|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  23  / 8 / 2017                                 منعم الفقير                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

اهدموا الجنة
في غياب كامل شياع

منعم الفقير
(موقع الناس) 

كلنا قتلى لكن الفرق بيننا نحن ضحايا وأنت شهيد

ليكن بلا طعم كل ما نتذوقه ونجده طيباً
مرة كل الأشياء، حلوة، حلوة جداً،
ومرة نقص شائع، أو موت هادئ
موت هادئ
كل ما نرثه، وكل ما نورثه،
لا شيء
أقل حكمة من الحقيقة
ولا الحقيقة حقيقة
حين
يكون الحقد وحده
سبباً لوجود البشر

نتلقى يومياً أنباء عن استهداف صحفيين ومثقفين، إلى الحد الذي تم فيه تصنيف العراق على مسمع ومرأى منا ومنهم بأنه البلد الأكثر خطورة على وجود العاملين في مجالات الفكر،الثقافة والفن، والاكثر خطورة على وجود الانسان العادي فيه، ولا احسب أن تصنيفاً كهذا يسر أحداً. فهذا التصنيف يبعث على المساءلة والمسؤولية، فكيف يتحول وطن ترعرعت طفولة الحضارة البشرية فيه إلى واد لوأد مثقفيه، وإلى ساحة ملتهبة لتصفية الحياة والإجهاز على تفاصيلها. انه لمحزن جداً أن يسود الصمت ويتكلل التسليم حيال الميل العنفي، التعسفي والإرهابي في صياغة أحداث التاريخ، فالتاريخ الآن مجرد حاوية لشظايا الدمار وأشلاء القتلى. التاريخ مستودع للحقائق المسلحة، لا يوجد تاريخ، بل سجل قديم لأرشفة معارك، يحمل تبجيل منتصر ويتحامل على نهاية منهزم. انه تاريخ لشروع سلطة، اما تاريخ الناس لم يشرع بعد.

إن استشهاد كامل شياع يلقى علينا الأسئلة والمسؤولية. ما الغرض من استهداف الثقافة، ولمَ الثقافة مطلوبة، هل لأن الثقافة العراقية لا إرث يدافع عنها ولا أعراف تحمي منتجيها من العبث الدموي. ليس للثقافة العراقية من مناعة ضد العنف وضد الااختراق السلطوي، لا توجد سلطة بل تسلط، لا يوجد حكم بل تحكم. ان الحياة رهينة أو مشروع اختطاف، ولكن لماذا يتحامل المتخاصمون في جهادهم في العراق على العراق ذاته، فبرنامجهم لا يوفر دماً ولا يستثني مرفقاً، لا يقدّر ولا يحترم معلْماً، فكلها أهداف، الحب، الرغبة، وجهة النظر، الرأي، الآخر، كامل شياع، شارع المتنبي، أطوار بهجت، سوق الصدرية، جسر الصرافية، منتسبو الشرقية، قاسم عبد الأمير عجام، نقيب الصحفيين، آمال الإنسان العادي وأحلامه المؤجلة وأماله الموقوفة، تقديس الجسد وتدمير الحفاظ على سلامته من الميلاد وحتى الممات. كل العراق ملقى تحت شرفة النيران. نعم كلها أهداف، وأهداف مباحة ما دام الغرض يؤدي إلى تحقيق مكاسب سياسية. ليتشظى الإنسان بنيرانهم وتسوّد الحياة بدخانهم .

لا عراق بلا عراقيين، وعلى المتحاربين التواضع على تقديس الإنسان العراقي والامتناع عن أي فعل لا يرتقي به، وعلى المثقفين السعي إلى صيانة الحياة العراقية من العبث الدموي، فلا حق البتة في قتل إنسان، الحق والقتل لا يلتقيان، ان توقير الإنسان يجب أن يكون من أولويات برامج وتوجهات المثقفين.

لا يشرّف تاريخ أي طرف سياسي أو ديني متنافس على الظفر بالزعامة السلطوية تلك المكاسب السياسية المتحققة على هدر حق في حياة كما يريد حيها ويقدر.

المجازر واشاعة الخوف والتلويح بالموت هذا تصرف أهوج بسمعة العراق التاريخية، فيصبح العراق وأد الحضارة بعد أن كان مهدها. من أعطى الحق لأحد دون سواه أن يحرم العراق من مثقفيه، ويصادر كرامتهم، ويطوي أرض العراق من تحت أقدامهم، ويتجاوز إلى الحد الذي يحتكر فيه الحقيقة، بعد أن ناضل المثقفون طويلاً من أجل تعددها.

إن مأساة البشرية بدأت حين وضع رجل حقيقة، صدقها، ثم أدعى أنها مقدسة، فأكره غيره على الخضوع لها والتسليم بها. لا توجد حقيقة، بل عدّة حقائق، لا توجد حقيقة، بل يوجد فعل، والفعل هو الحقيقة، وبتعدد الأفعال تعدد الحقائق.
إن المطلوب هو إبطال السعي إلى احتكار الحقيقة وإتاحة الفرصة لتشريع يقضي بتقاسم سوي للحقائق.

تعرفت على كامل شياع في أمستردام عام 1988، عندما كنت مدعواً من قبل رابطة الشغل المغربية للمشاركة في فعالية ثقافية، فقد كان هناك، متواضعاً، ومناضلاً من أجل العدالة الاجتماعية، تحدثنا كثيراً وانعقدت بيننا رفقة فكرية مصحوبة بالاختلاف الحميم. إن كامل شياع الشيوعي النبيل، كان مخلصاً للحزب الشيوعي أكثر من برامج الحزب التكتيكية أحياناً.

إن اغتيال كامل شياع، ليس اغتيال لمثقف وحسب، بل اغتيال ثقافة صاعدة، نعم، اغتيال ثقافة تصبح عقبة على طريق زحف الاستبداد والتقدم بقمعه الزاهر. انه اغتيال ثقافة حديثة وحداثية، أخطر ما تدعو إليه ليس التعددية، وإنما الشفافية، الشفافية تلك المفردة المنبوذة والدخيلة على معجم الساسة العرب والعراقيين خصوصاً. فهذا الاغتيال وسواه من الاغتيالات ليست سوى محاولة لاحتواء مقدمات التفكير السوي والقبض على الفرص الدستورية للتعبير. إن اغتيال مثقف معاصر هو ترهيب للحداثة ومحاولة لإعاقتها بوعيد السلف والخلف الصالح بالقتل.

إن هؤلاء المطرودين من المستقبل، والبعيدين عن التنزّه في حدائق المعرفة. هؤلاء الساقطون من متون الاحترام وهوامش التقدير. هؤلاء الذين يكتسون بخرِق الظلام لترقيع الظلم. هؤلاء غرباء العصر ووحوشه، يستأنسون بالتفخيخ وينبسطون بالغيلة،. هؤلاء العاجزون على الفرح وحكي نكتة، هؤلاء الضالون عن رشد المثل الشعبي والمنحرفون عن مرح الحياة ورزانة الحكمة. هؤلاء نزلاء مقصورة التاريخ القاصرة بالظلم والمقتصرة عليه.

اهدموا الجنة

اهدموا جنة الغيب، إذا كان الطريق إليها معبداً بأشلاء الضحايا وشظايا البناء، جنة الإرهابيين حيث يتردد في إرجائها أزيز الرصاص، الصراخ،الأنين العويل والنشيج. جنة تتوسل غايتها سفك الدم ودحر الكرامة والتحفظ على الآمال. جنة الاستيلاء على الحقيقة وومصادرة الأسئلة والإنفراد بالأجوبة، جنة تبيح تفكك الإنسان، جنة المهيمنين على تعريف الحق وتسمية العدل. جنة يكون فيها الإنسان أرخص من الطلقة التي تنهيه، والحقيقة أية حقيقة يتواضع عليها فريق تصبح أقدس منه. جنة الترويع وتصدير الخوف، جنة إثارة الشقاق بين الروح وحاجاتها، وجنة إلقاء الخصومة ونشر البغض. الجسد أمانة الطبيعة والروح وصيتها.

أقيموا جنة المشاهدة، حيث تتجاور فيها الحقائق بسلام. ويتعافى الاختلاف ويزدهر الحوار. جنة تزينها أخطاء البشر، جنة الشك ووتمكين احتمالات النظر في الصواب. جنة العشاق المتقاعسين عن أي فعل عدا فعل الحب. جنة الغناء والرقص وزقزقة العصافير، جنة يسود فيها الجمال، جنة الأسوياء بالمشاعر، جنة الراغبين والمرغوبين، حيث يتراجع فيها الألم أمام مدّ الرغبة. جنة: الحسن بالحسن والبادئ هو الأجمل.

دامت صلتنا، أنا والشهيد كامل شياع، تبادلنا الخطابات الرسمية، بوصفه مديراً عاماً للعلاقات الثقافية في وزارة الثقافة وبصفتي مسؤولاً عن منتدى السنونو العالمي للثقافة والحوار في الدنمارك، فقد بادرنا لإقامة أيام الثقافة الدنماركية العراقية. تحدثنا تلفونياً عدّة مرات، اتفقنا، على تاريخ ومضمون الفعالية. بعد ذلك أعفى من منصبه، وتسلم منصباً آخر هو مستشار وزير الثقافة. التقيته في بغداد في عام 2004 في كل مرة هو كامل شياع ، هو كامل بالرأي وشياع، شاع بالمحبة.

وهنا ندعو إلى احتواء المقدمات النظرية الداعية إلى اللجوء للعنف، ونعمل على إفراغ العنف من محتواه القائم على الكراهية والتدمير. ونسعى أيضاً إلى تفضيل الحوار والبحث عن إمكانية نشوء أخلاقيات حديثة، وإعادة تقييم القيم وتقويمها على مرجع نبذ العنف وتبشيع فعله، وتجريم فاعليه والداعين إليه وذلك بوصفه فعلاً مكروهاً ومقززاً ومحظوراً، ونطالب بقيام لوبي ثقافي عالمي يؤثر على دوائر القرار المحلية والدولية. وندعو مختلف الجهات ذات العلاقة وذات الاختصاص إلى وضع مسوّدة تشريع دولي يوّصف الجريمة السياسية بالجريمة العادية، فالجريمة هي الجريمة، القتل هو القتل وإن أية جريمة يجب أن تخضع للمساءلة القانونية العلنية وليست الاستثنائية. ونطالب بحماية أممية للإنسان العادي وتمكينه من الحفاظ على خيارته.

لي وطن
فيه قبر جدتي
آثار طفولتي
وأطلال رجولتي
فيه أسمالي
أرصفة للتوسل
أغانٍ مبحوحة
فيه نهران عظيمان
جسور وشاحنات
وفيه لجميع الأحياء قبور

كلنا قتلى يا كامل شياع، لكن الفرق بيننا وبينك، نحن ضحايا وأنت شهيد




 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter