|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  7  / 6 / 2024                                  رعد الحافظ                                     كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

آراء مختلفة حول علي الوردي!

رعد الحافظ
(موقع الناس)
 

مقدمة :
مبدئياً أقول ,إختلاف الآراء حول منهج وطريقة أيّ مفكر أو فيلسوف على سطح الكوكب قديماً وحديثاً ,أمر معقول مقبول! فما بالك لو تحدثنا عن د.علي الوردي الذي كان (ومازال حتى بعد رحيله بثلاث عقود) مثيراً للجدل في الكثير من أفكاره!

بالنسبة لي ,عندما يسألني أيّ مهتم بالشأن العراقي عن أهمّ شخصية عراقية في العصر الحديث ,فلن أتوانى كثيراً لأذكر إسم علي الوردي . ليس فقط كونه رائد علم الإجتماع في العراق , الذي شخّص بطريقة صادقة واضحة بسيطة سهلة الفهم للجميع تناقضات وإنقسامات وصراعات وتشوهات إجتماعية في جميع مجالات حياة الفرد والمجتمع العراقي .لكنه أيضاً كان شجاعاً قدر الإمكان في هذا المجال ,تقبّل النقد والإختلاف ولم يتكلم بالحقائق المطلقة أو يحتكرها ,كما فعل أغلب مَن سبقوه وعاصروه. كما أعلن تمرّدهِ و حربهِ على التراث الموروث المتخلف الغبي!

في الواقع أنا أكتب هذه الورقة رداً على إعتراضات مفكر أكاديمي أمريكي من أصول عراقية (لم اشأ ذكر إسمه كوني لم أستأذنه) ,وهو لا يرغب أيضاً بوصفه (مفكر) وما شابه ,لكن له عندي مكانة مميزة ,بل أنّي أميل لتشبيهه بالوردي نفسه , بالأخص إشتراكهم بالإستقلالية والجرأة الفكرية الواضحة , والإسلوب النقدي المتين الرصين!
***
هل أخطأ الوردي ؟
لو سُئلت هذا السؤال : ألم يكن إذاً للوردي أخطاء أبداً؟
سأجيب بالطبع كانت له أخطائه وهفواته ,فهو بشر في النهاية.
لكن القاريء الفطن المتعمق في كتابات الوردي يفهم مقاصده دون أن يعلنها صراحةً!
علي سبيل المثال : مجاملته للعقيدة والتراث الإسلامي وبعض شخوصه التأريخيين كالإمام علي بن أبي طالب وما شابه .
أو عدم إمتداحه صراحةً للإنكليز المُحررين لبلده أعقاب ح ع 1
لكن من كلامه عمّا أسموه العراقيين (ثورة العشرين) سيفهم القاريء بوضوح موقف علي الوردي من هذه القضية!

نعم من المفترض أنّ الظروف الزمانية والمكانية لا ترغم مفكر ما ,على قول عكس ما يعتقد به ,فالبديل موجود ..الصمت!
لكن علي الوردي ,من جهة لم يكن يقدر على الصمت أزاء كلّ هذا التخلف الحضاري والفكري الذي عاصره . ومن جهة أخرى كان مسكون بشيء ربّما اُسميه (فوبيا المهانة في العراق)!
(بالمناسبة / كاتب السطور مصاب بهذه الفوبيا حتى بعد تركه العراق منذ أكثر من عقدين ,وأنا مجرد إنسان عادي)!
فما بالك مع كاتب ومفكر مشهور مثل علي الوردي!

لقد توقف عن الكتابة أكثر من مرّة وأعلن ما معناه ,عدم إستعداده للموت في سبيل نشر أفكارهِ.
كانت الفترة الاولى لتوقفه عن الكتابة بضع سنوات ,بعد أحداث إنقلاب 14 تموز 1958 ,وما تلى ذلك من أحداث دموية كأنّها فجرت الطبيعة العنيفة الغوغائية لدى عامة الناس!

يروي لنا الوردي قصة صغيرة معبرة في هذا المجال ,يقول :
شاهدتُ مجموعة من الشباب يسحلون رجلاً بعد ان أوثقوه بالحبال والدماء تسيل منه ,وعندما سألهم لماذا تفعلون ذلك؟
أجابوه (أستاذ نحن إخترعنا طريقة جديدة للتعذيب هي السحل بالحبال حتى الموت)!
فمن الطبيعي مثل هذا المنظر كان يؤرقه ,ويخشى التعرض له من الغوغاء لأيّ سبب تافه ,ما قاد الى حذره عندما يتناول رموز دينية أو سياسية (أو أيّ مقدس) لدى العوام!
***
معلومات عن د. علي الوردي!
1 / طفولته كانت صعبة بائسة في مدينة الكاظمية في بغداد.
لكنّه أحبّ القراءة ومطالعة الكتب والمجلات كثيراً .وعندما أكمل دراسته الأوليّة (متأخراً في عمره عن أقرانه) تفوق عليهم ,بل جاء الاول على العراق في الإمتحانات الثانوية.
بعدها أرسلته الدولة (في العهد الملكي) الى لبنان ليكمل دراسته في الجامعة الأمريكية وتفوق هناك أيضاً .
فأرسلته الدولة (بعثة) الى الولايات المتحدة لينال شهادة الدكتوراه في علم الإجتماع جامعة تكساس عام 1950

2 / الوردي لم ينتمِ الى أي حزب او مجموعة ,كان ينقد جميع من سبقوه وعاصروه (لكن بحذر) بسبب الوضع آنذاك. وخالف جميع التيارات السائدة من قوميين وإسلاميين وماركسيين!

3 / الوردي لم يسرق من أحد ,لكنّه إقتبس منهم وأعلن ذلك وإستفاد من أفكار بعض مَن سبقوه . وحتى من أفكار بعض طلبته في الدراسات العليا ,ولا غرابة في ذلك.

نحن نعلم أنّ جميع العلوم تتطور بالاقتباس والتكامل .كلّ جيل من المفكرين و العلماء يأخذ من الاجيال السابقة . هكذا يُبنى الهرم . الوردي نفسه ذكر ذلك كثيراً ,قال أنّه أخذ من هذا وذاك!

مرّة كتب ما معناه أنّ علم الإجتماع بالأخص هو عِلم متواضع بطبيعته ,يستمد معلوماته من عامة الناس ,من السوقة والسفلة والمجرمين والغوغاء وما شابه ,لأنّ هؤلاء يعكسون القيم الإجتماعية السائدة .

و قديماً عندما إتهموا نيوتن بأنه سرق ممن سبقوه.
أجابهم : لا اُنكر ذلك ,نعم أنا وقفتُ على أكتاف العمالقة!

حتى في الفنون يجوز الإقتباس ,ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب مثلاً ,كثير منها مشتقه من بعض السمفونيات والموسيقى العالمية ,لكن هذا لا يلغي إبداعاتهِ!

4 / للوردي كتاب عن منطق إبن خلدون بهذا العنوان , يقول في مقدمته :
إهتمامي بفكر إبن خلدون يمتد لـ 15 عام ..
لقد جعلتُ لإبن خلدون القسط الأوفى في الرسالة التي نلتُ بها شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس عام 1950.

فهل هذا كلام سارق ؟ أم باحث معجب بمفكر أوأستاذ؟
لكن من جهة أخرى ,الوردي إنتقد إبن خلدون في العديد من الأفكار مثلاً موقفه من الثورات الفاشلة!
فيقول ان الثورات على الظلم ضرورية حتى لو كانت فاشلة! لان الثورة الفاشلة تمهد للثورات الناجحة!
و يضيف : انه لو إستجاب الناس لمبدأ ابن خلدون (السكوت عن المظالم خشية الفشل) ,لصارت البشرية قطعان من الخراف يحكمها الطغاة !

5 / الوردي كان واضح صريح ضد الأفكار الوعظية والمثالية والطوبائية (غير الواقعية) والمنطق الأرسطي القديم (الشكلي الذي يهتم بالشكل لا المضمون) ,وما شابه من فلسفات تعتمد الحقائق المطلقة واليقينيات والكليّات (بمعنى تبدأ من الكل لتنتهي بالجزء)!
بديل هؤلاء عنده ,السفسطة التي تعني تفضيل العقل على النقل والمنطق الإستقرائي الحديث (الذي يبدأ بالجزء وينتهي بالكل)!
كتاب وعاظ السلاطين ,وأغلب كتبه تأتي على ذلك!
إنّما من جهة اخرى يعتقد الوردي ,أن طريقة التفكير المنطقي العقلاني لأرسطو طاليس (بما فيها الإيمان بالغيبيات) ,لا تزال ذات أهمية للشعوب التي تعيش مرحلة الجهل والخرافة!
لكن نفس هذه الطريقة ستكون ضارة ومعرقلة لدى الشعوب التي تقدم فيها العلم وتطورت الحضارة (يقصد الغربية العلمية).
لأنّها ستعرقل لديهم النظر التجريبي الواقعي (المادي)!
نعم الشعوب الجاهلة المتخلفة لا تزال تحتاج النزعة العقلانية لتكون بمثابة تمهيد لنمو النزعة العلمية الحديثة!

6 / رأي الوردي عن العلم أنّه لا يعرف الحزم والجزم واليقين والقطع ,لكنه يشك ويظن ويجرب ويراقب ويسجل..الخ

7 / وصف الوردي ,الرئيس أو الحاكم العربي الإسلامي بأنه يحمل صورة الرجل المثالي الحكيم القوي العادل الكامل في خيال الفرد العربي .هذا مستمد من دينه وتراثه (وإسطورة الخلفاء الراشدين) ,بينما واقع الحال لا يوجد شعب في العالم قادر على إنتاج إنسان بهذه المواصفات!
لذا نرى نتائج الانتخابات في الدول الحرّة لا تكاد تعبر الـ 50% إلّا بقليل!
وكان يؤكد على مسؤولية الشعب عمّا ينتجه من قادة وحكام وزعماء سياسيين ,مبدأ (كيفما تكونوا يوّل عليكم)!

8 / حول الإحتلال البريطاني للعراق أعقاب ح ع 1 يقول :
لولا وجود أنور باشا في تركيا في تلك الفترة ,الذي أدخل الدولة العثمانية الحرب الى جانب ألمانيا ,وما نتج عنها من القضاء على الرجل المريض أو تفسخهِ ,ثم نيل الولايات التابعة لها (ومنها العراق) إستقلالها أو تحريرها على يد الإنكليز ,لكنتُ مازلتُ عطاراً في الكاظمية لحد اليوم أو كاتب عرائض في أحسن الاحوال!
وما كان العراق أصلاً ليكون دولة مستقلة قائمة بذاتها ,فقد كان يعيش (خلال الإحتلال العثماني) في العصور الوسطى ,ثمّ حدثت المعجزة فجأةً بعد دخول تلك الدولة الحرب العالمية الاولى.
لم يمتدح صراحةً الإنكليز (بدلاً من ذلك إمتدح الملك فيصل الأول) ,لكنّه كان يلمح لفضلهم علينا ,كقولهِ :
حدثت أمور مذهلة بعد دخول الإنكليز الى العراق لم يستطع العراقيون تفسيرها كالإختراعات العجيبة (الطائرة والكهرباء).
كذلك وجدوا عدلاً ونزاهة في الحكم الإنكليزي,مقارنة بالحكم العثماني ,وأخذوا يتساءلون كيف يكون الكافر أكثر عدلاً والمسلم أكثر ظلماً؟

9 / كان الوردي واقعي يغير ويطور أفكاره كلّما تقدم في العمر!
مثلاً يقول : قبل سفري الى الولايات المتحدة لإكمال دراستي العليا كنتُ متمسكاً بإشتراكية (أبي ذر الغفاري)!
لكن هناك في أمريكا تعرفتُ على إشتراكيات من أنواع أخرى,
كالطوباوية والفابية وغيرها ,فتحولتُ الى الإشتراكية التي تبناها حزب العمال البريطاني .لكني بقيتُ أعتقد أنّ الإنسان غير قادر على خلق نظام كامل يُرضي جميع الناس!

10 / الوردي في كتابته وطرحه الافكار (بسخرية أحياناً) ,
سلك طريق الفرنسي فولتير والألمان كارل منهايم وماكس فيبر والأمريكي ديل كارنجي وغيرهم كثير .وقد أشاد بجميع المفكرين (سلباً وإيجاباً)!
بالمناسبة عندما قرأ علي الوردي .عام 1942 كتاب ديل كارنجي الشهير (كيف تكسب الأصدقاء) ,شعر أنّه كان يسير في الطريق الخطأ (كان يريد كسب النقاشات مع الآخرين) ,فيقول متهكماً على نفسه (لقد كنتُ حماراً دون أن أدري)!
بعدها صار يتجنب الجدل مع الآخرين ,يقول :
[الجدل لن يكون مجدياً حين يخرج عن نطاقه العلمي الى نطاق المغالبة].
هذه نقطة تشابه أخرى بين الوردي وصديقنا المحترم ,(قُلّ ما تعتقد وإمض في سبيلك ,لا تجادل الجاهل ,ليتعلم بنفسه)!

11 / أخيراً أقول : للوردي 18 كتاب ,ربّما إثنين أو ثلاث منها فقط لي مآخذ عليها ,مثل :
أ / كتاب خوارق اللاشعور!
ب / كتاب الأحلام بين العلم والعقيدة!
يعلن فيها تقبله أفكار عن الباراسايكولوجي والتخاطر وتنبؤ الأحلام وما شابه (كانت حينها مواضيع حديثة), لكنه لم يعلن يقينه القطعي فيها!
هذا عدا إعتراضي على بعض أفكاره ,كعدم تفهمهِ لنظرية التطور الداروينية ,ومبالغته في إحترام شخصيات إسلامية تأريخية ..وأشياء أخرى!

نعم الوردي لم يكن نبيّ زمانه (بالتعبير الديني) وله عثراته بالطبع كباقي المصلحين .لكنّه كان كاتباً مفكراً سابقاً لزمانهِ , ناقداً ومجدداً ومصلحاً (للأفكار).
وصفه الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) بأنّه حفار إجتماعي!
بينما قال عنه عالم الإجتماع (جاك بيرك) ,أنّه فولتير العرب!

الخلاصة :
علي الوردي كان مثقف إجتماعي ,باحث موسوعي جريء!
تحرر من قيود الماضي ,إنتقد كل المنظومة الثقافية والإجتماعية السائدة (لكن بحذر يوجبه طبيعة الظرف)!
كان ينتقد دون مواربة (خداع) أو مبالغة وإفتعال!
جيلي وما قبله وما بعده تعلّم منه الكثير .علمنا أنّ للحقيقة أوجه عدّة!
علمنا أن الوطنية وحبّ الوطن ليس إنشاء وخطابات شعبوية بائسة!
علمنا أن لا نصغي لأصحاب الابراج العاجية الذين يتحدثون (كالوعاظ) عن المثالية والطوبائية ..ويبتعدون عن الواقعية والتجريبية!
علّمنا كيف نتعرف على ذاتنا وننتقدها ,لا أن ندافع عنها أو نجلدها!
نعم عندي (علي الوردي) أيقونة عراقية نفخر بها!
***


المصادر :
جميع كتب الوردي!
إضافة لكتاب إبراهيم الحيدري المهم : (علي الوردي ,شخصيته ومنهجه وأفكاره الإجتماعية) متوفر مجاناً على الشبكة!




7 يونيو 2024


 



 



 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

          موقع الناس .. موقع لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

             جميع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لموقع الناس                                                              Copyright © 2005-2012 al-nnas.com - All rights reserved         

  Since 17/01/05. 
free web counter
web counter