|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  5  / 4 / 2020                                ماجد الخطيب                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

التقنع مرتين (1)
قراءة في رواية
"الملك يموت مرتين" للكاتب أحمد الويزي (2)

ماجد الخطيب - كولون (ألمانيا)
(موقع الناس) 

قد يتعذر على "كاتب" ما التعبير عن نفسه بلغة الأدب والسرد، فيلجأ إلى كاتب "مجهول" أو مغمور، يكتب عنه يومياته أو أحداث روايته، يطلق عليه اسم "الكاتب الشبح Ghost Writer".

والروائي والمترجم المغربي أحمد الويزي، المتمكن من أدوات فنه بأكثر من لغة، ليس بحاجة إلى كاتب شبح ينسج له على الورق. إلا انه في رواية "الملك يموت مرتين" يتقنع مرتين، وربما أكثر من مرة وبأكثر من قناع، كي يقول ما يريد قوله. ويبذل الويزي جهداً جباراً، وهو ينبش في تاريخ المغرب خلال مطلع القرن العشرين، في أشد مراحل تحرش الاستعمار ببلاده، فينتقي شخصيات حقيقية من ذلك الزمن، وأخرى متخيلة كي يمنح القارئ قناعة بما يريد قوله.

أنه لا يفعل أكثر من أن يحقق ما يقوله الكاتب ميلان كونديرا، حول فن كتابة الرواية: "الشيء الجوهري في الرواية هو ما لا يمكن قوله إلا في الرواية؛ وفي كل اقتباس لا يبقى سوى الشيء غير الجوهري. وفي هذه الأيام على كل من يتوافر لديه القدر الكافي من الجنون كي يستمر اليوم في كتابة الروايات، أن يكتبها بطريقة يجعل اقتباسها متعذراً، حماية لها. بعبارة أخرى، طريقة تجعلها غير قابلة لأن تُروى".

يتقنع الكاتب مرة في المقدمة، حين ينسب الرواية إلى كاتب فرنسي مغمور (جان بيير هانس) كتبها في خمسينيات القرن الماضي، فلم تحظ مع الأسف باهتمام أيّ أحد، رغم أنه ابن فرنسا. يقول لنا: "ربّما رام من وراء ما ضمنّه فيها (بنية بريئة أو بغيرها)، التشويش على بُناة الاجماع الوطني، والتشكيك في نوايا حُماته الرّسميين، في مرحلة عصيبة وفارقة من حياة الأمة". ثم يتقنع مرة أخرى ليقول لنا أنه ترجم هذه الرواية عن الفرنسية قناعة منه بأن المترجم ساع يقتفي أثر ساع قبله غاب، إما لإنتمائه إلى بلد غريب، وإما لأنه عاش في زمن غير زمن الترجمة، وإما لأنه شخصية ماكرة لا تريد الكشف عن وجهها المتخفي وراء قناع".

وطبيعي أنّ الهدف الوحيد لأحمد الويزي في"الملك يموت مرتين"، لم يكن هو التقنّع لكشف المستور على طريقة "باتمان" و"سوبرمان" وغيرهما من أبطال "الكوميكس" الخارقين، لأنّه يخوض تجربة كتابة حداثويّة تجمع في آن واحد، بين التجديد في الأسلوب والمتعة. فهي رواية تاريخية، ورواية سجون، وسيرة غيريّة، وكتاب رحلات وأسفار، فيه وصف للمدن والبوادي والزرع والضرع. يصف مغاربة ذلك الزمن في موغادور، ومراكش، وفاس، والصويرة،،، إلخ؛ ويشرح لباسهم وعاداتهم وأهوائهم ونفسياتهم.

يسير على خطى روبير هاس، ويصبح ظلاً له تحت شمس مراكش الحارقة، ويدفعنا للتساؤل عما إذا كان مغاربة اليوم، أو مغرب اليوم يختلف كثيراً عما كان عليه قبل أكثر من قرن. فمغاربة الزمن الغارب لاتنفع معم غير العصا الغليظة، ومعدات علمائهم تبلع ولا تشبع، والدين يحكم بدل السياسة، ولا يحتاج المغربي لأكثر من إمام كي يندفع وراءه ويسفك دمه من أجله.

لا يكتفي الويزي بـ"تلبيس" نفسه وشخصياته أقنعة غيرهم، بل يضع قناع أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج على وجه السلطان عبد الحفيظ بن الحسن، في الصفحة الأولى من الرواية، وينقل عنه، على لسان الصحفي جاك هيبير(1912): إنهم قيدوا يدي، وكبلوا رجلي، ثم ألقوا بي في اللجّة... وها هم يريدون مؤاخذتي الآن، على ما طال لباسي من بلل".

تتحدث الرواية عن الصحفي الفرنسي روبير هاس، المولود في الجزائر، الذي يكتب من زنزانته في سجن"لاسانتي" الفرنسي سنة1937، حيث يقبع بتهمة الخيانة العظمى والتجسس لصالح ألمانيا.

يخوض هاس مغامرة الكتابة الصحفية في فرنسا ثم ينتقل إلى المغرب بحثاً عن سبق صحافي يرفع اسمه إلى قبة المجد الإعلامي المرصعة بالنجوم. يكتب من المغرب إلى صحيفته"لوتان" بحماس جمهوري عن"الغوغاء" الذي قتلوا الطبيب إيميل موشان سنة1907 في المغرب بتهمة التجسس. ويستمر في هذا النهج الحماسي المدافع لتدخل فرنسا بذريعة فرض الأمن في الشمال الأفريقي إلى حين عودة الوفد المغربي خالي الوفاض من مؤتمر الجزيرة الخضراء، في زمن السلطان مولاي عبد العزيز، ومن ثم القصف الوحشي الفرنسي للدار البيضاء سنة1907، الذي خلف دماراً بشرياً واقتصادياً هائلاً.

تتم بيعة السلطان مولاي عبد الحفيظ خلفاً لأخيه مولاي عبد العزيزي الذي عرف بتهاونه مع الأطماع الاستعمارية في المغرب. ويبذل روبير، بالتعاون مع زميله كريستيان هويل، جهداً لتحقيق مجده الصحفي من خلال لقاء السلطان الجديد، وهو يتزيّى بزي عربي، ويخوض غمار رحلات محفوفة بالخطر، وصولاً إلى مراكش حيث يتحقق حلمه.

ويبدو أن قصف الدار البيضاء، ومن ثم اللقاء بمولاي عبد الحفيظ، أدار دفة روبير الحالم بقدرته على إيصال الحقيقة حول السلطان إلى الجمهور الفرنسي المنقسم بين مؤيد ومعارض لدور فرنسا في المغرب. يكتب بدافع نقل الحقيقة عن الدور الفرنسي في عزل مولاي عبد الحفيظـ، ويثير الأسئلة حول موت السلطان المريب واختفاء أرشيفه. توجه السلطات الفرنسية له تهمة الخيانة العظمى، والتجسس لألمانيا، وترسله إلى سجن لاسانتي.

يكتب روبير من السجن أن الصحافة التي ولدت من رحم الديمقراطية وقعت في أسر السلطة والمال. ويعود إلى موضوعة التقنع في نهاية الرواية، بعدما يفشل محاميه في انتشاله من كابوس لاسانتي، ولاتنتصر له الصحافة في رسالته التي آمن بها، ويعترف أن الصحافة نفسها تلجأ إلى التقنع وكتم الحقيقة، أو الإكتفاء بكشف نصف الحقيقة، واللجوء إلى الترميز واللامباشرة في "هذا الزمن". وهو لم يهاجم الدولة، ولم يفضح دسائسها، ولم يحرج عالم الصحافة الحر، ولم يفعل أكثر من أنه نقل الحقيقة.

من خلال الجدران التي تطبق على قلم روبير يحس القاريء بعدة أصوات تصل سماعه . إذ يسرد الكاتب الأحداث مرة بصوت روبير، مرة أخرى بصوت المؤرخ المحايد، وثالثة بصوت الكاتب نفسه. ويجري كل ذلك بلغة عالية تكشف مدى تمكن أحمد الويزي من أدوات الكتابة، سواء في النص الذي يتحفنا به، أو في الترجمة التي يدعيها للنص الفرنسي الأصلي "المجهول".

تدور أحداث الرواية في المغرب وفرنسا، وهما مسرحا الأحداث في"الملك يموت مرتين". أما زمان الرواية الظاهر"1907" فليس أكثر من قناع زمني آخر يستر الكاتب به وجهه. فالأزمنة في الرواية تختلط بين الماضي والحاضر في لعبة شيقة في أبعادها الدلالية ولا تغيب عن القاريء الحصيف. ألا تستدعي قصة ارتفاع "البغّال" المراكشي بو بكر الغنجاوي من طبقة "الحمير" إلى طبقة السباع (الأثرياء) في الماضي الأسئلة عن أمثلة من عالم اليوم؟ وهل يخلو المغرب بعد مائة سنة من "محميّين" يتمتعون بحقوق لا تتوفر للمغربي نفسه؟ وهل تخلو فرنسا اليوم، أو غيرها من البلدان، من أمثلة عما حل بالصحفي روبير قبل نحو80 سنة؟

لايقود الكاتب القاريء في متاهات تاريخية تجعله يحيد عن الهدف من النص، ويلجأ لذلك إلى الكثير من الهوامش، التي لابد منها، للتعريف بشخصيات الرواية والشخصيات التاريخية والأماكن والأحداث. كما صاغ العديد من تساؤلات بطله في إطارات داخل النص بصفة ملاحظات هامشية. ووضع الويزي العديد من الأحداث التاريخية والبرقيات والمذكرات واليوميات والآراء داخل إطارات وملاحق أخرى لايشعر القاريء أنها خرجت عن سياق الأحداث.

يقول الفيلسوف جورج فيلهلم فريدريش هيغل: "إن كشف الغطاء عن التناقض ليس قضية فكرية ذات أهمية، لأن تصوير الأجواء التي تتحرك فيها هذه التناقضات هو القضية". وهو ما يفعله أحمد الويزي في روايته التاريخية التنويرية الذكية، ويقف بالتالي بالضد من صناع الظلامية من السياسيين في سعيهم لتجهيل شعوبهم. هذا يذكر بما قاله بسمارك عن أكثر الوجبات شعبية في ألمانيا"النقانق". يقول إنه كلما عرف الألمان أقل عن محتويات النقانق كلما ناموا أحسن.

هل كان الملك على علم بما يخبئه الفرنسيون له من مصير؟ يلاعب السلطان مولاي عبد الحفيظ، بعد نهاية لقاء صحفي، روبير هاس الشطرنج. ويحذره ألّا يتعمد الهزيمة أمامه هذه المرة إكراماً للعرش. وبعد عدة نقلات يلاحظ الملك عبد الحفيظ المعزول أن روبير الشارد الذهن لايتقي الهجوم على ملكه، فيطيح قطع الشطرنج عن الرقعة ويقول ضاحكاً: لا أريد مواصلة مبارة يموت فيها الملك مرتين!


 

(1) "الملك يموت مرتين"، رواية، صدرت عن المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2019، بكتاب من القطع المتوسط يتضمن 320 صفحة.
(2) أحمد الويزي كاتب ومترجم من المغرب، صدرت له مجموعة من الأعمال الإبداعية والترجمات، منها: صدْرُ الملاكم (قصص)، حمَّام العرْصَة (رواية)، بلاد بَلاّرج (رواية)، الفقراء (دويستويفسكي، ترجمة)، مذكرات قبو (دويستويفسكي، ترجمة)، حاشية على اسم الوردة (أمبيرتو إيكو، دراسة)، طائفة الأنانيين (إيريك إيمانويل شميت، ترجمة)، الممانعة (ساباتو، فكر)، في مديح الأدب (خطب، مجموعة من الأدباء العالميين)، جنايات زوجية صغرى (إيريك إيمانويل شميت، مسرح)، محاورات بوينس آيرس (بورخيس/ساباتو، حوارات)،،، الخ
 


* عن جريدة الشرق الأوسط
 5 نيسان 2020
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter