|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأربعاء  9 / 10 / 2013                                  مسلم السرداح                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

قصة قصيرة

نعي

مسلم السرداح   

الجو حار تماما في هذا اليوم من ايام صيف تموز اللاهب ، ليس كالعادة ، حتى ان درجة الحرارة تجاوزت الخمسين درجة مئوية ، بحسب نشرات الاخبار التي تحاول التخفيف من درجات الحرارة لتعطي عذرا للموت ولنقل الجنازات في الوطن .

في هذا اليوم كنت قد سافرت الى خارج الوطن ، لاداء فريضة دينية ، كعادة الكثيرين للتخلص من الضرر الذي يحدثه الحر مع انقطاع التيار الكهربائي .

استيقظت مبكرا على رنات هاتفي المحمول ، ليوصل لي احد زملائي في العمل خبر نعي مسؤولنا في الدائرة الحكومية التي نعمل فيها . هو ليس مسؤولي المباشر بل هو مسؤول دائرتي التي اعمل فيها . وكانت كل الدلائل تشير الى انه لن يموت . ولذلك فقد تفاجأت بالخبر ، كما فوجئ هو، السيد المدير ، للامر بالتأكيد . فحماياته وصعوبة الوصول اليه وما يحيط به من منافقين ، وموانع تمنع الموظفين الصغار من امثالي . وغير ذلك من ابهة وبهرجة كانت تتبعه حين يسير في داخل غرف الدائرة ودهاليزها . وتأكيده المستمر على المحيطين به ان يأمروا موظفي الدائرة ان لا يتشاغلوا بما بين ايديهم من معاملات او قصص يومية ، وان يظهروا اهتماما كبيرا به وهو يمر بينهم . وان يقفوا وقفة احترام وخضوع وتقدير ، صادق ، له وهو يقوم احيانا بزياراته الروتينية . اضافة لما كانت عائلته تبذخ فيه من صرف يومي وسفراته البوهيمية والحياة الخيالية التي يتمتع بها اولاده . كل ذلك يؤكد ان الرجل بسبعة ارواح . وان الموت لن يمر به ابدا . وكانوا يبررون ذلك بقولهم : ما الذي يحصل عليه موظف كبير ومسؤول محترم ، بمستوى مدير لدائرة كبيرة ، بتضحياته الجمة ، غير ان يرى الاحترام والتشجيع ، في عيون الناس والمرؤوسين ؟ ويقول اخر انهضوا له حين يمر بكم وقفوا احتراما له ، وان شئتم فصفقوا له ، فذاك من حقه عليكم ، جزاء تضحيته لاجلكم . فهو سيدكم وسيد الدائرة .

ومع ذلك فقد مات . وبما ان الكل يموتون لا فرق بين مسؤول ومسؤول وبين طبيب ومريض ، وصالح وطالح ، ورئيس ومرؤوس ، فقد مات الرجل وسوف يدس دسا في تابوت خشبي ، لم يفصّل على قياسه ، حاله حال الاخرين . وسوف يقف الناس لتشييعه ليس كسيد وكأتباع ، بل كميت مسكين لا حول له ولا قوة . يسعون لتوديعه والتخلص منه كقذارة يجب دفنها . ولن يكون سيدا بعد اليوم ولن يقف له احد . بل سوف ينُسى ولن يمر بدهليز دائرتهم ولا بغرفهم ، ولا حتى ببال احدهم بعد مرور قليل من الوقت .

نعم سوف يحشر في تابوت شاركه به العشرات بل المئات استعمل كعبّارة لنقل الجثث من هذا الصوب الى عالمها الاخر . ان الاحياء يستكثرون على امواتهم ، ومديرنا بالطبع واحدا منهم ، مجرد الواح خشبية لا تساوي شيئا يلقون بها في المزابل فيتناولها الفقراء بثواب ميتهم . قبل ذلك كان لكل تابوته . اما بعد الحروب الكثيرة ، ولكثرة الموتى ، فقد صار التابوت يوضع في المغسلة وبعد ان يدفن الميت يعيدونه اليها . انه تابوت عام ليس ملكا لاحد ، بل انه ملك للجميع مثل المدرسة والجامعة والمكتبة العامة . ومسؤولنا واحد من الناس الذين يرون تابوتهم كل يوم عندما يذهب للصلاة في الجامع او يقرأ الفاتحة على احد اموات الحي ، ولكن لم يكن يخطر بباله شيء مما سيجري . ولكثرة التوابيت في مغسلة الجامع لم يكن متأكدا في اي منها سينام .

لكم كنت احسده ، هذا المسؤول ، حالي حال الجميع ، مدير دائرتنا وهو يتبختر امامنا في دهاليز دائرتنا . كنت افرح حين يكلمني او وهو يأمرني ، باسلوبه الفج ، المتعالي ، الذي كنت اعتبره في بداية الامر قلة ادب منه . لكنني وبعد مرور السنين صرت اعتاده ، شيئا فشيئا ، حتى بت اراه الان من ضرورات السلطة والمسؤولية . وحتى انني كنت اتخيل نفسي احيانا وقد صرت مديرا كبيرا ، وانا اكتسح كل المحيطين حولي والراغبين بالصعود على الاكتاف . واولئك الميكافيليين الذين ينتمون لاحزاب لا يؤمنون بفكرها ، ان كان لها فكر ما ، وقد صرت بمرور الزمن واحدا منهم ، ورحت ادافع عن اولئك الصاعدين ، ومديرنا العام المسجى الان كم كنت ادافع عنه ، ليس شرفا ، ولكن تملقا للحالة التي هو فيها . كنت اشبه الصرصار الذي يريد ان يصير جوادا . ولقد تكاثرت الصراصير في دائرتنا ولكن يعلم الله من سيصير منها جوادا ليرتقي كرسي الإدارة .

لقد مات مديرنا المرحوم في يوم شديد الحر . وسوف تتفسخ جثته وبسرعة عجيبة . وسوف تفوح منها رائحة الميثان والايثان مثل مستنقع ، ولن تنفعه قوالب الثلج التي تبرد جثته . ورغم ذلك فانا ادافع عنه ، مع اني اعرف عنه الكثير الكثير من افعاله المخزية واستغلاله منصبه اللعين لاستدراج الموظفات ضعيفات النفوس الى الرذيلة . والتخلص من غيرهن الرافضات لاغراءاته . او دفعه الموظفين المحيطين به كما الرائحة الكريهة التي تحيط بجثته في هذا اليوم القائض من شهر تموز الى اخذ الرشوة ليثبت نفسه في منصبه الازلي ليبدو اشرف وانزه الموجودين ، ولا احد ينافسه عليه ، في اعتباره ، ان هذا المنصب انما خلقه الله له وحده . ودون ان يترك ادنى شك في انه سيأخذه معه الى القبر . وكنت ارى افعاله تجاه الدائرة والموظفين وتجاه الناس . وكنت ، رغم ذلك ، استحسن افعاله في داخلي اللعين . حتى زوجتي كانت تحسد زوجته لكثرة ما انقل لها ما يحكيه الناس عنها وما تمتلكه من اغراءات مادية وهدايا باشكالها النقدية والعينية والعقارية . لسكوتها عن خيانته لها وكثرة عشيراته .

ولانه مدير دائرتي ، ولكي لا ألام فيما بعد ، فقد قطعت اجازتي وعدت سريعا في نفس اليوم . وذلك كي اظهر المودة لمنصب المرحوم ، على الاقل . ولذلك ، وحين حان وقت القاء النظرة الاخيرة على جنازته . احسست بان كل الاخرين يبدون وقد تلطخت ملامحهم بالحزن الكاذب ، والحركات المنافقة والبكاء المهتز على الاكتاف . رغم انهم يودون ، مثل حال الجميع ، لو يلقون بجثة المدير سريعا الى الكلاب لا الى القبر ليدفنوا معه كل نفاقهم وكلماتهم التي كانت تخدش الذوق ولا تدخل الى قلب المدير ، ولكنها كانت تنال استحسانه الظاهري . وكان يعرف تماما انهم انما يكيلون له جمل التملق بسبب منصبه . وكان يتذكر في طفولته حين كان يسمع بقصة ذلك الحاكم الذي حزن الناس على موت بغلته ولم يحزنوا لموته . انه لم يترك بعد موته سوى جثة متعفنة وقبرا سوف لن يزوره احد . ولو كان ذلك القبر قد حفر في حياته ، لكان كل من في الدائرة ، وبضمنهم انا بالتأكيد ، يتبارى لزيارة ذلك القبر وسيتبركون بالتمسح بشاهدته بلمسها وطش الماء المعطر برائحة الورد فوق قبره .

والان ها هو قد مات وماتت معه قدرته على احداث اي ردة فعل تجاه ما يحكى وما يقال . وراحت الامال والتوجهات كلها تدور حول من سيمسك بكرسي ادارته للدائرة وستطوى صفحة لتبدأ صفحة جديدة . صفحة لا تنتهي الا بموت من سيمسك بها . الكل يتمنى ذلك ، ولا يمر بذهن احد انه سيحيد عن نهج المدير السابق ونهجه العتيد في النهب ، دون ان يفيد احد قبل نفسه وجيبه وعائلته .

ولذلك فان الجميع كانوا حينما رفع غطاء التابوت وجدوا بدلا عن جثة المدير ، جثثهم هم المسجاة في التابوت وقد بدأت بالتفسخ ولن ينفعها لا وضع قوالب الثلج ، ولا رائحة الكافور الذاوية . وحتى انا رأيت جثتي المتفسخة . وفي تلك اللحظة بالذات رأى الجميع وبضمنهم انا الاخر المدير ينهض صامتا ، واقفا وقفته الاخيرة ليتأكد من وضع جثته . ومن ثم ليعود الى نومته الطويلة في تابوت لم يتم تصنيعه ليستوعب جثته الضخمة ، بل حشر حشرا فيه .
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter