|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  22  / 3 / 2021                                ماجد الخطيب                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

رحيل الإنسان الكاريكاتير

ماجد الخطيب - (ألمانيا)
(موقع الناس) 

لا يكفي وصف بسام فرج بـ"رسام الكاريكاتير" أو"فنان الرسوم المتحركة"، لأنه نفسه كاريكاتير. أقصد أن روح الدعابة والسخرية تسكنه دائماً، يعيش فيها وتعيش فيه، ولا أعرف كيف تسلل فيروس كورونا إليها دون أن ينفجر ضحكاً.

إنه الإنسان الكاريكاتير، يتنفس الكاريكاتير، تعليقاته كاريكاتير، تصرفاته كاريكاتير، وربما حياته أيضاً منذ أن تزوج الهنغارية العبّاسة الغامضة أم مريم.

تدخل بيته في العاصمة المجرية بودابست فتطالعك لوحة ملونة بحجم صغير تكشف لك مفارقة هذا الزواج المتعذر بين روح الكاريكاتير والميلانكوليا. وجه أم مريم المقطبة المكشرة مثل قطة، يملأ كامل اللوحة، بينما تشاهد بساماً ضئيلاً مثل فأر في خلفية اللوحة يحمل، بيد راجفة، فرشاته ويرسم بعينين وجلتين.

لا يود بسام التعرض إلى"علقة" من زوجته "الجبارة"، كما يقول هو، إذا تأخر في الوصول إلى البيت بعد السابعة مساء. يجبرنا لذلك، نحن أصدقاءه المقربين، على البدء بتعاطي الـ"شورت" (البيرة بالهنغارية) منذ الساعة الخامسة عصراً، أو قبلها.

دامت هذه الحال طويلاً إلى أن تمكن الفأر يوماً من الإفلات من قبضة الـ"ماشكا" (القطة). كانت زوجته حاملاً بابنته الأولى حينما اضطرت يوم الولادة لقضاء ليلة في المستشفى. في تلك الليلة نفخنا الحياة في أيام مراهقتنا، سكرنا وعربدنا إلى ساعات الصباح الأولى في بارات بودابست، ولم نترك باراً يعتب علينا، أو فتاة لم نعاكسها.

حينما زرت بودابست قبل بضع سنوات، بعد غياب طويل، وكنا في جمع من الأصدقاء العراقيين، سردت لهم صولاتنا وجولاتنا في تلك الليلة الليلاء. ضحك الجميع لهذه الذكرى، وبينهم بسام بالطبع، لكنهم استغربوا تماماً حينما قلت لهم إن هذه الليلة تكررت. سأل الجميع، وبسام معهم: متى؟ قلت في ليلة ولادة ابنته الثانية، فغرق بسام بالضحك قبل غيره.

زار الكاتب الفلسطيني رشاد أبو شاور بودابست مرة، وكنا نتسامر معه في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في العاصمة الهنغارية. تطلعت، وتطلع بسام بدهشة إلى كفّي أبي شاور الكبيرتين. حينما خرجنا قال مازحاً: شفت ايده شكبرهه؟ هذا صدگ كاتب... مو أنته أبو ايدين الزغيرة!

روحه الكاريكاتيرية لم تغادره ونحن نشارك الرفاق السودانيين حفلهم مرة في نادي الطلبة. كان الطلبة السودانيون يقدمون إحدى رقصاتهم الشعبية على المسرح حينما لاحظ بسام سودانياً يقف بين الجمهور وكتفه يعلو عن رؤوس الآخرين. يزيد طول هذا الطالب بالتأكيد عن المترين. سأل بسام مندهشاً عن هذا العملاق فقال له السودانيون إنه رفيق اسمه "بيتر" من جنوب السودان. قال لي بسام مذهولاً: هذا الرفيق عله راسي... إذا يكض الامبريالية يهزها من راسها مثل النخلة.

لم يفلح "حصار" أم مريم على زوجها رغم حظر التجوال المفروض عليه في الساعة السابعة مساء. واصل بسام مغامراته النسائية في مؤسسة "بانونيا فيلم"، حيث كان يعمل رساماً للرسوم المتحركة والكوميكس. يستغل فرصة الغداء لمواصلة صولاته وجولاته بين نساء المؤسسة في بيوت أصدقائه المقربين.

كنا في أحد البارات نعب البيرة حينما حاولت إحدى صديقاتنا السخرية من مغامراتي العاطفية. قالت لبسام محرضة إياه ضدي أن ماجد يطارد البنات الصغيرات "الهرفي والطعش". رد بسام هازاً يده بأسف وحسرة: هن وينهن؟ حاصلات؟

صادفه بعثيو السفارة العراقية في بودابست مرة قبل أن يدق مدفع افطار أم مريم في السابعة مساء. حصره الزبانية في زاوية وهددوه بالقتل إن لم يكف عن المساس بصدام حسين بالكاريكاتير. رد أنه لم يرسم تلك الكاريكاتيرات، فقالوا "لا أحد غيرك" يرسم بهذه الطريقة. كف عن ذلك وإلا!".
سألته: هل خفت؟
قال ضاحكاً بروحه الكاريكاتيرية: كنت خائفاً أن أصل البيت قبل السابعة.
لم يكسر الأوغاد ريشته.

كتبت له قبل أيام من وفاته راجياً له الشفاء من الجائحة.
وأرسلت له واحدة من قشقشونياتي حول كورونا:

"قصري لهجره وأسكن التاجي
خايف لا يلطني فيروس التاجي
صولجاني أكسره وأخلعن تاجي
وأصيرن ملك بعگال و چفية".

رد عليّ بوجه باسم فقط (سمايلي)
كتبت له يوم 20 آذار الماضي ولم يرد.
بلغني بعدها خبر رحيل الإنسان الكاريكاتير.

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter