|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  3  / 12  / 2022                                نصير عواد                                 كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

خبراء خارج قائمة المطلوبين

نصير عواد
(موقع الناس)

الذين نتحدث عنهم يحملون ألقابا وشهادات، وتجري استضافتهم لألقاء محاضرات في جامعاتٍ مرموقة عن التنمية والمناخ ومستقبل الأجيال. مهمتهم تنفيذ مشاريع اقتصاديّة على الورق، تنسجم مع سياسات البنوك الدوليّة، لا يهم كثيرا إن كانت لا تتلاءم مع حاجة البلدان الفقيرة. كثير من هؤلاء الخبراء آذوا ومضوا في طريقهم دون انتقاد للذات والتجربة، باعتبار ذلك جزء من حقيقة الصراع الأزلي بين الغنى والفقر. وبعض منهم توقف عند تجربته المخزية بعد ان شعر بالألم من دوره في تسميم الأنهار وتدمير الغابات وإفراغ المناطق من ساكنيها. هم على العموم كانوا يشتغلون خبراء لدى الشركات الكبرى والمؤسسات الدوليّة، محميون بقوانين الدول العظمى، مهمتهم اختلاق التقارير وتزوير الانتخابات والتخطيط للمؤامرات. صحيح ان وضع هؤلاء الخبراء الموهوبين ليس مضمونا على الدوام، فهم براغي صغيرة في آلة همجية ستسحقهم عند تقاطع المصالح، ولكن يبدو ان تعرض هؤلاء الخبراء للسحق هو الذي يجعلهم فجأة يقررون ان يكونوا إنسانيين ومبادرين إلى الاعتذار، ومن ثم رواية حقيقة أدوارهم المشبوهة. بالطبع لا يمكن التشكيك بمصداقية هؤلاء الموظفين الذين نتحدث عنهم، فغالبا ما تكون اعترافاتهم معززة بالوثائق والمسودات والذكريات وتفاصيل اللقاءات، ولكننا نشكك بأغراضهم. إنّ الاعتراف بالذنب وكشف الحقائق ليس سيئا بطبيعته، لكن ظهوره بشكل متأخر، بعد خلاف مهني واخراج صاحبه من المنصب واحالته على التقاعد، هو الذي يزيد من انحناء علامات الاستفهام خلف الاعتراف المتأخر بالخطأ. فالاعتراف هنا قد يفيد صاحبه، وليس بالضرورة يفيد الذين تضرروا منه، بعد عشرات الأعوام على وقوع الخراب. وإذا كان الاعتراف بالذنب يتضمن شيئا من الاعتذار فالاعتذار هنا لمن؟ فهؤلاء الخبراء لم يمارسوا أفعالهم ضد فرد او عائلة، هم مارسوها ضد شعوب ودول ما زالت خربة ومديونة جراء افعالهم.

في مقالنا نحن غير معنيين بالجانب الشخصي للخبير وكم من الأموال يتقاضى، كذلك لا نلح على اثبات نظرية المؤامرة في هذا المضمار، ولكننا نتحدث عن حقائق موثقة لشعوب ورثت تركة ثقيلة من الديون والمعاهدات المذلة، كان فرسانها خبراء المؤسسات المالية. جون بيركنز، على سبيل المثال لا الحصر، نموذج أمريكي عن الاعتذار المتأخر، عمل طويلا على تقديم مشاريع تنمية للبلدان النامية، كانت تنسقها وتخطط لها المؤسسات الماليّة العالميّة. ثم كتب بعد أعوام عن دوره في اصطناع التقارير وتنفيذ الانقلابات وتزوير الانتخابات في الدول التي كانت شعوبها تئن وتعاني. ففي كتابه "الاغتيال الاقتصادي" لم يتحدث بيركنز عن شعوره يوم كانت اموال تلك المشاريع تتنقل حصرا بين بنوك الولايات المتحدة، وكيف كان على البلدان النامية دفعها كقروض طويلة الأجل. ولم يتحدث عندما كان يتجول بين الدول المضطربة والفقيرة، كخبير اقتصادي، عن دوره في عرقلة تلك الدول على سداد القروض كي تبقى مدينة للبنوك الدولية، حيث سيُطلب منها لاحقا الخضوع لسياسات الغرب، إن كان عبر السيطرة على موارد البلد او إقامة قواعد عسكريّة على أراضيها أو ضمان صوتها في الأمم المتحدة. يومذاك لم يتحدث بيركنز عن نذالة مهمته في البحث عن رؤساء يمارسون الكذب والقمع على شعوبهم، ولديهم الاستعداد على تنفيذ التعليمات القادمة من خلف الحدود. ثم يأتي هذا الــ"بيركنز" بعد أعوام طويلة على خراب هذه البلدان، وبعد ان اختلف هو مع مسؤوليه، ليتحدث عن صحوة ضميره ويروي كلّ ذلك معترفا (كان ينبغي ان أدرك أني قرصان اقصاد). اعترافات بيركنز المتأخرة تتسم بالتواضع، وفيها الكثير من الوثائق والحقائق، إلاّ ان الجانب السيء من الاعتراف بالذنب هو الاستمرار باللعب دون دفع الثمن. فــ"جون بيركنز" لم يُحاسب أو يُعاقب على أفعاله، وان اعترافاته التي دغدغت مشاعرنا وسذاجتنا لم توقف مسلسل تدمير الشعوب بأساليب مستحدثة وبخبراء جدد سيدلون بدورهم باعترافاتهم واعتذاراتهم.

جون بيركنز لم يكن سوى مثالا هشا لرجل استيقظ ضميره وتسبب بضررٍ لطبقته ومسؤوليه، فهناك الكثير من الموظفين الذين عملت الدوائر الغربية طويلا على تدريبهم وتسويقهم كخبراء، يجيدون اللعب في المساحات التي تتركها أزمات الشعوب، وما ان يقع بلدا بين أيديهم حتى يتكالبوا عليه ليحلبوه إلى آخر قطرة. خبرتهم الواسعة، والدعم اللامحدود من المؤسسات المالية، مهدت لهم التحكم بحياة الشعوب والاستحواذ السلس على خيراتها، عبر مشاريع تنمية هم يقرروها في مراكز أبحاث ومؤسسات تعمل في قارات بعيدة. كان فيها الاتفاق مع اثرياء البلدان الفقيرة، وربط مصالحهم بالبنوك العالمية، هو أحد المدخل للتحكم بطبيعة المشاريع، وهو ما يفسر بقاء الدول الفقيرة على فقرها. وأي سياسي او مثقف أو وطني يعترض خطط هذه الثلة من الخبراء فهو ارهابي محتمل أو شيوعي كافر أو تابع لمحور الشر. والمشكلة ان هؤلاء الخبراء يقدمون أنفسهم على انهم الحل المقبول في الساحة، وأنهم يساهمون بنهب خيرات الشعوب بطريقة أقل عنفا، ففي حال فشلوا في مهمتهم ستبدأ مرحلة التخريب الاقتصادي والمؤامرات والانقلابات العسكريّة، او اشعال حروب جانبية يبيعون فيها أسلحة للجهتين، ثم يعرضون الوساطة للتدخل بحل النزاع، كما حدث في سوريا وليبيا.. وإذا فشلت كلّ هذه السيناريوهات سيأتي دور الجيوش والاساطيل الغربية لاحتلال البلد وتدميره، كما حدث بالعراق وليبيريا وبنما والاكوادور..؟
ساسة الغرب هم الذين سنّوا سُنّة الأذى ثم الاعتذار المتأخر، ولكن في شرقنا المضطرب لا يوجد لدينا هذه العينة من الخبراء والمؤسسات المالية الكبرى، وبدلا عن ذلك توجد لدينا نماذج سياسيّة كاركتوريّة انتهى دورها، وكتبت مذكّراتها معتذرة فيها عن أخطائها، ولكن من دون مغادرة اللعبة. وحتى لا نذهب بعيدا فقبل أيام انتهت فترة رئاسة اللبناني "ميشيل عون" بصفر إنجازات، لكن الرجل انتظر حتى آخر يوم لأنهاء عهدته الرئاسية لكي يتحدث عن لبنان المخطوف وعن العصابات المسيطرة على مقدرات البلد، مطالبا الحكومة المؤقتة التي يرأسها نجيب ميقاتي للاستقالة بسبب الفساد المستشري فيها. والسؤال هو أين كنت أيها الرئيس عن هذه المفاسد وانت كل هذه الأعوام على هرم السلطة. خطاب الرئيس عون المنهك، الموجه إلى شعبٍ منهك، هو خطاب يثير الشفقة، مثل اعترافات جون بيركنز في كتابه "الاغتيال الاقتصادي" فذلك يهدف للضحك على مواطنين عارفين بظروفهم، وغير قادرين على تغييرها. على الأرجح ان "ميشيل عون" سيبادر في القريب العاجل إلى كتابة سيرته اللامعة، سيروي فيها عن بطولاته وانجازاته، وقد يعتذر فيها عن اخطائه. ولكن يبقى السؤال المثقل بالمرارة؛ ما فائدة الاعتذار المتأخر؟
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter