|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  18  / 9 / 2010                                ماجد الخطيب                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

"أسمح لنفسي بالثورة"
رحلة في عالم جان جينيه

ترجمة : على شاكر العبادي
عرض : ماجد الخطيب
(موقع الناس)

كتبت السياسية الألمانية، اليهودية الأصل، ليلي برنغسهايم في مطلع أربعينات القرن العشرين أنه من المؤسف تماما ان لا يجري توريط جان جينيه بتهمة المشاركة في محاولة اغتيال ادولف هتلر سنة 1944: " لكان ذلك يناسب جينيه تماما كغريب ومتشرد ومتسول وأجنبي ومشبوه سياسيا".

أطلقت برنغسهايم هذا التقييم بعد أن جرى اعدام فيلهيم لويشنر، وزير الداخلية ببرلين في زمن هتلر، بسبب الشبهات حول مشاركته في محاولة اغتيال "الفوهرر" يوم 20 يوليو 1944. وكان"الصايع" جينيه قد استقر ببرلين لفترة في تلك الأثناء، عاش من الدعارة والتسول، وتعرف في ظروف لم يسبر غورها بعد، على الوزير لويشنر.

ربما يناسب هذا التقدير جينيه فعلا بسبب حياة التشرد التي عاشها، بعد هروبه من الخدمة العسكرية، وتنقله مسافة تزيد عن 8 آلاف كم بين البانيا ويوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا وبولندا وألمانيا وبلجيكا. ولكان عداء القومية الاشتركية(النازية) لليهود والغجر والشيوعيين والمثليين عاملا إضافيا يضع جينيه، المعروف بنزوعه للجنس المماثل، في دائرة الشبهات التي قد تتهمه بمحاولة اغتيال رأس النظام الذي تبجح بإبادة آلاف المثليين.

على أية حال هذه ليست أكثر من مقدمة مختصرة تكفي لعرض صعوبة تقديم و تناول مثل هذا الكاتب الإشكالي. فكل ما في هذا المبدع اشكالي، بدءا بمسلسل حياته الجرمية وانتهاءا بفلفسته الرافضة لكل القيم(القيود) التي تكبل علاقات الناس ببعضهم. فكاتب مسرحي، وشاعر وناثر من عيار ثقيل مثل جينيه، يلعب على حبل الحياة كالبهلوان دون نازع خوف، يرقص رقصة الحياة اليومية، في السجن أو في الثلج(مسرحية تحت المراقبة)، كالطائر المذبوح ويصمت أحيانا كالحمل إذا ما تطلب الأمر ذلك. يكفي أن جان بول سارتر قال عنه "جينيه ليس أكثر من ميت، وإن كان يعيش في الظاهر، وكل أبطاله ماتوا مرة واحدة في الأقل".

حسن فعل المسرحي والمترجم العراقي علي شاكر العبادي حينما عرض جينيه لنا في كتابه"رحلة في عالم جان جينيه" بعيون عمله المسرحي الأول"تحت المراقبة"، ومن خلال القراءات التي قدمها لنصوصه المسرحية فيرنر كليس، وعبر الحوارات التفصيلية التي أجراها معه هوبرت فخته. فالكتاب الواقع في 220 صفحة يستعرض آراء الناقد فيرنير كليس في أهم أعمال جينيه المسرحية، في حين يتسلل فخته بكل ذكاء من النوافذ التي يفتحها له الكاتب على حياته اثناء المقابلة. والكتاب ككل، أي المسرحية و المقالات المترجمة، عبارة عن رحلة معرفية قصيرة تضيء لنا دروب الحياة التي سلكها جينيه وصولا إلى المنزلة التي تبوأها كأحد أهم الكتاب المسرحيين الذين تميزوا بتناول القضايا الحياتية التي لا يجرؤ الآخرون على تناولها؛ بدءأ بـ"تحت المراقبة" ، مرورا بـ"الخادمات" ، وإنتهاءا "بالزنوج".

