|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  25 / 7 / 2015                                رياض مثنى                        كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



من الذاكرة... زنزانة رقم 3

رياض مثنى

قبل ثلاثون عاما من هذا اليوم و تحديدا في 16-7-1985 المصادف يوم الثلاثاء و في الساعة الرابعة عصرا وعلى غير العادة دخل حرس قاطع الاعدام ومعهم قائمة باسماء ثلاثة محكومين تلوها على وجه السرعة و غادروا المكان ، مع جملة مقتضبة (حضروا نفسكم) لم يحدث هذا الامر قط طوال مكوثنا في الزنزانة اذ اعتدنا ان يتم التنفيذ يومي الاحد و الاربعاء من كل اسبوع و عادة يتم التبليغ و الاقتياد الى مكان التنفيذ ما بعد العاشرة صباحا و الانتظار حتى السادسة مساءا و هو وقت التنفيذ.

لم نجد اي تفسير سوى انهم مستعجلون باجراءاتهم كون يوم غد عطلة اذ يصادف (ذكرى 17 تموز) وهو يوم اربعاء (اليوم المعتاد بالتنفيذ)... لذا توجب علينا ان ننتظر ساعتين فقط بعد ان سلمنا بالامر الواقع .

بدأ المحكومين يربتون على اكتافنا و الاسى واضح على وجهوهم و ان كان الجميع قد الف هذه الحالة و لكنه اشبه بتقليد اعتدناه لوداع من يأتي دوره..... بدأ الوقت ينفذ (حاولت ان انفرد بنفسي بعيدا عن الاخرين، استرجعت شريط حياتي منذ الطفولة حتى هذه اللحظة مر و كأنه شريط سينمائي ، اكثر الامور كانت تؤلمني ، كيف يستقبل الاهل و خاصة امي خبر استلام الجثمان) في ظل هذه التأملات وفي ذروة القلق حدث موقف اثارنا و بدأنا نضحك  ، اذ تذمر احد المحكومين الجدد من زحمة المكان، فما كان من صديقه الا ان طمأنه انه بعد اقل من ساعة و نص سنأخذ راحتنا باعدام اثنان من الزنزانة (فعلا ضحكنا رغم المرارة) . مرت الدقائق والساعة الاولى ولم يحدث شئ يذكر.... الساعة الان الخامسة و النصف اي لم يبق سوى نصف ساعة ، في هذا الاثناء وصلنا صوت نباح الكلاب (وهي احدى علامات التنفيذ) كانت بعيدة و لكنها مسموعة .

بادرنا احد المحكومين بقوله (اخوان صار وقت تتهيأون للموت و ذلك بان تستحموا لكي تكون جثثكم نظيفة عند استلام الاهل لها) وبالفعل اجرينا اللازم.....

حلت ساعة التنفيذ اي السادسة مساءا ولم يحدث شئ... ظللنا في حيرة لحين الساعة السابعة عندما انفتحت الابواب وكانت هذه المرة لتوزيع وجبة العشاء .

صرخ صوت من الزنزانة رقم 1 ليسمع الجميع (اخوان اليوم ماكو تنفيذ) تنفنسنا الصعداء اذ كسبنا يوم جديد ... .و زيادة في ذلك لا يوجد في اليوم التالي تنفيذ حسب ما صرح به عنقرجي (المسؤول عن توزيع الطعام) كونها عطلة رسمية.... حاولت ان استفسر من العنقرجي عن سبب اذاعة اسماءنا ، قال بالحرف الواحد :

- وصلتنا الاوامر ان نهيأ المقصلة اليوم و لكن تغير الموعد لوقت لا اعرفه

بقينا على هذا الحال منتظرين لحظة الفراق الابدي.... و بحرب نفسية قذرة اذ ازدادت زياراتهم (الحرس) وفي كل مرة عندما يفتح الباب سواء لتوزيع وجبات الطعام او لاجراء عمليات التفتيش يصرخون (وين اللي صحنا اسماءهم ... باجر التنفيذ)

واستمر هذا الحال لحين يوم الخميس المصادف 25-7-1985 الساعة 11.50 دقيقة
كنت وقتها مستلقيا باغفاءة خفيفة (و شبه مطمئن باني كسبت ثلاثة ايام ، اقصد غدا جمعة و بعده سبت و لا يوجد تنفيذ ، لحين يوم الاحد ، و {بالمناسبة منذ الطفولة كان اسعد الايام لي و لاغلب العراقيين هو هذا اليوم، كون اليوم التالي جمعة ، و الخميس بالمدرسة نص دوام } كون دوري بالنوم قد بدأ بعد سهر اجباري لزحمة المكان و النوم بالتناوب.

هزة قوية لم اتبين مصدرها، فقط سمعت (يلله الحرس وصلوا ... و صار وقت اعدامكم)

نهضت بسرعة محاولا معرفة ما يجري..... رأيت الجميع يعانقون زميلي الذي اذيع اسمه معي.... والبعض التفت صوبي واخذ يعانقني .

الباب لم يفتح بعد ولكن صوت الحرس ونباح الكلاب يقترب اكثر فاكثر وباب المقصلة مفتوح على مصراعيه .

دفع الباب بقوة .... لم نسمع الا صوت المفاتيح ووقع الاقدام... صمت مريب اصاب قاطع الاعدام
الكل متشبث بقضبان الزنزانات ، دخلت المجموعة وتوسطت الممر ، البعض منهم وقف امام الزنزانة رقم 3 وهي التي تضمني مع زميل اخر ينتظر التنفيذ معي ، اما الحرس الاخرون فقد انتشروا على طول القاطع .

هنا اوعز كبيرهم و(يبدو انه ضابط) لرجل يحمل بيده فايل يضم مجموعة اوراق و بدأ بقراءة الاسماء :

- طلعت عمر علي (1) (فتحت الزنزانة رقم 1)
- علي جبار سهر (2)
- رياض قاسم مثنى (3) وكنا الاثنان في زنزانة رقم 3

خرجنا حفاة واوقفونا جنب الضابط وكاتب القلم وبدأوا بالسؤال التقليدي  ، سألونا الواحد تلو الاخر عن اسم امهاتنا (وهو اجراء متعارف عليه لكثرة تشابه الاسماء ... فافضل وسيلة معرفة اسم الام)

لا زلت اذكر الوجوه التي حضرت هذا اليوم رغم مرور ثلاثون عاما، كل من :
ابو وداد كان بقيافته الكاملة (و لكن وجهه كان مكفهرا، كأنه فقد عزيزا عليه هذه الساعة) (4)
ابو القاسم كذلك بزيه الرسمي وحنة بشاربه المفتول و قيافته الرسمية
ابو سعدية بكرشه المتدلي
مفوض محمود
بالاضافة الى الضابط الذي لم اعرف اسمه ، البعض يقول انه النقيب غالب الذي عرف باجرامه و شهوته لتعذيب المحكومين
اما الشخص الاخير و هو كاتب القلم الذي رافق هذه الزمرة وكان بعمر الشباب عمره بحدود الثلاثين .

اثارني من اول لحظة قراءة الاسماء ، كانت عينه اليمنى تغمز بابتسامة مخفية لم اعرف دلالتها الا بعد زمن قصير كان من اهالي الناصرية.... [اذ مع التأكيد على اسم امي ، اظهر امامي (و بسرعة خاطفة) توقيع بالقلم الاخضر  (5)، لم افهم وقتها ماذا يعني] .

بعد ان انتهت مراسيم قراءة الاسماء توجهنا بخطى بطيئة صوب المقصلة... هنا حدث شئ غير متوقع اذ سارع كاتب القلم خطاه قبل الجميع طالبا منا اللحاق به بينما كان الضابط يتحدث مع الحرس بضرورة تشديد الحماية على المحكومين اكثر.... بلحظة اقل من رمشة عين لم تستغرق ثواني ، قال كاتب القلم و بنشوة (تخفظتوا الى المؤبد) .

كنا انا و طلعت فقط لم نفهم ما الذي يقصده..... وصلت فصيلة الموت يتقدمهم الضابط المشرف على القاطع .

ما ان وضعنا اقدامنا على الدكة الخارجية لقاطع الاعدام حتى تأكدنا من اكذوبة تخفيضنا الى المؤبد ، اذ كانت سيارة الاسعاف (المسؤولة عن نقل الجثث الى ثلاجات السجن) مركونة بجانب المقصلة... و باب المقصلة مفتوح....

امسكونا من ايدينا وادخلونا السيارة... جلس معنا مفوض الامن (عرفنا فيما بعد اسمه محمود) وفي الامام جلس كل من الضابط وكاتب القلم .

ما ان دخلنا السيارة حتى شعرنا برطوبة.. نظرنا الى بعضنا و كأن لسان حالنا يقول  :
بعد حين سيأتي من يتحسس رطوبة اجسادنا و ينتابه نفس الشعور.

طلب الضابط من سائق السيارة التقرب اكثر من ساحة غرف التنفيذ... وما ان اقترب حتى اعطاه اشارة بالتوقف وهنا صرخ بصوت عالي :

- اسمعوا ولكم ، مع الاسف تم تخفيظكم الى المؤبد واذا تكلمتم عن اي شي شفتوه في القاطع مصيركم هنا... اشر على المقصلة)

استدارت السيارة بنا وسارت مسافة قصيرة ولكنا وقتها لم نستطع تحديد الوقت كنا مهتمين
بقضية واحدة هل صحيح اننا نجونا من الموت!


25-7-2015

(1) الشهيد علي جبار سهر من اهالي الناصرية تولد 1948 بعد تخفيضه بمدة وجيزة اعيد الى قاطع الاعدام و تم التنفيذ به في تموز عام 1986 و كانت تهمته اخفاء معلومات و اعادة الصلة مع تنطيمات الحزب الشيوعي العراقي
(2) طلعت عمر علي من مواليد 1961 من اهالي اربيل ، قضاء مخمور ناحية ديبكة ، اطلق سراحه في العفو العام عن الاكراد في عام 1988 و تهمته وقتها العمل في صفوف الحزب الشيوعي العراقي
(3) رياض قاسم مثنى من اهالي بغداد مواليد 1961 اطلق سراحه في العفو العام في 23-12-1991 و التهمة العمل في صفوف الحزب الشيوعي العراقي
(4) سبب اكفهار وجه ابو وداد هو خسارته هذا اليوم مبلغ من المال بسبب قرار التخفيض
(5) التوقيع بالقلم الاخضر معناه التخفيض الى حكم المؤبد


 



 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter