| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 27 / 7 / 2024 نبيل يونس دمان كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
قصة الإمراة الأرمنية التي رقدت في مقبرة القوش
نبيل يونس دمان
(موقع الناس)
مأساة الشعب الارمني في تركيا كبيرة ومن هولها تشيب الوِلدان، وتنحني حزينة قمم جبال سيݒان وأرارات، وتذرف الدمع سخياً بحيرة وان ونهر أراكس، لقد ارتكبت الجرائم والفواحش بحقهم تلك التي افتُتح بها القرن العشرين، وصحى العالم على تلك الجرائم النكراء، من قتل جماعي، وتهجير قسري، وضياع في الطرقات، ومداخل الوديان، وسفوح الجبال، وعرض الصحراء، وهم عُرضة للنيران، والخطف، والاغتصاب.
هكذا بدأت قصة عائلة الفتاة مريم عمانوئيل مورسيليان المولودة عام 1902 والملقبة باجي التي هي كلمة تركية بمعنى خاتون، كانت عائلة عمانوئيل تسكن قرية في ارمينيا وتعيش على الخيرات التي تجنيها من الكدح المضني، كانت في القرية طاحونة الحبوب ونهر جاري، عندما اندلعت الحرب العالمية الاولى وصدر بحقهم فرمان (أمر) الإبادة، اضطربت القرية، هناك دعى عمانوئيل اهالي القرية والمختار ليلا لشرب القهوة في بيته وبعدها قال لهم اوصيكم بأولادي وعائلتي، فقالوا له "لا عليهم شيء وانت موجود" ثم ترخص منهم قائلاً "سوف اضطجع قليلا لاني اشعر بالنعاس ابقوا جالسين" ، فدخل غرفته وهناك إنقضّ عليه الموت وخطفه من بينهم الى الأبد.
عند اندلاع المشاكل بين الارمن والاتراك والاكراد كان الوالد يملك بندقيتين، احداهما سلّموها للحكومة والثانية ابقتها الام معها لتحمي بيتها، وكانت حسب ما يروى امرأة قوية ومتينة قالت قولتها "ان اقترب منّا احد أقتله" ثم ابتدأت مأساتهم بترك القرية والنزوح جنوباً، في الطريق فُقدت ابنتهم الصغيرة، هكذا لم تقوى رجلاها الصغيرتين على المشي، وتعب الباقون في حملها والمسافات طويلة ولا يعرفون نهاية لها، لذلك تركوها عند صخرة ووضعوا بجانبها بعض الطعام والماء ومضوا، وظلت امها تلتفت الى الخلف والدموع تفيض من عينيها على فلذة كبدها. بقيت باجي واخويها سركيس وميناس، ثم واصلوا طريقهم الصعب. كان عمر باجي في حدود 12 سنة عندما كانت والدتها تصبغ وجهها بالفحم او الصخام (شَخوري تباثه) على طول الطريق، لكي لا يظهر جمالها خوفاً من طمع الغرباء، حتى وصولهم سوريا ثم سنجار وعلى مشارف تلعفر لحقهم شخص "عفري" يمتطي حصاناً، فطلب منهم اعطائه مبلغ من المال حتى يحميهم، فرشوه بالاموال المتبقية معهم، سار معهم مسافة عبروا فيها تلعفر ثم موقع "البوماريا" وتوقف دون ان يعبّرهم ماء نهر دجلة قائلاً "هذا حدّي معكم" ، فاعتمَدوا على انفسهم حتى بلغوا الموصل، هناك طلبوا ارسالهم الى قرية مسيحية، فاستقر بهم الحال في القوش.
أرملة المرحوم سلّومي صارو كان اسمها "ببّي" وهي اخت دنو كجوجا واخت موني ام شابينا وﭽتو رمو، كانت امرأة مدبرة وشجاعة، تكلمت معها احدى النساء قائلة: لماذا لا تخطبي الفتاة الارمنية الى ولدك، فاقتنعت بقولها وذهبت الى وادي في البلدة تكثر فيه آبار الماء ، شاهدت الفتاة واعجبتها فخطبتها من امّها لأبنها صادق، فوافقت امها قائلة: خذوها بدل ان يأخذها الغرباء.
عندما ارادوا عقد قرانهم امتنعت الكنيسة بحجة انها ارثوذوكسية، فشمر عن ساعديه القس كوريال ججو دمان المرسوم كاهناً في قوجانس بتركيا وهو الملقب (قاشا قريشو لفقر حاله وسكنه في بيت طيني) فعقد قرانهما واصبحا زوجين، وكانت باجي قد بلغت من العمر الرابعة عشر، وهي تلك الفتاة المهذبة الخجولة، يحدثونا عنها انها كانت تدعى للفطور مع عائلتها الجديدة لكنها كانت تقول "لا عليكم خلصوا انتم الاول وانا بعدين" . بعد مدة قصيرة جاء البطريرك مار عمانوئيل تومكا من قلايته في الموصل لزيارة بلدته، وسمع بقصة الزواج وامتناع قسس الكنيسة عن عقد البوراخ، فقال البطريك ليأتوا للكنيسة وانا اعقد ارتباطهم الكنسي، وتم ذلك وسط ارتياح الجميع، مما حدا بحماتها ببي كجوجا ان تنقده 10 دنانير، فرفض قبول المبلغ ولكنها اصرت على ذلك، وكانت حالتها جيدة بفعل عملها قابلة او جدّة، وكذلك امتلاكهم عقارات في القوش وبهندوايا وتلخش خلف جبل القوش.
كانت باجي تتكلم الارمنية والتركية ثم شرعت بسرعة تتعلم السريانية، بقيت فترة بعد زواجها في القوش ثم صعدوا الى قرية تلخش، هناك عملت مع عائلتها وزوجها في الفلاحة وتربية المواشي، وفي فترة الفرمان بقتل الاشوريين عام 1933 حدثت اضطرابات في المنطقة مما اضطرهم للنزوح من قرية تلخش، وفي تلك السنة عصفت بهم الاحداث وكانت باجي تمسك بندقية نوع انكليزي وتحرس بيتها واطفالها، ايضا احترقت بيوتهم الطينية (قْريشي) وماتت ماشيتهم ولم يحصدوا الحنطة، فتحضروا في ليلة ليلاء ان يتركوا تلخش وفي الصباح كانت املاكهم قد نهبها الغرباء، فعادوا الى القوش. حدثني ولدها منصور بانه في طفولته كان في تلخش، وينزل كل يوم من الجبل مع اطفال القرية قاصدين مدرسة مار ميخا في القوش، وعند انتهاء الدوام يعودون مرتقين الجبل.
قبل سنين تركت امها واخوانها القوش الى الموصل ثم بغداد ليستقروا فيها، وبعد وفاة زوج ابنتها صادق سلّومي عام 1940 جاءت امها من بغداد، وخاطبت ابنتها قائلة: انظري الى صدري، من هذا الصدر ارضعتك، والحليب الذي رضعتيه يكون حرام عليك اذا تركت اولادك وتزوجت، علما بانها كانت في عز شبابها وجمالها، في ذلك الزمن المرأة في حالتها تترك اولادها وتتزوج، بقيت امينة على وصية امها لم تتزوج رغم تقدم العديد من الرجال لخطبتها. ثم جاء اخيها سركيس وقدّر ان ضنك العيش سيكون بانتظارها، فطلب منها النزول مع الاولاد الى بغداد عندهم، وليشاركوا بعضهم في السراء والضراء. هكذا اخذت باجي اولادها ونزلت الى بغداد لتعمل خادمة في البيوت تغسل وتنظف ولسنوات عديدة، فيسّرت معيشتهم وانقذتهم من الفاقة والحرمان.
كانت باجي أمية لا تقرأ ولا تكتب، لكنها تعلمت مهنة التوليد من حماتها ببي منصور كجوجة وأجادتها، حقيقة بدأت بممارسة مهنة التوليد عام 1946، ثم ذهبت الى الموصل بهدف الحصول على اجازت التوليد، وفعلاً نالتها عام 1954 وكانت متفوقة في تقدمها للاختبار هناك، رغم عدم ذهابها الى المدرسة لكنها كانت تحمل فكراً راجحاً وصارت تمارس تلك المهنة بنجاح كبير، حيث ارتاحت على يدها النساء الوالدات، ومنهن والدتي كرجية حيث ولد اخواني وداد، فريد، كفاح، واناهيد (1967) على يديها، كانت عندما تشعر بان الولادة عسيرة ولا تستطيع التحكم بها، توصي بنقل الام الى المستشفى في الموصل، هكذا لم يمت طفل او ام الطفل عندها.
اما بقية قصة اخوانها، سركيس اصبح قسيساً وكان له محل تصليح التلفزيونات في ساحة الطيران، وله ابن اسمه ناثان درس وتأهل في لندن، لكنهم تعرضوا للاضطهاد بعد عام 1968 وسجن ابن اخيها مانوئيل ميناس الذي كان مدير مكتبة الكتاب المقدس في بغداد، ففتشوا عنه في كل مكان وسألوا عنه كثيرا لكن دون نتيجة فاصبح مصيره مجهولاً، مما حدى باسرة سركيس ترك بغداد والتوجه الى بيروت، وبعد مدة اطلق سراحه فخابر بيت سركيس ولكنه لم يتلق جواباً، واتصل باحد اصدقائه فاخذه الى بيته ليتفاجأ بوضعهم الذي يرثى له، ثم بمساعدة الخيرين تلمّسّوا طريقهم الى بيروت، ثم استقروا جميعاً في اميركا.
اخيراً تمرضت باجي وذهبت للعلاج في بغداد، ولكن القدر كان لها في المرصاد، فسلمت نفسها للموت بتاريخ 14/ تموز/ 1968 رحمها الله واسكنها فسيح جناته، حمل جثمانها الى القوش وفي الكنيسة القى اخيها سركيس كلمة بليغة باللغة الارمنية، تحدث فيها عن تاريخ العائلة والمآسي التي تعرضت لها، وكان يترجم الى العربية ابن اخيها الآخر مانوئيل ميناس، ثم دفنت في مقبرة القوش ولا زالت شاهدة قبرها بارزة في المقبرة القديمة. تلك قصة الإمرأة الأرمنية التي لها من الاولاد ستة، ثلاثة بنين وهم: سليمان، يلدا، ومنصور، وثلاث بنات هن: وردية، ريجينة، شكرية ومن الاحفاد ما مجموعهم 43 والبقية من اولاد الاحفاد بالعشرات وربما تجاوزوا المئة، عرفناهم جيداً ناس طيبين وأصلاء، وبهذه الكلمات النابعة من القلب اختتم الموضوع.
ملاحظة:
ارحب بالملاحظات التي تصحح المعلومات والتواريخ، او تضيف معلومة جديدة جديرة بالإضافة للتوثيق.
المصادر:
من بيانات الكنيسة، واحاديث اولادها واحفادها خاصة متي وسعيد، واخرين من اهالي القوش.