"تحت المراقبة"
تدرج جان جينيه في عالم الجريمة الصغيرة من لص إلى نشال وقواد، وسجن عدة مرات بسبب ذلك قبل أن يتحول إلى الكتابة. وليس غريبا عليه حينها أن يحكم بالسجن لسنتين عام 1944 بسبب سرقة كتب. إذ عاش جينيه حياة"عدمية" تقترب في رفضها للتقاليد والأعراف والقيود الاجتماعية من فلسفة الدادائية الرافضة لكل شيء.

وتحت المراقبة هو النص الأول الذي كتبه جان جينيه عن حياة السجون والمساجين كصورة واقعية مقلوبة للحياة خارج السجن. في الفيزياء يصنع الجسم الموضوع خارج بؤرة عدسة محدبة صورة خيالية مكبرة ومقلوبة لذلك الجسم، وهو ما ينطبق على موضوع هذا النص، فالسجن هنا ليس سوى انعكاسا مقلوبا للعزلة والقيود التي تفرضها الحياة على الناس. هي في الواقع حالة الحصار التي عاشها جان جينيه نفسه في رحلة العذابات الطويلة التي سبقت موته "الجسدي" وسعيه الدائب للخلاص من هذه" العزلة" وإن بالموت الروحي. فالخلاص الروحي الذي يحرك الكاتب، بالنسبة لسارتر، ليس أكثر من تشاؤم الموت أو السعي له.

تتحدث المسرحية عن ثلاثة سجناء يشتركون في زنزانة واحدة، هم القاتل عين خضراء، الذي يحظى باحترام نزلاء السجن والشرطة على حد سواء بسبب موقعه العلوي في عالم الجريمة، اللص ليفرانس الذي يسعى لتقمص عين خضراء وتسلق سلالم الجريمة وإن عن طريق القتل، واللص الشاب موريس (يسمي نفسه الجبان) الذي يعتقد أن وجهه الجميل سيكون بطاقة دخوله إلى عالم كبار المجرمين الذي ينتمي عين خضراء إليه.

وفي هذا المسرح الصغير، هذه الزنزانة الضيقة، تدور أحداث الحياة في "العالم الحر". فهناك مدير السجن والسجان اللذين يقررون كل شيء، وهناك القتلة"السادة" الذين يقررون كل شيء للسجناء، وهناك اللصوص العاديون الذي يحلمون ببلوغ" المواطنة في عالم بلا مواطنين" عن طريق ما بلغه القتلة في عالم الجريمة الذي هو عالم الحياة.

لا يفصل عين خضراء عن غرفة الإعدام سوى وقت قصير، ولذلك فهو"ميت روحيا"، مثله مثل المؤلف جينيه، ولا يهمه بعد أن خسر المزيد أم لا. وهو واش باعترافه، يشي بزملائه السجناء، كي يكسب الحظوة لدى السجانين، لكن زميليه في الزنزانة يتوددان إليه ويحاولان تقليده. ولأن عين خضراء أمي فقد تحول ليفرانس إلى مراسله الخاص، يكاتب زوجته باسمه، ويعد العدة لغزو قلب الزوجة بعد رحيل الرجل الذي يملي عليه.

يرقص عين خضراء في نهاية المسرحية رقصة الخلاص(الموت) قائلا أنه لم يختر التعاسة وإنما أن التعاسة اختارته. ولأن ليفرانس يعتقد أن القتل، وهي تهمة عين خضراء، سيرفعه إلى مصاف السجين الراحل، "رقصة الثلج" الذي لا يقل شهرة جرمية عن عين خضراء، نراه يخنق الشاب موريس في نهاية المسرحية بيديه. لكنه يدرك مع ذلك أن ذلك لن يرفعه إلى مستوى"عين خضراء": لقد أدركت... أدركت بأنني لن أكون واحدا منكم ابدا يا عين خضراء.. ويبادره عين خضراء بالقول: ولكن ضعوا هذا في حسبانكم جيدا، أنا أقوى منكم جميعا، أنا لا احتاج لأن أرقص كي أتحرر من ذنبي، ذنبي الذي اخترته أنا".

فجريمة "رقصة الثلج"، من وجهة نظر" عين خضراء" كانت اضطرارية، وهدفها السلب، في حين أن عين خضراء قتل"كي يحيا". وضع زهرة الليلك بين أسنانه وصار يلوكها وهو يؤدي رقصة الموت التي انتهت بقتله لعاهرته، والزهرة هنا رمز الجنس عند الناقد فيرنر كليس، وهي استعارة لقهر الحبيبة، ورمز الانتقام عند المافيا و عنوان الخلاص من الحياة إلى الموت عند الاغريقيين القدماء.

يعتقد بعض النقاد، وبعض باحثي جينيه، أن" تحت المراقبة" هو النص الوحيد الذي يخلو من علامات جنسية مثلية، تعّود الكاتب تبطين أعماله بها، في حين أن من يدقق النص يرى بوضوح أن الكاتب كان يحرك جسم المسرحية كما "تحرك خادمة مؤخرتها في حفلة رقص". وهذا التعبير ورد على لسان"عين خضراء" وهو يخاطب موريس حينما دعاه لمشاركته رقصة الوداع. ثم يقول ليفرانس للقاتل المثل أن موريس ينظر إليه كما ينظر إلى زوجة. ويخاطب ليفرانس موريس والأخير" يزيح خصلة شعر عن جبينه": أغلق فمك يا موريس، والأهم أن لا تتحرك مجددا كأنك عاهرة! ونجد وموريس نفسه مغرورا بجماله وباعتقاده أن سيكسب قلب عين خضراء، مهما حاول ليفرانس دق الأسفين بينهما، فجماله هو بطاقة دخوله إلى عالم المجرمين الكبار كما أسلفنا. والظاهر أن جينيه لم يختر السجن عبثا في مسرحيته، ليس بسبب تصويره(السجن) كعالم حر مقلوب فحسب، وإنما عن معرفة بما تنطوي عليه السجون من شذوذ جنسي. وأي سجن في هذا العالم" الجميل"، وأي وحدة عسكرية بحرية، في جيوش العالم تخلو من الشذوذ الجنسي.

يبقى أن نقول أن جينيه كرس في مسرحيته كل ما يعينه، ويعين المخرج، في تصوير فكرته، فاستخدم لغة المساجين التي يتقنها، كما استخدم لغة القرويين والعوام في الحوار. والمسرحية بأكملها كالحلم، حركة الممثلين ثقيلة قدر الإمكان(حسب طلب الكاتب) أو خاطفة وسريعة، أصواتهم خاوية وثقيلة، وكأنهم أشباح قادمة من عالم الأموات. ويلعب جينيه بالألوان في النص والحوار، كعادتة في المسرحيات الأخرى وخصوصا الزنوج، فنرى الزنجي الأسود الذي يؤدي رقصة الثلج(الناصع) ونلاحظ"عين خضراء" وهي يتمنى الصعود إلى السماء الزرقاء.

الكتاب عموما، والمسرحية، تعبير مقتضب عن رفض جينيه لكل شيء وعن لاءاته التي يطلقها في وجه التقاليد والأعراف. وهو أساسا رفض المجتمع الذي يرفضه كمثلي ويرفض أفكاره المتحررة ، ورفض الانتماء الذي رافقه طوال مراحل حياته، وكان منبع أفكاره وابداعه، في مجتمع تصطرع في الأفكار وتشتعل الثورات، وهو يدعو إلى ثورات" يسمح لنفسه بها "و يريدها بلا ضحايا ولا صراع.
 


صدر الكتاب عن دار كنعان للدراسات والنشر. يقع في 225 صفحة من القطع المتوسط، وصمم الغلاف باسم صباغ.

عن جريدة الشرق الأوسط


 


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter