| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الثلاثاء 9 / 7 / 2024 نبيل عبدالأمير الربيعي كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
ما يستحضره التاريخ
للرد على كتاب عبد الجبار أيوب (مع الشيوعيين في سجونهم) (3-4)نبيل عبد الأمير الربيعي
(موقع الناس)
أما مراوغة الأستاذ عبد الجبار أيوب كي يبين للقارئ اللبيب أنه أحنّ على صديقه يوسف سلمان يوسف (فهد) أكثر من رفاقه في الحزب، وينقل لقاءهُ مع فهد في السجن من خلال صفحات الكتاب ص32-34 ما يلي: (في يوم 10/7/1947 بينما كنتُ جالساً في (مقهى البرلمان) قبالة جامع الحيدر خانة في بغداد؛ ألتقيت ببعض الشبان من أبناء الناصرية، وكان بينهم ابن أخ يوسف سلمان ويدعى سليم داود، ولما كان يعرف أنني من موظفي السجون فقد طلب إلي زيارة عمهُ والإيصاء بهِ، ولما كان الطلب وجيهاً وعدته بزيارة عمهُ. وفي اليوم الثاني أخذت معي شيئاً من الفواكه وبضع علب من السكاير وقصدت تواً مديرية سجن بغداد، فقابلت مدير السجن المرحوم السيد أكرم توفيق واستأذنته في زيارة (فهد)، فأذنَ لي وذهبت مع عريف الخفر إلى حيث زنزانة يوسف، وأمر العريف بفتح الزنزانة فدخلت على يوسف وتمت مقابلتي لهُ .
لقد وجدت يوسف في حال من القنوط واليأس، ولكنهُ لما رآني ابتهج بيَّ وارتسمت علامات الفرح على وجهه، لأنهُ لم يكن يتصور أن أحداً من الناس – قريباً كان أم بعيداً – يجرؤ أو يكلف نفسه زيارة هذه الشخصية (الخطرة)، فيجلب الويل لنفسه ويوجه نظرات الاتهام إليه.
أقول كانت زيارتي له (مفاجئة) لم يكن يتصورها ولا دارت لهُ بخلد، سيما وأنا من أشد خصومه السياسيين الذين يمقتون هذا المذهب ويزدرونهُ.
لقد كان يوسف آنذاك شاحب اللون قد أثرت فيه أحداث السجن، فصافحته ثم جلست إلى جانبهُ، وقد أثّر فيَّ منظر (سلاسل السجن الثقيلة رقم 4 ذات الوزن أربعة كيلوات ونصف وطول 48 عقدة)، التي يكبل بها عادةً السجناء المحكومون بالإعدام شنقاً، وقد كانت السلاسل مثبتة في أرض الزنزانة، التي طولها ثلاثة أمتار وعرضها كذلك، وارتفاعها 4 أمتار وهي مطلية باللون الأسود. فهونت عليه الأمر وتمنيت له تخفيف الحكم في كل ذلك، ثم بلغته تحيات أبن أخيه، فردَّ عليها بمثلها، ثم سألني عن الناصرية وعن بعض اصدقائه، فأجبته: أنهم جميعاً بخير.
وهنا سكت يوسف واطرق ملياً، ثم أجال النظر في سلاسله الحديدية ونقَّله في اجزائها وتفاصيلها، ثم أدار بصرهُ نحوي وقال: لست أريد أن اكتمك هذا الذي تكاد تنفجر منهُ جوانحي، وينسحق تحت وطأتهُ صدري... الآن أقول لكَ كل شيء يا صديقي، عسى أن أفرج عن نفسي هذا الكرب الذي يكاد يقضي عليَّ، وهذا الكابوس الذي جثمَ على صدري، فلا استطيع له حملاً... ثم اشعل (دخينتهُ) وراح يأخذ منها انفاساً طويلة... وبعد لحظات ألتفتَ نحوي وقال وفي صوته (شيء من نبرات التأثر والانفعال): اسمع يا صديقي أني آسف جداً لأنني اندفعت ودفعت هذه الجماهير من البشر، فيهم البسيط، وفيهم المفكر المؤمن، وفيهم اللئيم المغرض، ومن هذا النوع الأخير هذه (الحفنة اليهودية) التي اندفعت معي لغايات واغراض لا علاقة للمبدأ الذي نعمل في سبيله بها. وقد انجرفوا في الأيام الأخيرة انحرافاً بيناً ظاهراً، واصبحت قرارات الحزب التي اصدروها بعيدة عن الغاية التي نسعى إليها، وتبين لي كذلك أن اليهود يريدون تنحيتي عن تزعم الحركة ليتزعموها هم، لذلك بدأوا بكل مخلص للحزب ومبادئه من مسلمين ومسيحيين فأبعدوهم عني، وغايتهم من وراء هذا كله أن يحتلوا مكان الصدارة من الحزب، ليسيروا به كيفما يشاؤون ويهوون.
قلت يا يوسف: إذا كنت قد ادركت هذا فلماذا تصلبت أمام المحاكم وادعيت أن كل ما حصل من جرائر منك ومن غيرك؛ إنما هي منكَ ومنكَ وحدك فقط؟ فأجابني والألم يتقطر من تضاعيف كلامه: أنتَ تعلم أن الأمور قد خرجت من يدي إلى يد يهودا إبراهيم صديق، الذي أخذ يحشر الحزب والحركة ويجرها لصالح (اليهودية العالمية). هذا بالإضافة إلى أنني اتوقع حدوث نتائج سيئة في المستقبل من جراء هذه البلبلة التي نجمت عن الأعضاء اليهود... وإنها واقعة، لا شك في ذلك ولا ريب... افتريد بعد هذا أن اعترف للمحاكم بما جنيت أنا وحدي ولا اتحمل وزر غيري الذي كان يعمل بإشارتي، ولولاي لما عمل شيئاً؟! إنني لست نادماً على اعترافي ذاك وتحمل الأوزار التي أتاها غيري وصنعها، فليكن إذن يا صديقي ما يكون... وهنا بلغ به التأثر منتهاه، فسكتَ ولذتُ أنا بالصمت احتراماً لشعوره ورأفة به وتأثراً لهُ وحدباً عليه.
وبعد حين سألني عن غالي الزويد، فأجبته: أنهُ في صحة جيدة، فطلب إليَّ أن ابلغهُ تحياته الصادقة. فقلت لهُ سأفعل.
ثم قلت لهُ والآن لا عليك يا أبا يعقوب؛ فالله رحيم بعباده ولعلهُ يرأف بكَ فيخفف عنكَ هذا الحكم، فما كل محكوم بالإعدام يعدم، فخفف عنكَ هذا الحرج، واسأل من الله الرحمة والفرج. فشكرني ثم قمنا وتعانقنا، وكانت كلمة الوداع مؤثرة، استدرَّت مني ومنهُ الدموع، ولكني حين فارقتهُ شجعتهُ، وطلبت إليه أن تكون الابتسامة آخر ما يودعني به في هذا المكان، فابتسم لي ورجا لي التوفيق، ورجوت لهُ بدوري الخلاص من هذا الحرج والضيق).
وللرد على عميد الشرطة عبد الجبار أيوب، نقول: كانت مواقف فهد في السجن متماسكاً. وفي سلسلة جلسات محاكماته وبهدوئه المعهود دافع عن أفكاره الشيوعية والدفاع عن مصالح الطبقة العاملة وقضايا الوطن الوطنية. لقد صمد فهد أمام محققيه وأكتفى بالعبارة الآتية: "أنا سكرتير الحزب الشيوعي العراقي وإني أمين على أسراره ولا يمكنني أن أدلي بأية معلومات تتعلق بتنظيمات الحزب وبأعضائه أو أسراره والتي يمنع الحزب الإباحة بها". وقد أجاب فهد عن سؤال وجه إليه "بأني كنت وطنياً قبل أن أكون شيوعياً وعندما صرت شيوعياً فأن مسؤوليتي تجاه شعبي ووطني صارت أعظم"، وقال إن الأممية لا تتعارض مع الوطنية. واصل فهد رسم سياسة الحزب وتحديد مواقفه من داخل قضبان السجن رغم سلسلة الاحكام التي صدرت ضده وضد رفاقه الميامين من ضمنها أحكام الاعدامات، وقد نفذت الحكومة الرجعية والاستعمار البريطاني عقوبة الاعدام يوم 14 شباط 1949بحق فهد ورفاقه زكي بسيم وحسين الشبيبي.
يبين المؤلف في كتابه انكسار فهد وهذا غير ما عرفناه من خلال موقفه أمام المحكمة العسكرية، واعترافه بأنه يتحمل المسؤولية كونه المسؤول الأول في الحزب. فضلاً عن وصف مؤلف الكتاب الشيوعيين بالصهاينة. وهم أول من حارب الحركة الصهيونية من خلال منظمة (عصبة مكافحة الصهيونية) وجريدتها (العصبة)، وقد انتمى أغلب الشيوعيون اليهود لهذه الحركة لإيمانهم بأن الحركة الصهيونية هي حركة عنصرية تهدف إلى ترحيل اليهود العراقيين إلى إسرائيل. أجد مدير السجن أيوب متحامل بحقدهِ على انتماء بعض يهود العراق من المثقفين إلى التنظيم الشيوعي. فضلاً عن توضيح الأمر للقارئ كي يبين أن فهد كان منكسراً في السجن، ونحن نعرف عند متابعتنا لما نشر حول محاكمته كان صامداً متزناً لا يهاب الموت، وقد اعلنها أمام المحكمة أنه مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، وهذا ما دوِّن في اعترافاته في الكتاب الصادر عن موسوعة الحزب الشيوعي العراقي السرية بعنوان: (موسوعة سرية خاصة بالحزب الشيوعي العراقي السري) الصادرة عن دار النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع،عام 1949، بواقع (1525) صفحة من الحجم الوزيري وبمجلدين وبأربعة اجزاء.
وذكر في مجلة (شؤون فلسطينية) العدد: 15 (تشرين الثاني 1972)، ص 158-166 ما يلي: (بمبادرة من الحزب الشيوعي العراقي جرى تأسيس "عصبة مكافحة الصهيونية" عام 1945، وأوكلت مهمة التأسيس إلى اعضاء من الطائفة اليهودية في الحزب وبوصية من يوسف سلمان يوسف (فهد). وكانت هذه الطائفة في العراق بحاجة إلى تمتين صلتها وتحقيق إندماجها بالشعب العراقي، وإقناعه بعدم الصلة بينها وبين الحركة الصهيونية. وكانت من بين أهداف هذه العصبة:
- فصل الدين اليهودي عن الصهيونية المرتبطة بالإستعمار والعميلة للإمبريالية.
- ليس لليهود قضية منفصلة عن قضايا شعوبهم.
- الحركة الصهيونية عنصرية وفاشية تخلق الفتن بين اليهود والعرب لتصرفهم عن النضال من أجل إنجاز القضايا الوطنية الكبرى.
- إن الصهيونية مرتبطة بالإستعمار هدفها السيطرة على الأسواق العربية.
- تستنكر وعد بلفور.
- إن مشكلة فلسطين يجب أن تفصل عن مشكلة اليهود، لأن المشكلة الأولى هي قضية شعب يناضل في سبيل حريته واستقلاله من الإستعمار البريطاني.
- العمل مع المنظمات اليهودية الأخرى في العالم المناهضة للصهيونية. ولكن للأسف لم تعمر هذه العصبة طويلً، ولأنها فضحت آنذاك مواقف الحكومة العراقية المترددة تجاه القضية الفلسطينية، اعتقلت قيادتها وأعدموا بحجة تعاملهم مع الصهيوني).
ويُمكِن تلمُّس أهمِّية هذه المنظَّمة من خلال المطالب التي وردت في المذكّرة المرفوعة من قِبل المؤسِّسين إلى وزارة الداخليَّة ببغداد، وأهم تلك المطالب، ويُمكِن تحديد أهمِّ ما جاء في العريضة (المذكّرة) الموجَّهة إلى وزير الداخليَّة من مطالب أساسيَّة.
وتضمنت النقاط الآتية:
1- العداء للصهيونيَّة عداءً صميميًّا.
2- الدعوة إلى تعاون العرب واليهود على دعم قضيَّة فلسطين.
3- منع الهجرة اليهوديَّة وإيقاف انتقال الأراضي العربيَّة إلى أيدي الصهاينة،
4- إقامة دولة ديمقراطيَّة عربيَّة مستقلَّة استقلالًا تامًّا، وضمان حقوق المواطنين كافَّة عربًا ويهودًا.
لذلك كانت العصبة تؤكد على أنَّ الصهيونيَّة لا تحلُّ بالمرَّة مشكلة ستة عشر مليون يهوديًّا، بل إنَّ المُشْكلة اليهوديَّة ليست سوى جزء لا يتجزَّأ من نضال الشعوب كافَّة. لكنَّ الحكومة العراقيَّة آنذاك لَمْ تسمح باستمرار تلك الجهود وأصدرت أحكاماً بحقِّ قادة العصبة تباينت في مدَّة السّجن، ولَمْ يقتصر أعضاء العصبة على اليهود العراقيين، بل شاركت فيها شخصيَّات من المسيحيين والمُسلِمين من الشخصيَّات الوطنيَّة. وبقِيَت تلك المبادرات محفوظة في الوثائق التي تُشير إلى الجهود العراقيَّة في الوقوف ضدَّ المخطَّطات الصهيونيَّة.