| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأحد 25 / 8 / 2024 نصير عواد كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
عندما يخسر التلْفاز موقعه
نصير عواد
(موقع الناس)
في زمنٍ آخر، عدّه كثيرون زمناً جميلا، لم ينشغل الآباء بتوجيه أبنائهم أي من البرامج التلفزيونية يُسمح بمشاهدتها، وأيها لا، فلقد كانت القنوات التلفزيونية بالعراق تُعد على أصابع اليد الواحدة، تجلس العائلة بغرفة المعيشة قدام الشاشة من دون اعتراض او تبطّر، تشاهد ذات البرامج من دون فترات مخصّصة لهذا الجيل او ذاك. أتذكر هذا المشهد البكر لعائلة يجمعها صندوق بالأبيض والاسود، في حين تنتشر اليوم العشرات من القنوات التلفزيونية الملونة وآلاف البرامج المقلّدة والوجوه التي مسحت ملامحها طبقات الزيوت وعمليات التجميل. يقدمون على شاشتها برامج مملة ومستعارة وخادشه أحيانا، زاعمين ان المجتمع العراقي بات منفتحا بعد الاحتلال، وأن لا خوف على قيّمه وأخلاقه. في عراق اليوم توجد (57) قناة تلفزيونية، وهو رقم يعادل ما موجود في أربع دول أوربية: بلجيكا (20) قناة، النروج (23)، سويسرا (11)، استونيا (4). يقف خلف تمويل القنوات العراقية رجال أعمال وزعماء أحزاب وأمراء حرب، استخدموا مباني الدولة واشتروا أجهزة تصوير حديثة واستقدموا أشهر مقدمي البرامج وألبسوا القنوات عناوين احزابهم وتياراتهم: الغدير، بدر، العهد، الولاء، كربلاء، سرايا السلام، النجباء، الحشد الشعبي، الامام الغائب... وغيرها من القنوات التي تشرف عليها وتدعمها إيران. وأغلب الظن ان هذا الانفلات الإعلامي (57 قناة) لم يكن سببه الوحيد دخول الاحتلال، أو فقط التنافس الإعلامي مع التيارات الأخرى، ففي جزء منه كان رد فعل على هيمنة الاتجاه القومي الذي فرضه النظام السابق. يومذاك كان نشاط الأحزاب الإسلامية على شريط كاسيت تتبادله الأيدي، كصوت فقط، وبعد الاحتلال اكتشفوا تأثير الصورة في صنع ثقافة تروج لمشروعهم السياسي. وهذه الطفرة، من الكاسيت إلى الصورة، من دون المرور بحقول أدبية وفنية وعلمية، ألهت الإسلاميين عن حقيقة ان الواقع العراقي أكثر تعقيدا، وأن شحن التلفزيون بالمشاريع المنجزة والمسلسلات التركية وبرامج الوعظ التي تظهر رجل الدين أكثر ورعا، قد لا تجذب المشاهد. ليس فقط لأن الكذبة كبرت وصار يعرف تفاصيلها الصغير قبل الكبير، بل لأن ثقافة المجتمع العراقي كانت قد تنوّعت وتشابكت من أعوام طويلة؛ تارة أممية، وتارة أخرى قومية، وثالثة دينية ورابعة طائفية وقبلية، لم تتمكن كليا قرارات الاستيلاء الفوقية من إيقاف تداخلها واندماجها. وكان النظام الديكتاتوري قد سبق الاحزاب التي جاءت مع الاحتلال في نشر ثقافة احادية وإعادة كتابة التاريخ وترسيم ثقافة قومية "خالصة" جوهرها أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي.
إنّ فكرة انشاء الأحزاب والتيارات الدينية بعد سقوط الديكتاتور بُنيت على مفهوم القوة، تضمن ذلك القدرة على التسلّح والاستحواذ على المال العام وتصعيد الشعائر الحسينية والاستعانة بالصورة للسيطرة على عقل المجموع. لكل حزب قناته ومفتيه ومرجعه، حرّموا فيها فنون ووضعوا أخرى في خانة "المكروه" ودعموا ماديا ومعنويا تلك التي تخدم مصالحهم السياسية، تحت بند "الضرورات تبيح المحظورات" حرصوا فيها على ان لا يرى الأطفال مشاهد العري والجنس، ويشاهدون بدلا عنها برامج السلاح وجثث القتلى وخطابات الشحن الطائفي وشعائر الحزن التي تخرج الحسرة من أعماق الروح. ومثلما كانت هذه الاحزاب تعمل بمحاذاة الدولة، نجد القنوات التلفزيونية التابعة لها تشتغل على ذات المنوال، لا خطاب رسميّ لها ولا توجه دينيّ بحت ولا رؤية تمثل عامة العراقيين، على الرغم من ان تصميم الاستوديو والألوان وخامة المحلّلين كلها تشي بتوجهات أصحابها. واللافت ان هذه القنوات المقدسة، حرفيًا أو مجازيًا، لا تقارير عن نشاطها المالي يطلع عليه المواطن، ولا اعتذار فيها عن الاخبار الخاطئة، ولا يُسمع عن إضرابات أو خروج معلن بين عامليها، فأغلبهم ينظرون لأنفسهم كـ "حشديين" أولا ومن ثم عاملين في القناة. وأمام هذا الواقع المؤلم فإن هيئة الاعلام والاتصالات غالبا ما تكون عاجزة عن فعل شيء، بل حتى في حال وجود خروقات صارخة فإن الهيئة ستتعامل معها مثلما يتعامل المجتمع مع التيارات المسلحة "اعتراض عام على المضمون، ولكن لا تحديد أو تسمية لتيار باسمه"
لا شك ان للتلفزيون علاقة ما بالثقافة، فالثقافة مفهوم واسع، ولكن السؤال هو كم هي نسبة الثقافة التي تقدمها الشاشة؟ فنحن في بلد لا توجد فيه إحصاءات ونسب مشاهدة وأرباح وقصص نجاح. على العموم يمكننا القول ان الباحثين عن الثقافة على شاشة التلفاز العراقية سوف لن يجدوا منها الكثير، لأنها ستزودهم بشعارات ونصائح ومواعظ، أكثر مما تزودهم بأفكار. بدليل ان انخفاض مستوى ثقافة الفرد العراقي، وتراجع مظاهر الثقافة في البيت والشارع، باتت حقائق لا تحتاج جهدا لملاحظتها. نلمسه في ظهور أجيال يائسة، بدأ تاريخ العراق عندها بدخول الاحتلال الأمريكي، تعرف عن المعممين وأمراء الحرب أكثر مما تعرف عن علماء البلد واعلامه. أجيال ليس لديها الوقت والصبر للجلوس وقراءة أمهات الكتب، وجل ثقافتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعة المسلسلات التركية البطيئة التي يستطيع المشاهد فيها الذهاب للمطبخ لعمل الشاي، ويعود من دون ان يفوّت شئيا. موقفنا السلبي هذا لا يقلل من حقيقة ان الترفيه من وظائف الشاشة الفضية، فيه للدراما أولوية، في مجتمع تجلس أغلب نسائه بالبيت. فالترفيه ليس سبة او دمغة سلبية بقدر ما هو دليل على استجابة لحاجات المجتمع، وهو من جهة أخرى يوفر فسحة للمواطن للهروب من واقع فيه الكثير من الفقر والبطالة وانعدام الخدمات.
إنّ السياسيين الذين جاؤوا مع الاحتلال ودخلوا بغداد كفاتحين، من دون آليات ومعرفة في إدارة الدولة، كانوا قد اضطروا للاستعانة بالكوادر الفنية والإعلامية التي عملت زمن النظام السابق، من الذين لجأوا إلى قبائلهم وطوائفهم، أو العمل في الأحزاب الجديدة درأ للأخطار التي تواجههم. وكما هو الحال في السياق الاجتماعي عاشت هذه الشريحة من الإعلاميين والمثقفين مع الخطر، تعمل أكثر من غيرها وتتقاضى أقل، صحبة غضب مكتوم لو كشف أحدهم عنه لدفع الثمن غاليا. استدعى ذلك ان تغير هذه الشريحة الهشة من شكلها وأن تلقن نفسها بعض المعتقدات التي ترضي أصحاب نعمتها. وهذا التخادم بين رجال الديكتاتور وبين ضحاياه لم يحظ بقبول كل المتضررين، عدّه البعض انتهازية فاقعة، وعدّه البعض الآخر شطارة وتكيفاً للعيش، في حين ذهب آخرون إلى عدم تجاهل الظاهرة، لأنها تبيّن كيفية تسرب الذين تمتعوا بخيرات الديكتاتور للأحزاب الجديدة ومؤسسات الدولة الأخرى، وكيفية تحولهم إلى أدوات في الصراع الدائر بين أحزاب العملية السياسية. وللتذكير فقط فإن التهديد الذي تعرض له المثقف العراقي في زمن النظام السابق، وعاني بسببه النفي والتشرد، يشبه في بعض فصوله التهديد الذي تعرض له مثقف السلطة بعد سقوط النظام، مع فارق رمزي ان الأول كان مأساة والثاني مهزلة.
ما يشغلنا بعد كل هذه الأعوام ليس حرص الآباء او ثقتهم العالية بسلوك أبنائهم، فهم حتى لا يجلسون معهم لمشاهدة البرامج التلفزيونية ولم يفكروا بشراء كتب لأشغالهم بالقراءة. كذلك لا يشغلنا عدد القنوات التلفزيونية إن كان قليلا او كثيرا، فهي في الحالين تلقينية ومملة تتناول موضوعات لا علاقة مباشرة لها بمشكلات المجتمع في البطالة وغياب الخدمات وضعف التعليم والاقتصاد والصحة، ولكن الذي يشغلنا حقا هو أن بلدنا ليس بخير، وأن نذر الخراب ما زالت تأتي من أماكن أعمق، ولم يكن اغلاق دُور السينما وتهميش المؤسسات الثقافية وهروب أصحاب الرأي إلى مناطق آمنة سوى قمة جبل الجليد. أحيانا نصبّر أنفسنا بالقول اننا نعيش فترة انتقالية، وأن المستقبل سيجلب معه وجوها سياسية وإعلامية مختلفة، وأن المشاهدين لن يستمروا بالتكيف مع والصمت على برامج سطحية، ولكن ما يحدث بين الفينة والأخرى من توافق بين ذوق المشاهد وبين طموح السياسي ورأي الإعلامي، يحبطنا ويعيدنا إلى أرض الواقع.