|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأربعاء  25 /  9 / 2013                                    نبيل عودة                                كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

يوميات نصراوي:

أزاهر بأريجها هذي الدنا تتعطر (1)

نبيل عودة *

ما زلت احتفظ بذكريات تراودني بين فينة واخرى..ثم تغيب عن الذاكرة سنين، بشكل فجائي لا تفسير له يعود الحدث بكامل تفاصيله قويا في ذاكرتي وكانه شريط فيديو مسجل. بعض التفاصيل غير المهمة ضاعت من ذاكرتي، لكنها لا تضر بالصورة عن الأشكال النضالية التي مارسها جيل الطليعة، عن جرأته وثقته بنفسه وطريقه وفكره واكاد اقول انه جيل لم يكن يعرف الخوف والتردد في مواجهة المخاطر من اجل فكرة وطنية سامية. جيلا شكل نموذجا للكثيرين من ابناء جيلي، كنا نحلم ونحن نحبو على ابواب العقد الثاني، ان نصبح شبابا اقوياء لنواصل ما بدأوه...

بعض الاسماء لا تغادر ذهني، منها اسماء رزق المشهور بجرأته واقدامه ، جوزيف الهادئ الرصين ، النعيمان اللذان لا يعرفان التردد، سهيل فنان الخط الذي يكتب بسرعة واتقان مستعملا الفرشاة ، البير الفنان الرسام المبدع للوحات السياسية وغسان المنظم الذي يقود "غرفة العمليات النضالية" (اذا صح التعبير) وآخرين ضاعت اسمائهم من ذاكرتي.. لا اذكر اسماء عائلاتهم لأني لا اعرف كل الأسماء ولست متأكدا من جميع الأسماء، لذلك اقول ان بيتهم وعائلتهم هي منظمة الشبيبة الشيوعية في الناصرة.

معظمهم اصبحوا نزلاء في العالم الآخر لكنهم أحياء بيننا بسيرتهم وبما تركوه في ثقافة ابناء جيلي من نموذج للإنسان الثوري والوطني الذي يضع مصلحة شعبه فوق اي مصلحة اخرى، لم ترهبهم السجون، لم يكسرهم العنف والقيود على مصدر رزقهم، كان ايمانهم بشعبهم وحقوقه يجعلهم اصلب من الفولاذ، سيرتهم كانت وراء قناعتي ان لا اهاجر من وطني حين تملكني اليأس بسبب القيود العسكرية التي فرضت علي في شبابي المبكر... لذا لم اغادر وطني "قسرا".

كنت شبلا في منظمة تحمل اسما رمزيا "ابناء الكادحين" حيث تلقينا ثقافتنا السياسية والفكرية الأولى، لم نكن نُحمل واجبات نضالية، بل لا نعرف بشكل مباشر شيئا عن الذين ينفذون المهام النضالية ليلا مثلا.. رغم انني كنت اعرف من يكتب الخط بهذا الاتقان وتلك السرعة على الحيطان، كـأنه ماكينة طباعة مشحمة جيدا. لم يكن صعبا علي ان اعرف من ينفذ النشاطات التي تثير غضب الشرطة والحاكم العسكري، لكننا تثقفنا ان نحافظ على سرية نشاطنا واسماء رفاقنا ، بسبب سياسة الارهاب والتضييق على الرزق التي كانت تمارس بكل قساوتها وعنفها.

بورسعيد عربية والقناة مصرية

العام 1956.. العدوان الثلاثي على مصر.. كنت في التاسعة من عمري.. الجو كان مشحونا بالتوتر والارهاب، ظهرت شعارات على الحيطان، اذكر منها: "يسقط العدوان الثلاثي على مصر" و " بورسعيد عربية والقناة مصرية" وشعارات اخرى لا تسعفني الذاكرة باستعادتها. الشعار الأخير كان ردا على مطالبة اسرائيل بفتح قناة السويس امام الملاحة الاسرائيلية.. وهي التي نظمت وشاركت بالعدوان الثلاثي على مصر الى جانب الاستعمارين العجوزين بريطانيا وفرنسا، لكن جاء الانذار الروسي وقتها داعما لصمود الشعب المصري ونظام جمال عبد الناصر الوطني فتراجع الثعالب عن عدوانهم على مصر، انسحبوا من الاراضي المصرية وانسحبت اسرائيل من "مملكة سليمان الثانية" وهو الاسم الذي اطلقه بن غوريون على سيناء المحتلة تيمنا بعودة مملكة سليمان الكبرى من النيل الى الفرات.

كانت بلدية الناصرة في تلك الأيام تحت سيطرة قوى لا تجرؤ على معارضة السلطة، بل تخدم سياستها . كما يبدو ان البلدية بادرت، او أمرها الحاكم العسكري، ان تمحو فورا الشعارات التي ملأت حيطان الناصرة ضد العدوان على مصر. قام عمال البلدية بدهن الشيد على الشعارات ، فاختفت تحت اللون الأبيض، ما اتذكره كفتى ان كادر الشباب الشيوعيين بدأ يفكر كيف يزيل الشيد عن الشعارات بطريقة سريعة وسهلة بدل كتابتها من جديد. كانت دوريات الشرطة جاهزة لالقاء القبض على كل من يحمل علب الدهان، خاصة في ساعات الليل وتتهمه بكتابة الشعارات.

اتذكر انهم احضروا مضخات يدوية بسيطة كنا نستعملها لرش المبيدات الحشرية ( الدي . دي . تي ) في منازلنا للقضاء على البعوض ولسعاته المؤذية وعلى تكاثر الذباب في المنازل. كتبوا بالدهان على حائط في النادي جمل عشوائية وطلوها بالشيد، جربوا الماء كما اذكر لإزالة الشيد عن الدهان، لم تنجح التجربة ، ثم جربوا الكاز، نجحت التجربة وزال الشيد عن الدهان وبدى الشعار اكثر بروزا وكأن الشيد دهن خصيصا ليكون خلفية للشعارات.

هكذا مع مضخات (الدي.دي. تي) معبأة بالكاز جرى رش الكاز على الشيد الذي طليت به الشعارات، فجرا ظهرت الشعارات أكثر قوة واكثر توهجا بخلفيتها البيضاء...

غضبت السلطة العسكرية وامرت البلدية ان تسارع الى ازالة الشعارات.

ارسلت البلدية المرعوبة من الحاكم العسكري عمالها مع المطارق والأزاميل "لتنقية" الحيطان من الشعارات، العمال المساكين نفذوا اوامر مديرهم بان تزال الشعارات بواسطة المطارق والأزاميل .
حفروا .. فصار الشعار محفورا في الحائط، بعد يوم جلبت البلدية عمالها مع اكياس الإسمنت والرمل لاغلاق الحفر في الحيطان ، فبرزت أكثرية الشعارات بقوة باللون الرمادي، لون الاسمنت، اعتقد ان العمال حفروا الشعارات بطريقة تحافظ على النص، ليس صدفة انما بقصد واصرار مسبقين. كما يبدو زهق الحاكم العسكري من غباء البلدية وعمالها ، اذكر ان بعض تلك الشعارات ظلت محفورة على الحيطان لسنوات طويلة جدا، حتى بعد سقوط الحكم العسكري بالتصويت ضده في الكنيست( البرلمان الاسرائيلي).

كيف شارك الحكم العسكري بشنق نفسه؟؟

فُرض الحكم العسكري على العرب داخل اسرائيل بعد اقامة الدولة العبرية على انقاض الشعب الفلسطيني. الحكم العسكري هو قانون انتدابي بريطاني بالأصل.الغي الحكم العسكري في فترة ليفي اشكول رئيس حكومة اسرائيل الثالث بعد بن غوريون وموشية شاريت، اثر معركة سياسية شعبية وبرلمانية عام 1966. المضحك ان نواب عرب في الكنيست تابعين لحزب السلطة مباي( اليوم حزب العمل) صوتوا ضد الغاء الحكم العسكري لأنه كما قالوا "مفيد للعرب"، حسب النظرية الصهيونية التي جعلتهم مخاتير سياسيين على الأقلية العربية، سم الكوبرا ايضا (حسب مفاهيمهم) مفيد للعرب، ليتهم جربوه وخلصونا من مهازلهم وما اكثرها ، اذ كان عضو الكنيست منهم يصوت ليس حسب ما يفهم ويستوعب، بل حسب تصويت رئيس حكومته، احيانا يغرق البرلماني العربي "ابن السلطة" بغفوة عميقة لانه لا يفهم ما يدور حوله،يصاب بالملل. عند التصويت ولضرورة صوته، "يلكزه" احد مسؤولي حزبه ليرفع اصبعه دون ان ينتبه لموضوع التصويت، وحدث ان بعضهم رفع اصبعه تأييدا لموقف المعارضة بدون قصد طبعا،او رفع اصبعه وحيدا قبل بداية التصويت دون ان ينتبه ان التصويت لم يبدأ بعد ، فكان أشبه بعريس الغفلة!!

المعركة ضد الحكم العسكري من اجل الغائة لم تتوقف او تخف حدتها اطلاقا. كان الحكم العسكري يفرض النفي على قياديين شيوعيين ، يفرض الاعتقال الاداري، اثبات الوجود، تحديد التنقل وهو ساري المفعول اليوم ضد ابناء شعبنا الفلسطيني في المناطق الفلسطينية المحتلة، حيث تزج سلطات الاحتلال بعشرات المعتقلين الاداريين بدون محاكمات ولفترات لا نهاية لها..

لا اذكر تاريخ الحادثة التي سارويها ، حدثت كما اذكر بين اعوام 1955- 1959. قررت الشبيبة الشيوعية في الناصرة ان تساهم في النضال ضد الحكم العسكري حسب طريقة جديدة مبتكرة.

انتجوا لعبة كبيرة عبأت بنشارة الخشب، فاكثريتهم كانوا عمال نجارة، كتبوا على صدر اللعبة وظهرها "الحكم العسكري" طوقوا رقبة اللعبة بحبل للشنق، في احدى الليالي تسلق احد شباب الحركة خفيفي الحركة شجرة سرو شاهقة العلو كانت بجانب عين العذراء على الشارع الرئيسي للناصرة، علق لعبة القش التي سميت "الحكم العسكري" في اعلى نقطة على شجرة السرو الشاهقة وتدلت مشنوقة ... فجرا تجمع النصراويون يضحكون ويصفقون لشنق الحكم العسكري.

ثار غضب الحاكم العسكري الذي جاء مع مدير الشرطة ليشاهد السخرية من جهازه. طلب سيارة خاصة مع رافعة ، لينزل اللعبة المشنوقة ويوقف المهزلة من الحكم العسكري.

صعد شرطي في سلة الرافعة، لكنها لم تصل للحبل ليفكه ويحرر لعبة الحكم العسكري من حبل المشنقة.
انزل للأرض واعطي خنجرا ليقطع اللعبة اربا، بنفس الوقت غيرت الرافعة مكانها مقتربة اكثر من السروة الشاهقة ورفعت الشرطي مع الخنجر بيده من جديد ، مد الشرطي يده بالخنجر الى اقصى ارتفاع تمكن من وصوله، فوصل الى رقبة اللعبة، وبدأ "يذبحها " ونجح بفصل جسد اللعبة عن راسها، فسقط الجسد والرأس على الأرض مفصولين عن بعضهما وتناثرت نشارة الخشب بالجو كأن السماء تندف ثلجا لونه أصفر.. والجماهير المتجمعة لمشاهدة اجمل عرض في مدينة الناصرة، تضحك، تصفق وتهلل، احتفالا بالشنق الناجح للحكم العسكري.

ملاحظة:
نخوض اليوم معركة انتخابية ، وعلى راسها معركة انتخابات بلدية الناصرة، معركة كل العرب في اسرائيل، التطاول على التاريخ الشيوعي ودور الجبهة في الناصرة على الأخص تجاوز حدود الادراك العقلي البسيط. البعض يريدنا ارهابيين في سيناء، آخرون يريدوننا منظرين لشيوخ البترول في قطر. تشويه التاريخ هو تطاول على جيل قدم ارواحه، دمه ومستقبله من اجل ان نكون اليوم شعبا شامخا، مثقفا، واعيا لحقوقه، بفضلهم نحن اليوم قوة سياسية لا يمكن للسلطة تجاهلها. يوجد حوار ليس سهلا والويل لمؤسسة سياسية تخاف الحوار والنقد، اما التطاول على التاريخ والظن ان الوطنية والنضال هما وليدا عبقرية "المفكر" الذي التقى مع القرضاوي في خانة النفط القطري فهذا قمه المهزلة السياسية.

ظننت ان بعض الإتزان لن يضر بحزب المفكر ومرشحته لرئاسة بلدية الناصرة، توسمت خيرا بها ،لكن تبين انها مرشحة للرئاسة فقط. اي لن تكون عضوة بلدية، العضوية ليست من شيمها القومية، اما رئيسة بلدية او عضوة كنيست لا تقوم بدورها.

هل نفهم ان فوزها برئاسة البلدية سيجعلها رئيسة بالاسم فقط؟

اتفاجأ ان لا شيء جديد تحت الشمس، في كل دورة انتخابية لحزبها تنفيسة هواء جديدة سيئة الرائحة..اذكر منها حملتهم التحريضية على موظفي البلدية ومعاشاتهم.. امام تطاولهم وجدت من الأنسب ان اكتب حلقة جديدة من "يوميات نصراوي" عن الجيل الذي صنع التاريخ وابتكر اساليب نضالية في جو ساده الارهاب البوليسي وسطوة الحكم العسكري. لعل في استعادة التاريخ الذي لم يسجله المؤرخون دلالة للوطنية الحقة.

الأبطال الذين استعيد ما بقي في الذاكرة من بطولاتهم، هم وطنيون منغرسون بارض الوطن ودفعوا ثمن وطنيتهم ولم يهربوا لأحضان أحد.
 


(1)
قالوا شيوعيون قلت ازاهر باريجها هذي الدنا تتعطر – (من قصيدة لتوفيق زياد)
 

 

* كاتب ، ناقد واعلامي فلسطيني - الناصرة
رئيس تحرير جريدة "المساء" اليومية – www.almsaa.net
 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter