|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  15  / 1  / 2022                                نصير عواد                                 كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 صفحات هدم الذاكرة العراقيّة

نصير عواد
(موقع الناس)

تدمير الوثائق والآثار والمعابد والمتاحف عنف من نوع مختلف، خال من القتل والسجن والتعذيب، يهدف إلى تدمير الإرث الإنسانيّ والثقافيّ للشعوب. عنف مقصود، موجه ضد المجتمع قبل الفرد، سبق ان اعتبرته القوانين الدوليّة جرائم تنطوي تحت بند "حروب الإبادة البشريّة". هذا التدمير، الذي يصاحبه الوجع دوما، ليس فقط من صنع الطغاة والمتطرفين ودعاة الحروب، فلقد تنوّعت وسائل التدمير مع تعقيدات الصراع، أمست فيها حتى الحلول المعماريّة التي تعقب الحروب أو تزامن الصراعات غالبا ما تشكّل قطيعة مع تاريخ المكان الثقافيّ والاجتماعيّ. وأي مواطن عراقيّ يعود لألبوم صوره وإلى الروايّات القديمة سيلمس حجم التغييرات المكانيّة التي حصلت لبلده، وخصوصا في المدن الكبيرة والمختلطة. تغييرات لم تكن نتيجة تطورات اقتصاديّة وتجاريّة بقدر ما هي تغييرات قسريّة انتجها العنف المتفشي بالبلد. المدن الكبيرة التي كانت تُبعد الفقراء إلى الأطراف أمست خربة من الداخل، وازدحمت احيائها الشعبيّة وسط فوضى عمرانيّة صاخبة. ومن يتجوّل في العاصمة بغداد ستطالعه شوارعها التي بدت بلونها الاسمنتيّ دون ذاكرة، غابت الحدائق قدام البيوت وحلت محلها بيوتات وجدران سميكة وابواب حديدية لصد خطر مفترض، وانتشرت ظاهرة السراديب والممرات السريّة في العمارات الحديثة لزيادة فرص الأمان، وتغيّرت اسماء الشوارع وامتلأت الساحات العامة بصور الشهداء والضحايا. أما مؤسسات الدولة الرسميّة فصار يُراعى في تشيّيدها عنصر الأمن قبل أي شيء آخر، غالبا ما تُقام الحواجز حولها وتُغلق الشوارع القريبة منها. هذه الظواهر المشوّهة، متعمدة أم غير متعمدة، لا تعزّز الذاكرة الاجتماعيّة، وستؤثر لا محالة على سلوك الناس ومزاجهم وكلامهم وأغانيهم وخط سيرهم المعتاد، وستزيد من جرعة العنف المتفشي بالمكان.

في التاريخ قد تعمد دول وجيوش غازية إلى تدمير المعالم الحضاريّة والإنسانيّة للدول التي تحاربها، فلقد فعل ذلك المغول ببغداد وفعلها الأوربيون عند وصولهم سواحل أمريكا وفعلتها النازيّة الألمانيّة ببلدان أوربا في الحرب العالميّة الثانيّة وفعلها الاحتلال الأمريكي للعراق في تدميره للآثار ونهبه للمتحف العراقيّ في مثال حيّ ما زلنا نعيش اخباره الساخنة، ولكن الغريب في الأمر هو أن تعمد الطوائف والمجموعات الساكنة في رقعةٍ واحدة إلى تحطيم الحواضر الثقافيّة لبعضها البعض، كجزء من الصراع الدائر بينهم على السلطة والنفوذ، وما جرى بالموصل وسنجار والمناطق الغربية.. نماذج مؤلمة لذلك الصراع. إنّ اجبار الأيزيديّين على ترك منازلهم في (سنجار، كوجو، بعشيقة، بحزاني..) وتدمير المعابد القديمة والمباني الأثريّة، والاعتداء على كرامة الأهالي، ليس نتيجة عرضية في فكر تنظيم "داعش" لبناء الدولة المزعومة بقدر ما هو سلوك مرتبط بعقائد غارقة في عمق الثقافة الدينيّة الاقصائيّة التي لا تستطيع الوجود من دون محو الوجه الحضاريّ والإنسانيّ للآخر المختلف. كان قتل الرجال واستعباد النساء وهدم المباني وتكفير "الأصنام" والمعابد عملية مقصودة لغرض إضعاف ذاكرة الأيزيديين وإلغاء هويتهم. نصف مدينة "سنجار" دمرته العمليات القتاليّة، وكان يُعاد تدميره كلما تجدّد القصف والقتال، مبررين ذلك بقدسية القضية التي تسمح بنسبة معيّنة من الخسائر. وإذا كان من الممكن إعادة بناء البيوت والشوارع فكيف تُعاد الحياة للمعابد التي هُدمت والآثار التي هُربت والوثائق التي أُحرقت، كيف يُعاد بناء المواطن الأيزيديّ الذي كان يُقتل لأسباب غير واضحة إن كانت دينيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة. لقد ظنّ الايزيديون، لطيبة قلوبهم وقلّة حيلتهم، انهم بمأمن في ابتعادهم عن المدن، قرب جبل سنجار الشاهق. بنوا فيها متاريس اجتماعيّة ونفسيّة لا حد لها، وكأنهم في حالة دفاع دائم عن النفس. في الأعالي عاشوا نسيّا منسيّا، لا يصلهم مسؤول حكوميّ أو كاميرا تلفزيونيّة، وخلا ذكرهم من الكتب المدرسية ودستور البلد، بل لم يكونوا يوما جزء فاعلا في الصراع المحتدم بين المكونات العراقيّة على النفوذ والمال والسلطة بعد الاحتلال، كما تقول نادية مراد في مذكراتها (لم نكن نملك أي طموح للاستحصال على مزيد من الأراضي أو السلطة، ولا شيء في الدين يأمرنا بالسطو على غير الأيزيديين ونشر إيماننا.. صــ47) كلّ تلك الاحترازات لم تمنع من تدمير مدنهم واستباحتها على يد غزاة جاؤوا من خلف الجغرافيّا والتاريخ، غزاة استحوذوا على البيوت وغيروا أسماء الشوارع الخالية من أهلها ودعوا إلى زيادة التبرعات الخليجيّة والإسلاميّة لبناء مساجد تليق بالــ "الفتح المبين"!! وبعد ان تجاوز التدمير حدود "سنجار" وجبلها، وبات الأيزيديّون في (اللامكان.. صــ93) وصارت مدينتهم مثالا لتدمير الذاكرة الجماعيّ، انتبه العالم لخطر الإرهاب، وسارع إلى التخفيف من معاناتهم. والمؤلم انه حتى بعد هزيمة التنظيم المتطرف "داعش" صارت مدينة "سنجار" مسرحا لصراعات من نوع مختلف، انتشرت فيها أحزاب معارضة ومليشيّات مسلّحة هي الأخرى تحمل رايات قوميّة ودينيّة تبحث عن حصتها من الاسلاب والمقاولات. تراجعت فيها إلى الخلف مصطلحات القانون والثقافة والاعمار، وحلت محلها مفردات التحريم والبندقية والبلدوزر، لتشوه طابع المدينة القديم بحجة إعادة الأعمار، وتكمل ما بدئه التنظيم المتطرف "داعش" في تدمير أرث المدينة وقطع استمراره بين الأزمنة.

إنّ تقليب صفحات العنف العراقيّ، وسط التدهور المستمر للتعليم والصحة والثقافة ومستوى المعيشة، يشير إلى ان الهوية الوطنيّة في طريقها لكي تكون أكثر هشاشة. مرّة وأنا اسأل عن أرشيف الدولة العثمانيّة في مدينة "الديوانيّة" قيل لي انه اُرسل لمعمل الأحذية كي تُصنع منه الكعوب، فهم بحاجة للمكان وليسوا بحاجة لهذه الــ"الفايلات" العتيقة التي لم يُسأل عنها طوال عشرات السنين. ضعف ثقافة "الوثيقة" هنا غير محصور فقط بالمواطن، فغياب المؤسسات والقوانين التي تحمي المحفوظات وتسهل الرجوع إليها والاستفادة منها في تدعيم الهوية الوطنيّة، ساهم أيضا في ضعف الاهتمام بالوثيقة. والأخطر من غياب ثقافة الوثيقة والقوانين هو حين تلجأ الحكومة إلى إخفاء أو تدمير الوثائق التي لا تخدم مشروعها السياسيّ. فلقد كان البعثيون أكثر مَن سَنّ سُنّة الذاكرة المحروقة، ليس فقط باستحواذهم على مؤسسات الدولة والسيطرة على مضمون الخطاب ووسائل إنتاجه، والتحكم بالمعلومة التي تصل للمواطن، بل إخفاء وتدمير منظم لكل ما يختلف مع أفكارهم، فلقد عُرفوا بالعجلة والقسوة اللتين تزيحان كلّ ما يقف بطريقهم. كان استحواذهم على الذاكرة والماضي أولى الخطوات لإضعاف ذاكرة المجتمع والهيّمنة عليه وإعادة بنائه وفق مشروعهم القومي، تجلى في ضخ معلومات محسوبة، وعدم السماح بالبحث عن الوثائق دون الرجوع للسلطات المعنية. كشف ذلك عن ان الوثيقة شكّلت معضلة عند البعثيين، ووضعتهم في تناقض مع ما يدعون إليه من أفكار. فالوثيقة عندهم مهمة من الناحية التاريخيّة، ولكنها قد تشكّل خطرا محتملا عليهم، ينبغي زيادة الرقابة حولها، وتدميرها إنْ تطلب الأمر ذلك. وتساوقا مع حالة التناقض كانوا يرون في أحياء الماضي "البعيد" تدعيم لقوتهم، وليس مصادفة اسموا حزبهم بالــ "البعث" لتجسيد ماضي الأمة التليد، في حين يرون بالماضي "القريب" تهديدا لسلطتهم، وهو ما اوقعهم في فخ التلاعب بالذاكرة وانتقاء ما يخدم مصالحهم. وما فعلوه بأرشيف الزعيم "عبد الكريم قاسم" هو فعل مُخزي، فبعد إعدام الرجل واخفاء جثته وتضييع أي أثر يدل عليه، لجأوا إلى سحب كل ما يشير إليه من المدارس والمكتبات، واتلاف كافة المحفوظات في قسم الاذاعة والتلفزيون بالعاصمة بغداد والتي غطت أربع سنوات من حياة الزعيم وخطاباته ولقاءاته. ثم مهدوا السبيل لظهور كتابات لسياسيّين وصحفيّين وبيروقراطيّين من ذوي الوعي القومي المتحزب تناولوا فيها حياة الزعيم، اتصفت كتاباتهم بالانحياز والانفعال والتسرّع. هذه السياسات نجحت إلى حد بعيد في تعطيل الذاكرة التوثيقيّة والتشويش على الماضي القريب، وأفسحت المجال للذّكرة الشفاهيّة في ان تروي الأحداث حسب ثقافتها ومزاجها، تخطئ هنا وتصيب هناك. ولكن بمرور الأعوام، وبتزايد الحاجة للوازم توثيقيّة، لجأ المؤرخون والمعنيون للبحث عن أرشيف الزعيم عبد الكريم قاسم في أرشيف الدول التي زارها في حياته، أو البحث عن الاشخاص الذين عاشوا تلك الفترة، أو عايشوا الزعيم عن قرب. وكان كلما ظهر تفصيل جديد او شاهد جديد عادوا للتنقيح وإعادة ما كتبوه عن الرجل. في الحقيقة كان بعض قادة البعث الأوائل قد رووا في مذكّراتهم مواقف متفرقة عن مقتل الزعيم" عبد الكريم قاسم" فيها الكثير من التبريرات والقليل من انتقاد الذات والتجربة. ولكن رغم ما يُؤخذ عليها فهي من الناحية التوثيقيّة والتأريخيّة تبقى محطة ينبغي التوقف عندها، بسبب أن المعلومات التي يمتلكها الذين شاركوا او شهدوا قتل الزعيم فيها الكثير من التفصيلات التي تخدم المؤرخ والتاريخ.

عنف آخر تمارسه السلطة ضد الذاكرة الاجتماعيّة نلمسه في ظاهرة الكتابة السيريّة عند السياسيّين الذين وصلوا في العربات الخلفية لقطار المحتل، ثم قفزوا إلى الكراسي الأماميّة وتصدروا المشهد؛ أياد علاوي وإبراهيم الجعفري وفؤاد معصوم وعمار الحكيم وسليم الجبوري وحسين الشهرستاني وباقر الزبيدي.. مذكّرات تُخفي أكثر مما تُعلن، توقفوا فيها عند المحطات التي أرادوا التوقف عندها، وأخفوا ما بات معروفا في الشارع العراقي. من دون ان يفكروا، قبل ان يكتبوا مذكّراتهم، كيف سيبدون بنظر قراء يعرفونهم جيدا، عانوا من سياساتهم كثيرا. نحن ندرك حقيقة أن كل كتاب مذكّرات يستحق وقفة خاصة به، وندرك أيضا ان (أية حياة جديرة بأن تروى لو رويت بصدق) ولكن يبقى السؤال شاخصا عن الأسباب التي أدّتْ إلى استفحال ظاهرة كتابة المذكّرات في هذه الفترة دون غيرها؟ عن الدوافع التي وقفت خلف شريحة من السياسيّين والمعمّمين لتكليف مَن يكتب لهم مذكّراتهم؟ هل هم اعتزلوا مهنة السياسة؟ هل اكتمل مشروعهم وحان وقت تدوينه؟ هل ساعدت هذه المذكرات الآخرين بأي شكل من الاشكال؟ فالمعروف عن العمليّة السياسيّة بالعراق انها ما زالت تراوح مكانها، ذات الوجوه وذات السياسات المأزومة، وبالتالي فإن الكتابة التي تُصاحب الحدث تعطي الانطباع بأنها مفتوحة النهايات، ولا يمكن لها ان تكون مذكّرات. وحتى لو أردنا قراءة هذه المذكّرات كقصة حياة فإنّنا سنعرف فقط البداية والوسط، من دون نهاية. وهذا يعطي الإحساس بأن أصحابها لم يدونوها لتكون جزء من التاريخ، والأقرب هم أرادوا توظيفها في الصراع الدائر بالبلد لاستمرار دورهم السياسيّ، واستمرار المناكفات التي كانوا يمارسونها في تزاحمهم على الكراسي. هم في نشاطهم اليوميّ كانوا يعلنون صراحة فشلهم في أدارة البلد، وأنهم جزء من المشكلة، في حين يتحدثون في مذكّراتهم عن أدوارٍ بطولية في البناء والاستقرار، ويظنّون بأنهم ما زالوا قادرين على المشاركة بالنشاط العام، الأمر الذي وضع القارئ امام صعوبة التوفيق بين طبيعة المذكّرات وبين واقع أصحابها وما فعلوه بالبلد. قد تكون هذه المذكّرات مهمة لأصحابها، ملهمة لأحزابهم وطوائفهم، ولكن فيما يخص الذاكرة الاجتماعيّة لا نظنّها كذلك.

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter