|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 السبت 12/2/ 2013                                                       نجاة تميم                                          كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

القرين في سرديات المهجر
رواية "صوت أمي" لعبد القادر بنعلي أنموذجا (1)

نجاة تميم

إن ثيمة القرين، كالعديد من الثيمات الكبيرة في الأدب، ليست بجديدة، لكنها كانت في القرن الثامن عشر، خصوصا، في ألمانيا، من الثيمات المفضَلة والمتداولة في الأدب الرومانسي والأدب ألعجائبي. فعلاقة الإنسان مع "الأنا" وخوفه من الدمار الشامل الذي سيسببه له الموت، تجعله يحاول أن يلغي هذا الخوف بلجوئه إلى سلسلة من الأساطير التي تعتمد على الإيمان بخلوده كما يلجأ إلى "الدين والفن والفلسفة ليقدموا له ما يرضيه ويخفف عنه"؛[1] وقد يجد ذلك في  قرينه.

إن ثيمة القرين سبق أن استعملت منذ القدم، فنجدها في الديانات البدائية و في بعض الثقافات الشعبية. أما من الناحية العلمية، فمفردة القرين تطلق على الاضطراب النفسي المصحوب  بانفصام الشخصية؛ اضطراب يمكن أن يشمل هلوسات ذاتية أو هلوسات يكون مصدرها من خارج الجسم أو هلوسات  يجهل المريض مصدرها وتُمثل غالبا في شخصية القرين بكل تحولاته. وبشكل عام، فإن ثيمة القرين تقرن بظواهر ثنائية الشخصية (الشزفرينية أو الذهان الهذياني التأويلي).

لغويا، تعني كلمة القرين الصاحب، الشريك أو الشبيه. وقد تستعمل لحد الآن لتفسير ثنائية الشخصية. كما أن تفسيرا آخرا متناول على مواقع الإنترنت؛ " الجن الذي يدخل الجسم الآدمي لشيئين ...قد يفيده أو يضره". أما في المعتقدات "البدائية" وثقافات بعض الشعوب، حسب دراسة معمقة للكاتب أوتو غنك، فإن القرين يُجسّد في الظل، خيال الإنسان، الصورة المنعكسة في المرآة، البورتريت، الروح، الصدى، ثنائية الشخصية أو في التوأم.

لقد برزت ثيمة القرين في الأدب، بالأخص، إبان ظهور الرومانسية في القرن الثامن عشر في انجلترا وألمانيا من تمَ انتقلت بعدئذ إلى فرنسا. فبعد أن عرف القرن التاسع عشر الرواية القوطية، التي تبعتها فيما بعد الحرب العالمية الثانية الرواية السوداء، وأهم كتابها ( آن غدكلف 1764-1823) و(هوراس ولبول 1717-1797) والرواية التاريخية للكاتب القبرصي (ولتر سكوت)، شهدت نهاية سنوات 1820 أدبا جديدا يعتمد الخيال ويبحث عن أفق جديدة : حيث أتت الرومانسية لتثور على قواعد الأدب الكلاسيكي. فروايات  نوفاليس،هوفمان وجون بول وإختندورف في ألمانيا القرن الثامن عشر وروايات فكتور هيغو، ستاندال وموباسون في فرنسا القرن التاسع عشر خير مثال على ذالك.

نعلم أن ثيمة القرين/ التوأم في الثقافات البدائية وكذالك في العديد من الأساطير لها علاقة بالتحضر وبناء المدن كما في أسطورة مؤسسي مدينة روما (غومولوس وغيموس ) في القرن السابع قبل الميلاد. وقد نجدها ممثلة في المسرح القديم، كمسرحيات بلوت (مسرحية المنيشم 215 ق.م ومسرحية أمفيترون 187ق.م التي ألهمت مليير ليكتب مسرحية تحمل نفس الاسم )، غير أن ثيمة القرين بمتغيراتها برزت بشكل مميز مع كتاب القرن التاسع عشر(هوفمان، شميزو، بو، موباسون ودويستوفسكي). [2] 

لقد كان لصدور كتاب هوفمان (1876-1822) الموسوم "قصص فانتاستيكية" في باريس عام 1922 والذي ينضوي أيضا تحت خانة الأدب ألعجائبي، صدى وتأثير كبيران على الساحة الأدبية آنذاك. لقد عالج هوفمان ثيمة القرين في أعمال عدة منها : الأميرة برامبيلا ، القلب من حجر، اختيار خطيبة، رجل الرمال، حكاية الصورة المنعكسة المفقودة وغيرها من الأعمال. ولا ننسى تأثير روايتي جون بول على هوفمان 

(1800)  اللتين كانتا السباقتين في معالجة ثيمة القرين. Titanو  “(1796) Sienbenkâs 

إن جون بول هو أول من أدخل موتيف القرين في الأدب الرومانسي. فالنقطة الرئيسة في روايته سييبنكاس تدور حول الالتباس المستمر بين الشخصية الرئيسة "سينبنكاس" وصديقه "ليبغبر" الذي يشبهه تماما ويلاحظ بول أن ليبغبر ينفصل عن جسمه ويوضًح في هذه الرواية أن القرين هو الشخص الذي يرى نفسه. ونفس الفكرة في روايته تحت عنوان  تيتان التي تعالج الدمج الكامل للشخصية بحيث : "الأنا يجب أن تصبح الأنت." [3]

أما ثيمة القرين/الظل نجدها حيَة عند الشعراء ( كميسو، أندرسن وغوته).[4] فالظل، يقول أًتو غنك، يعني الموت لكنه يعني أيضا الحياة وكلاهما يعتمدان على اعتقاد بدائي، على ثنائية الروح[5].  فهناك الروح الفانية والروح الخالدة. تتحدث القصة الموسومة" الظل"(1846)  للكاتب الدانماركي أندرسون (1805-1875) عن حكاية عالم يعيش في أحد البلدان الحارة وهناك يفترق عنه ظله، لكن بعد مرور أعوام يصبح الظل رجلا قويا وغنيا، يلتقي بالعالم ويستطيع أن يُسخًر مالكه الأصلي ويطلب منه أن يتبادلا الأدوار ويصبح خياله. أما في قصة العملاق للكاتب غوته، فظل العملاق يضعف وسط النهار ويكبر ويصبح هائلا  أثناء شروق وغروب الشمس بحيث يستطيع سكان ضفتي النهر أن يعبروا النهر ممتطين ظل عنق العملاق. رغم ذلك فالسكان فضلوا استقلالهم عن العملاق وبنوا جسرا. لكن استقلالهم عن العملاق لم يتحقق؛ فكل صباح عندما يفرك العملاق عينيه ليبعد آثار النوم عنه فإن ظل كفيه يُسقط مارة الجسر وحيواناتهم في الماء.

أخذت ثيمة القرين في الأدب صبغة الظل أو بالأحرى خيال الشخص والذي غالبا ما يقرن بالقرين.وهذا  الأخير، يمكن أن يُجسد في التوأم كما في رواية دستويفسكي الموسومة القرين (1846) والقصتين الموسومتين بالتوالي الهورْلا (1887) و هو (1883) للكاتب الفرنسي موباسون ورواية جون بول  التي تدور حول صراع الأخوين التوأمين. Flegeljahre

قد يفترق القرين الغامض عن الأنا ويصبح مستقلا ويمتهن الظل أو الصورة المنعكسة وقد يبدو كالليم وهو شبيه الشخص تماما؛ من دم ولحم. هذا القرين وذاك قد يلتقيان بشكل غير مألوف وقد يتعارضان في كل شيء. فأول رواية لهوفمان  إليكسير الشيطان (1814) اعتمدت تشابها مُشابهِا بين الراهب (ميداردس) و (الكونت فيكتور)؛ أخوين من نفس الأب دون أن يعلما بذلك. ويعالج هوفمان موضوعا مماثلا في عمل لاحق بعنوان القرين؛ المنافسة أمام نفس المرأة  لمراهقين اثنين يتشابهان بشكل لا يمكن التفريق بينهما. قرابة غريبة تجمع الاثنين. فحبهما لنفس الفتاة جعلهما يخوضان مغامرات أكثر جنونا وينتهي  بهما المطاف عندما يجدان نفسيهما وجها لوجه أمام الفتاة الشابة ومع ذلك يتركانها بمحض إرادتهما. أما في روايته  الهرَ مُور، فإن ثيمة القرين/ الشبيه تتمثل في شخصين يتشابهان كأنهما أخوان؛ (كريسلغ)  و(إتلينغر)؛ الأول مرشح للجنون والثاني رسام مجنون فعلاً. (كريسلغ) الذي يرى صورته في الماء يعتقد أنها صورة الرسام المجنون ويذمه. والأغرب من ذلك عندما يعتقد أن "الأنا" يمشي بجانبه فيصيبه الرعب ويهرع إلى المعلم إبراهيم ليطلب منه أن يقتل، طعنا بالسيف، الشخص الذي يلاحقه. 

بعد هذا التقديم المكثف حول القرين ومتغيراته، نعود إلى الشخصية الرئيسة المجهولة الاسم في رواية عبد القادر بنعلي  بعنوان صوت أمي التي تتضاعف على شكل توأم. فيكون بذلك للسارد/ المصور قرينا على شكل توأم الذي" لا يظهر، ككل مرة، نسخة طبق الأصل للبطل وإنما كنقيضه" في تكوينه الشخصي بالأخص،[6]. وقد يقرأ ميشيل جيل  شيئا أخرا في قصة الكاتب البلجيكي فرانس هيلينس (1879-1881) الموسومة القرين. هذه الأخيرة  تتناول ثيمة القرين المنقسم إلى أجناس مختلفة. يحكي السارد قصة صديقه الهولندي من أصل عائلة مخضرمة تعمل في التجارة في جزر الهند الشرقية، المستعمرة الهولندية سابقا واندونيسيا حاليا. كان (هندريكس فان دو كمب) إنسانا حالما، وديعا، طيبا، يشفق على الفقراء. أرسله أبوه إلى جزر الهند الشرقية لكي يكتسب خبرة في الحياة. وفي طريقه إلى هناك تعرف (هندريكس) على هندي لقنه  تعاليم أجداده التي كانت السبب في تغيير حياته. فثابر ودرس هذه التعاليم الهندية. حسب حكاية (هندريكس) للسارد، فإنه بعد محاولات فاشلة وأخرى ناجحة حاول أن يخلق قرينا له. بدأ يرى، شيئا فشيئا، صورة قرينه تتكون كاملة أمامه، من لحم ودم، وتقف على رجليها. لكن الغريب في الأمر أن هذا القرين مجسَد في امرأة. في البداية كان لا يعرف من منهما يمثل حقيقته الطبيعية، القرين/المرأة أم هو؟. مع الوقت تعوَد على وضعيته الجديدة واقتنع أن قرينه هو شريكة حياته التي اختارها. بعد ذلك أصبح (هندريكس) يتمتع بالرجولة والخشونة ونجح في أعماله بعدما كان إنسانا وديعا، رهف الحس وفاشلا في حياته المهنية. لم يحدث هذا فقط معه فعندما أنجبت له زوجته/القرين طفلا أحس بفقدانه لطفولته فأصبح عنيفا ودمويا مع عمَاله. فجأة ساءت حالة  زوجته/القرين الصحية. لكن بعد وفاتها عاد واكتسب طيبته ورقته وأخيرا استرد شخصيته كاملة عندما فقد طفله/القرين.  نلاحظ في هذه الرواية أن القرين شهد انقساما إلى ثلاثة أجناس (البطل، المرأة، الطفل) وليس تعدَدا كما في القرين/التوأم مثلا. ويضيف (جون إهرسام وفغونيك) إلى ما كتبه (غويمار) و (ستراغليلي) اللذان يؤكدان أن القرين  يحدث بالتعدد أو بالانقسام وأيضا على شكل قرين الهلوسات الذي لا تراه إلا الضحية نفسها التي تعيش دراما تعدد الشخصية.[7] وقد يصْدق تودوروف عندما يقول في هذا المجال" بأن تعددية الشخصية هي، حرْفيا، نتيجة حتمية للتنقل بين المادة والروح، فإذا نحن أشخاص متعدﱢدون ذهنيا فسنصبح كذلك جسديا".

بعد تطرقنا لبعض الحالات التي يمكن أن يجسدها القرين سنعود لثيمة القرين/التوأم، ونستشهد بما كتبه أوتو غنك عن موتيف القرين، الذي هو ناتج عن ظاهرة ولادة التوأم. هذا الأخير يجسد وضعية فوق طبيعية. فظهور الإنسان وقرينه يعطي للتوأم سلطة ما فوق طبيعية خاصة عن الحياة والموت، بحيث أن الإنسان يولد ويجلب معه قرينه الخالد. فبعد إتمام المهمة يتحتم على أحدهما الموت؛ فهذا شرط بقاء الآخر في الحياة. هكذا يُعلٙن في بداية الرواية عن وفاة الأخ التوأم للسارد الرئيس في رواية صوت أمي لعبد القادر بنعلي ويكتشف القارئ لأول وهلة أن عائلة السارد تعاني حزنا شديدا لفراق الأخ/التوأم.

وتبدأ أحداث  هذه الرواية على إثر رنة تلفون. فبمجرد أن لمح السارد/المصور، الذي استطاع أن يثبت جدارته ويدخل مجتمع النخبة في هولندا، رقم تلفون أبيه عادت به ذاكرته إلى الوراء تماما كما أعادت حلوى" المادلين" ذاكرة " مرسيل بروست" إلى أيام طفولته ومجريات حياته.

إن عبد القادر بنعلي الذي ولد بالمغرب، عام 1975، والتحق بوالده مع أمه وهو في الرابعة من عمره، ترعرع في هولندا وأكمل دراسته بالجامعة العريقة لمدينة لايدن، يعتبر من كتاب المهجر الأوائل الذين يكتبون باللغة الهولندية وهو كباقي كتاب المهجر والمنافي الذين يجدون أنفسهم بين ثقافتين يحاول كل على طريقته التعبير عن انتماءه أو انتماءاته وإثبات ذاته وهويته. غالبا ما نجد ثيمة القرين أو الانتماء المزدوج في كتاباتهم كما في ثنائية الكاتب والروائي الطاهر بن جلون  طفل الرمال و ليلة القدر. إن مفهوم القرين تجسد في البطل وهو الشخصية الرئيسة " أحمد" الذي هو في نفس الوقت، أو بالأحرى، فتاة اسمها زهرة. قبل ولادتها صمَم والدها أن تولد ذكرا. هكذا كان المولود السابع مولودا ذكرا أمام الخاص والعام وكبرت زهرة وهي تلعب دور أحمد في حياتها العائلية والاجتماعية. يعتبر الطاهر بن جلون من خلال رواياته وكتاباته الناطق الرسمي عن وضع المرأة المهمشة والمضطهدة من قبل النظام ألبطريركي وعن العمال المهاجرين الغير المعترف بهم وبما يقدمونه للبلد المستقبل وعن كل الذين يعيشون على الهامش في مجتمعات بلد المهجر(هنا فرنسا) أو غيرها. إن بن جلون قد لا يعاني من الانتماء المزدوج بل يعتبر من كتاب الجيل الأول الذين يساهمون بالأخص في التنوع الثقافي وربط  الجسور بين شعوب وحضارات بلدان الشمال والجنوب.  أما بالنسبة للجيل الثاني الذي ينتمي إليه الكاتب والروائي عبد القادر بنعلي فشغله الشاغل كذلك  إثبات الذات وشرعية وولاء المهاجر للبلد الذي ترعرع فيه وهو يعتبر نفسه ينتمي إلى هذا المجتمع  المتعدد الثقافات المعترف بها وله كل الحق في ذلك.
 

[1] Otto Frank, Don Juan et le Double, traduit par le Dr. S. Lautman, Editions Denoël, Paris, 1932, p.4

[2] Clément Rosset, le Réel et son double, Editions Gallimard, Paris, 1976, p. 87

[3] Ibid, p.13

[4] Ibid, p.38

[5] Ibid, p.44

[6] Franz Hellens, Le double et autres contes fantastiques, Espace nord, Bruxelles, 2009, p.293

[7] Ibid, p.290

المصادر:

بتول الخضيري، كم بدت السماء قريبة !!،  المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999

Abdelkader Benali, De stem van mijn moeder, De arbeiders, Amterdam, 2009

Collette Audy, Sartre et la réalité humaine, Editions Sechers, Paris, 1966

Marcel Brion, L’Allemagne Romantique, Novalis, Hoffmann, Jean Paul, Eichendorf, Editions Albin Michel, Paris, 1963

Michel Guiomar, Miroirs et Ténèbres, Librairie José Corti, Paris, 1984

Jean-F, A. Ricci, E.A.T, Hoffmann, L’homme et l’œuvre, Librairie José Corti, Paris, 1947

Sartre J. P., L’imagination, Presses Universitaires de France, Paris 1948

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter