاح الإعصار لم يكونوا عقلاء في معالجته واستئصال شأفته، فاستفحل الأمر لكي تتوالد التناقضات وتحل الكارثة التي نجدها، اليوم، تزحف من مكان إلى آخر، لتهدد وجودنا الحضاري والإنساني. ان ما يجري في العراق وسورية وغيرهما يترجم معنى الكارثة التاريخية التي حلّت بنا.

تترجم عمليات النهب والسلب التي اجتاحت العراق، عشية الغزو الأميركي، جزءا من هذه الحقيقة المرّة! ما جرى للمتحف العراقي، عشية ذلك الاحتلال، جزء من البداية المريرة، وقد استمر الحال بتدمير النصب والتماثيل التي تمثل رموز بغداد الحضارية. وقد فسّرت وقت ذاك لأسباب واهية، لكن حجة تنظيم "الدولة الإسلامية"، كمجموعة دينية متطرفة ومتعصبة ، يتمثل القيام بحملات لإزالة الآثار القديمة التي يعتبرونها تعزيزا للوثنية التي تنتهك، برأيهم، ما جاءت به الشريعة الإسلامية حسب تفاسيرها الاصولية . السؤال: ما الذي تبقّى من التناقضات كي لا تصحو مجتمعاتنا من نومها؟




نشرت في العربي الجديد ، لندن ، 15 ابريل / نيسان 2015 .
http://www.alaraby.co.uk/opinion/2015/4/14

ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com



 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter