|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  17  / 9  / 2023                                نصير عواد                                 كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

هل الغرب الامبريالي فقط هو سبب مشاكلنا؟

نصير عواد
(موقع الناس)

بداية، دعونا نتذكّر ان الدول العظمى احتلت العراق بمباركة دول الجوار، وجلبت معها أدلاء ومستشارين وسياسيين ورجال دين لبناء "العراق الجديد" أدى ذلك إلى ربط البلد بالمجتمع الدولي، وان تكون للدول العظمى كلمة ودور في سياسته. وبعد مرور أكثر من عقدين على الاحتلال لا يزال "العراق الجديد" من البلدان غير القادرة على حل مشاكلها بنفسها، وقد يبقى زمنا مضافا تحت حماية الدول العظمى، فعندما تهيمن طبقة سياسية تفتقد الخبرة والجودة والنزاهة على الحكم، مدعومة من شرائح اجتماعية منتفعة، فإن البلد سيبقى معرضا للأخطار من أهله ومن طبقته السياسيّة أولا، ومن الطامعين به من خارج الحدود تاليا. بالطبع لا يوجد أسهل من ترحيل المشكلات والقاء اللوم على عدو خارجي، خصوصا إذا كان العدو أمريكا وإسرائيل والغرب الامبريالي. مصدر السهولة يتأتى من كون هذا العدو الخارجي يبحث عن مصالحه ولم يكف يوما عن التدخل في حياة الشعوب، وسحقها إنْ تطلب الأمر ذلك. هذا من جانب ومن جانب آخر يتأتى من كون حكوماتنا واعلامنا وسياسيينا لم يكفوا عن شحن شعوبهم بحكاية ان الامبرياليّة الامريكيّة هي سبب تدمير الشعوب. ومع ان الأحزاب الإسلامية العراقيّة تدرك جيدا ان ترحيل المشاكل خارج الحدود، أو الصاقها بحزب منافس، دون تحمل المسؤولية الشخصية والوطنية لن يكون حلا ناجعا من الناحية الاستراتيجية، ولكن يبدو ان غياب الحلول عند هذه الأحزاب هو الذي يدفع باتجاه سياسة ترحيل المشاكل وتحميل "الخارج" اسبابها. الغرب الامبريالي من جانبه لا يخفي سياسته في حصار الدول التي تنشط فيها الأحزاب الإسلاميّة المسلّحة لإعادة إنتاج نسخة من "حزب الله" اللبناني، حتى لو أثر الحصار سلبا على استقلال تلك الدول ومحفظة أموالها وتصدير نفطها، فلقد سبق للغرب الامبريالي أن أنهك الدول الاشتراكيّة وهدم حلف "وارشو" بأساليب الحصار الصلبة والسائلة. ولكن خطورة الغرب الامبريالي تزداد عندما تنسجم مصالحه مع مصالح قوى شعبيّة وسياسيّة داخلية متذمرة، كما هو بالعراق. فانفلات السلاح وظهور مليشيات تأتمر بأمر إيران هدّد ذلك مصالح "الخارج" وفي ذات الوقت هدّد حياة وأمن الداخل، وهو ما أدى إلى ظهور قوى سياسيّة وشعبيّة في مناطق غرب العراق وإقليم كردستان ترى ان بقاء القوات الامريكيّة على أراضيها يسهم في طمأنتها من نزاعات ومليشيّات واحزاب طائفيّة. بل حتى في وسط وجنوب العراق نجد ان الاستياء الشعبيّ من السلاح المنفلت ومن سيطرة الأحزاب الطائفيّة على مقدرات الدولة، وما يتركه ذلك من فساد وبطالة وسوء خدمات، يترك الباب مواربا لانخراط "الخارج" في السياسة الداخلية عبر أذرعه المباشرة وغير المباشرة، كالأمم المتحدة ومنضمات حقوق الإنسان والبنك الدولي..

وفي حين ان سردية "الخارج" شهدت تراجعا بسبب التكنولوجيا والعولمة العابرة للحدود، وبات العالم يعرف الاحداث وحركة الاسواق وكوارث الطبيعة ساعة وقوعها، بقي مفهوم "الخارج" بالعراق ملتبسا نتيجة عزلة دولية طويلة عاشها البلد انتهت بسيطرة أحزاب عائليّة وقبليّة وطائفيّة على كرسيّ الحكم، تتعامل مع المشاكل التي تواجهها بآليات ما قبل الدولة، وتحوّل فيها الصراعات السياسيّة والاجتماعيّة إلى معتقدات إيمانية غير قابلة للحوار، غالبا ما يوضع فيها الرأي المخالف في خانة العداوة، أو يوصف صاحبه بأنه من "أبناء السفارات" وعميل للــ"الخارج" وفي هذا الوضع الهش تتشابك أحيانا خيوط "الخارج والداخل" عبر ممارسات تلبس لبوس الفوضى والمصالح الضيقة، يتداخل فيها الحزبي بالحكومي بالشعبي. فالكرد في أقليم كردستان لا يحبذون تدخلات الحكومة المركزية ببغداد ويعدّونها "خارجية"!! والحكومة العراقيّة التي هي صنيعة "الخارج" لا تريد تدخلات أمريكا وحلفاءها!! في حين ينقسم الشارع العراقي طائفيّا ويحار في توصيف التدخلات "الخارجية" للجارة إيران. هذا الاضطراب في فهم "الخارج والداخل" القى بظله على سياسة الدولة وبرامج الحكومة والعملية الانتخابية، فنجد المرشحون للانتخابات البرلمانية ينصحون بعضهم البعض، اثناء التحضير للانتخابات، ان لا تشغلوا انفسكم بالناخبين وبكتابة برامج انتخابيّة وسياسيّة.. بل الاجدى ان تبحثوا عمّن يدعمكم من خارج الحدود؛ من إيران او تركيا او أمريكا او دول الخليج. وحين يصل هؤلاء قبة البرلمان ينخرطون في جوقة مهاجمة "الخارج" وبالذات أمريكا التي تملك أربعة الاف عسكري "استشاري" وينتشرون في معسكرات بموافقة الدولة العراقيّة، ولا يتحدثون قط عن دور إيران وعن انتشار قوات تركية مقاتلة تبلغ ضعف عدد القوات الأمريكيّة. وفي ظل هذه الفوضى البدائية بدت العلاقة غير واضحة ببعض دول الخليج، بدول المغرب العربي، بالدول الافريقية، بروسيا.. فلقد اتفق الجميع على شتم أمريكا وإسرائيل والامبريالية، وتحميلهم مسؤولية الاوساخ التي تنتشر في شوارعنا و"دگات" عشائرنا والاعتداء على اطبائنا ومعلمينا وشرطة مرورنا..

إنّ التوجس من سياسات الغرب الامبريالي حالة مألوفة، وهي ليست أبنة اليوم، وليست محصورة ببلد دون غيره. فأغلب دول اسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية شهدت تدخلات في شؤونها الداخلية، وجرى نهبها وتقويض حكوماتها باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. كل ذلك حدث ويحدث بالعراق، على الرغم من اننا لم نلمس بعد منافسة كبيرة بين القوى العظمى على إرسال شركات ومشاريع استراتيجية فيه، وبدا ان للصين وإيران وتركيا حضورا اقتصاديا وتجاريا أكبر بكثير. ولكن من الخطأ ان نظن الغرب الرأسمالي سيترك العراق يقرر مصيره، وانه اكتفى بنشر قوات رمزية في معسكراته، فتحوّل الاحتلال المباشر إلى احتلال غير مباشر له ادواته وابعاده الاستراتيجية التي لم يدركها ساسة العراق وإعلامه ومنابر مساجده. ونجد من السذاجة التوقف فقط عند الوجود الرمزي الأمريكي" أربعة آلاف جندي" واهمال سيطرة الغرب الرأسمالي على سماء العراق وحدوده وأرصدته المالية وسياسته الخارجية واسراره الأمنية واستخدام موقعه الجغرافي ساحة لتهديد سوريا وإيران. إنّ التوقف عند الوجود الرمزي لأمريكا سيقدم المهم على الأهم، ويخلق حالة من الوهم الشعبي والحكومي تضغط على البرلمان والحكومة لإصدار قوانين تمهد للحل الأمني في فض أي مشكلة تواجه البلد، في الخارج والداخل، وهو ما قد يؤثر على فرص الاستثمار الخارجي ويؤدي إلى تراجع قيم الحوار والحقوق والحريات في الداخل. فالأمن القائم فقط على قوة السلاح سيكون أمنا مفخخا، وسيؤدي إلى إضعاف الدولة الوطنية واستقواء الأحزاب المحتمية خلف شعارات المقاومة ومعاداة الامبريالية. وقد لا نبالغ بالقول إنّ الجيل الثاني للسياسيين الذين وصلوا بعربة الاحتلال هم أكثر من فتح باب التسلّح والتبعية لإيران ومعاداة الامبرياليّة على مصراعيه. غيروا قليلا في قواعد اللعب السياسي، ثم استمروا على ذات الثنائية المدمرة (مواجهة الخارج وضعضعة الدولة الوطنية) وظّفوا الدين ببعده الطائفي لإذكاء صراعات قديمة أضعفت النسيج الاجتماعي وجعلت العراقيين بلا مفاهيم وطنية مشتركة، وعمدوا إلى إنشاء تيارات طائفية تقلّد مرجعيّات من خارج الحدود وتأخذ أوامرها من دولة المرجع، صحبة تفسيرات وفتاوى تبرر العمالة والخيانة، وتفضّل سلطة الإسلام على أي سلطة أخرى، وترى بمصطلحات القوميّة والديموقراطيّة والدولة الوطنيّة على انها من بقايا نظام رأسمالي دخيل فشل في السابق في اخراج العراق من دوامته. وبما ان الجيل الثاني من السياسيين امتداد للذي قبله، لا يمتلك مشروعا وطنيا حقيقيا، فإن كلّ حكومة جديدة تفشل في تنفيذ وعودها وبرامجها ستلقي باللوم على التي سبقتها، وعلى مؤامرات "الخارج" ثم تستمر على ذات النهج المحاصصاتي المدمر.

بعد الاحتلال لم نجد حزبا سياسيّا إلاّ ووعد بإصلاح حال البلد، ثم تبين العكس. وما من حزب او تيار إسلامي مسلّح إلاّ وأعلن العداء لأمريكا وإسرائيل، بمن فيهم الذين جاؤوا بعربة الاحتلال!! ثم تبين ان الشعارات المعادية لأمريكا وإسرائيل والامبرياليّة لا تنسجم مع مضمون سياساتهم وأفعالهم التي تُمارس في الشارع العراقي من نهب وقتل وتهديد، حتى ذهب كثيرون إلى ان شعارات الأحزاب الإسلاميّة المطالبة بإخراج المحتل الأمريكي ليست سوى ذريعة لتكديس السلاح والسيطرة على الشارع والاستعداد لقتال عدو سيظهر. ولا نأتي بجديد بالقول ان هذه الأحزاب التي تبالغ بمعاداة أمريكا وإسرائيل تتحرك ضمن سياسة إيرانيّة توسعية تمتد إلى لبنان وسوريا واليمن، وليس لدوافع وطنية خاصة بالعراق. فهي لم تكن وطنية يوما، ولم تدعِ ذلك. امّا بالنسبة للوطنيين العراقيين فلا أظنهم يفضلون "خارج" على آخر، فعند الام الثكلى لا فرق في ان يُقتل ابنها بأيدي امريكيّة او عراقيّة، وعند المواطن المعدم لا فرق في ان يُدمر اقتصاد بلده إنْ كان بأيدي إيرانيّة او عراقيّة او تركيّة. بالطبع هناك أسباب مختلفة للازمات، وهناك نتائج مختلفة ايضا، ولكن تحميل "الخارج" فقط المسؤولية من دون التوقف عند دور الطبقة السياسيّة، ودور الشعب كذلك، فإن العراق سيبقى من البلدان غير القادرة على حل مشاكلها بنفسها.

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter