| الناس | الثقافية | ذكريات | صحف ومواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. محمد شطب

 

 

 

 

                                                                                                 الأربعاء 21 / 8 / 2013

          

العَلمانِيَّة
SÄKULARISMUS
وهي مشتَقة من الكلمة اللاتينيَّة (saeculum) التي تعني العَالَم

د. محمد شطب

3 - جذور العَلمانِيَّة :
شُيِّدت الإمبراطوريَّة الرومانية في أوروبا في القرن الثامن قبل الميلاد واستمر بقائها حتى القرن السابع بعد الميلاد، وتمكنت من بسط نفوذها على مجمل القارة الأوربية وشمال إفريقيا وأجزاء من قارة آسيا، وازدهرت في ظِلها العلوم والفنون والآداب والفلسفة والقانون، وراجت فيها التجارة والملاحة وازدهر العمران. ولم تعرف هذه الإمبراطورية ولا الشعوب المنضوية تحت لوائها الأديان السماويَّة، فهي لم تلتزم الديانة اليهوديَّة التي سبقت ظهور وتطور الإمبراطورية بعدة قرون ولم تعتمد الديانة المسيحيَّة كدين رسميّ لها إلا بعد مرور 383 سنة على ظهور هذه الدعوة.

تعرضت هذه الإمبراطوريَّة إلى الانهيار، وكان لهذا الانهيار أسباب عديدة في مقدمتها الحروب الدينيَّة الطاحنة بين مختلف شعوب هذه القارة بسبب الفوارق بين معتقداتهم الطبيعيَّة السابقة وما فُرِضَ عليهم من دين جديد، اعْتَمَدَتهُ الإمبراطوريَّة ديناً لها. وقد ترتب على ذلك زيادات مستمرة في الضرائب المفروضة على المواطنين لغرض سد تكاليف هذه الحروب بالإضافة إلى أعمال السُخرة، مما أدى إلى ارتفاع مشاعر عدم الرضى لديهم، مروراً بتولي رجال ضعفاء زمام المسؤلية في بقاعها الواسعة، ووصولا إلى الحروب التي شنتها الدولة الإسلاميَّة الناشِئة ضدهم. ترتب على هذا الانهيار ظهور دويلات إقطاعيَّة ضعيفة ومتناحرة ومنهكة نتيجة لتداعيات الحروب السابقة تتحكم بها سلطة الكنيسة ورجال الدين بشكل مطلق. وكنتيجة منطقيَّة لهذه الانكسارات وهذا التراجع الفكريّ والحضاريّ دخلت أوروبا في فترة حرجة تراجعت فيها ِقيّمِها ومنجزاتها وصارت هذه المرحلة تُعْرَف بالفَتْرَة المُظْلِمَة.

لم تركن شعوب هذه القارة على حالة التَصَدّع والتدهور والتقهقر والانكماش التي آلت إليها ولقرون عديدة، بل أخذت تنهض من جديد وتزيل عنها ظلام القرون الغابرة. فمنذ بدايات القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر وبفعل النتاجات الفكريَّة والفلسفيَّة التي أثمرتها عقول الأجيال المتعاقبة وانعكاساتها الإيجابيَّة على المواطنين طرأت تغييرات كثيرة على حياة الشعوب. اتسمت هذه الفترة بالعودة إلى التراث اليوناني والروماني القديم، إلى الفن والشعر والمسرح والرسم والنحت والتصميم والموسيقى والقوانين وإلى الفلسفة الإغريقيَّة واليونانيَّة وما أبدعته عقول الكثير من الفلاسفة من أمثال ديموقرت (Demokrit) 460 – 371 ق.م. و فلاطون (Platon) 427 – 347 ق.م. وأرسطوطاليس (Aristoteles) 384 – 322 ق.م.، ومن تبعهم ولقرون عديدة وبخاصة إلى فلسفة فلاطون، وكذا إلى المنجزات الفكرية التي حققها العرب والأتراك والفرس، تلك التي تم تدوينها ونقلها إلى أوروبا، حيث ساهمت هذه المنجزات الموسومة بطابعها الإنساني بشكل فَعّال في حدوث نهضة واسعة في كافة مجالات الحياة. رافق هذا رواج التجارة بين الشرق والغرب وبين دول القارة الأوروبية نفسها مما وفَّر الكثير من الأموال التي ذهب قسم منها لتطوير دور العلم والتربية وزيادة المعارف، فانتعشت الدراسات الإنسانية مثل علوم اللغة والأدب والفلسفة وعلوم الطب والقانون، وبخاصة القانون المدني وقانون العقوبات وقوانين بناء الدولة، وبدأت مرحلة للانعتاق الفكري والتحرر من أفكار القرون الوسطى ومن هيمنة الكنيسة الكاثوليكيَّة ومفاهيمها. وارتباطاً بهذا كله توالت الاكتشافات والاختراعات المختلفة التي ابتدعتها عقول البشر، تلك العقول التي بدأت تنمو وتُثمر وتتعامل مع الواقع المحيط بشكل مبدع. ومن مشاهير هذه المرحلة الرسام الإيطالي ليوناردو دا فينتشي (Leonardo da Vinci 1452–1519) والكاتب المسرحي البريطاني وليم شكسبير (William Shakespeare 1564–1616) والشاعر الألماني آلبريشت ديرر Albrecht Dürer 1471–1528)) والفيلسوف الفرنسي ديسكارت (31.03.1596 – 11.02.1650 René Descartes) وغيرهم الكثير. دفعت هذه الإنجازات شعوب القارة ومبدعيها إلى الدخول في مرحلة جديدة من العيش والعمل تم الاتفاق على تسميتها بعصر النهضة (Renaissance)، جرى فيها الاهتمام والتركيز على الإنسان كونه شخصية مستقلة وفردا مبدعا.

وبالرغم من كل هذه التطورات التي ظهرت في ربوع القارة بقيت الكنيسة الكاثوليكية هي القوَّة المسيطرة والمتحكمة في كافة الأمور الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصادِيَّة، ومارست من خلال سطوتها هذه وباسم الدين أبشع أنواع الظلم والاضطهاد والفساد بحق المواطنين، وتَبَنَّتْ ضمن نظرتها الشموليَّة التشريعات العبوديَّة للحُكّام وجعلت منهم أكبر من أن يكونوا أولياء في الأرض، بل رفعت من شأنهم إلى مقام الإله الذي لا يجوز مخالفته أو عصيان أوامره. وقد لاقت ممارسات الكنيسة هذه اعتراضات واحتجاجات واسعة من عامة الناس، وساهم عدد من المتنورين ومن بينهم قسم من رجال الدين برفع صيحات الغضب والاحتجاج والتمرد على هذه الأعمال ومن يقف ورائها. إلى أن جاءت الشرارة الأولى التي أشعلها القس الألماني المُتنَوِّر مارتِن لوثَر (Martin Luther 11.1483 in Eisleben, Grafschaft Mansfeld; † 18. 11.1546) بداية القرن السادس عشر ضد سطوة الكنيسة الكاثوليكية وعسفها وفسادها، وذلك عند قيامه بترجمة "الإنجيل" من اللاتِينيَّة إلى الألمانية وحَذْفْ الكثير من النصوص التي تقادمت وأصبحت غير قابلة للفهم وللانسجام مع التطورات التي كسبتها الشعوب على مدى أكثر من 1500 عام على ظهور هذه الدعوة.

شَكَّل هذا الإنجاز العظيم، الذي بدأه مارتن لوثر، بداية حقيقيَّة لحركة الإصلاح الديني الكبير في الديانة المسيحِيَّة وتَرَتَّبَ عليه تقسيم الديانة وبالتالي الكنيسة والقارة الأوروبية إلى أوربا الكاثوليكية وأوروبا البروتستانتية، كما قاد هذا الانقسام بعد مرور 100 عام، إلى حرب طاحنة بين الطائفتين دامت ثلاثين عاما، من 1618 إلى 1648، تجرعت فيها شعوب القارة الويلات والخراب والدمار وشهدت ما لم تشهده في تأريخها من قبل، حتى نمى شعور عام لدى المواطنين بضرورة وضع حد نهائي لسيطرة الكنيسة على شؤون الدولة والمجتمع ومؤسساتهما.

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر شهدت القارة الأوربيَّة إندلاع الثورة الصناعية في بريطانيا وما رافقها من تطورات هائلة في المجالات التقنية وزيادة الإنتاجيَّة وكذا في مجالات العلوم وما ترتب عليها من تغيّرات اقتصاديَّة واجتماعيَّة عميقة كان في مقدمتها زيادة الإنتاج والرفاه الاقتصادي. وسرعان ما انتشرت هذه الإنجازات في ربوع القارة الأوربيَّة وشَكَّلت الأساس لثورات متلاحقة منها الثورة التكنلوجية وثورة المعلوماتيَّة التي يمر بهما عالمنا اليوم. رافق ذلك نهوض سياسي وعلمي واجتماعي على كافة المستويات. وما التقدم المُطَّرِد الذي أحرزته المجتماعات البشريَّة إلا ثمرة لتلك المنجزات التي تم تحقيقها في مختلف العلوم، الطبيعية منها والإنسانية، وكذا في مجالات القانون والطب والتكنلوجيا وغيرها وبجميع فروعها وعلى مختلف الأصعدة، وقد رافق ذلك كله اكتشاف لحتميّات الطبيعة والمجتمع والفكر، وللعلاقات الجدليَّة التي تربطها ببعضها، وبالتالي وحدة هذه الحتميّات وشموليتها وتأثيراتها على الفرد والمجتمع.

تلاحقت الإنجازات والتطورات والثورات في هذه القارة ففي عام 1789 اندلعت الثورة الفرنسية وكان شعارها الأساسيّ "الحُرِيَّة والإخاء والمُساواة". وأعلنت الكفاح من أجل حقوق المواطنين، وجاءت بمبادئها الخلاقَّة في إعلاء شأن الحرية للفرد والفكر والإبداع والدعوة إلى الإخاء ونبذ الحروب وإلى المساواة بين البشر، ووضع نهاية للدولة الإقطاعيَّة المستبدَّة ولسيطرة الكنيسة ومؤسساتها الفاسدة، وإلى تبنِّي أفكار مرحلة التنوير وبخاصة الموقف من حقوق الإنسان والبدء بتأسيس نظام سياسي جديد يستوعب المفاهيم الديمقراطيَّة. وسرعان ما انتشرت تأثيرات هذه الثورة في مختلف دول القارة وأصبحت مناراً يقتدى به في العالم أجمع.

كانت فرنسا ومثلها بقية دول القارة تعيش ثورة فكريَّة وأخلاقيَّة وتربويَّة، سبقت اندلاع الثورة الفرنسيَّة ذاتها وَمَهَّدت لقيامِها، ساهم فيها العديد من الفلاسفة والأدباء والمربين والحقوقيين والمبدعين من الفرنسيين وغيرهم وتركت آثارها الاجتماعيَّة الواسعة في صفوف الكثير من المواطنين من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية وفي مختلف دول القارة أطلق عليها مرحلة التنوير (Aufklärung). شَكَّلَت هذه الثورة البداية الحقيقيَّة لنشر أفكار ومفاهيم وقيم حديثة في العالم لم تكن معهودة من قبل، ومهدت الطريق لاندلاع الثورة الفرنسيَّة. حيث قام نخبة من المبدعين من تقديم انتقادات لاذعة للحكومات المستبدة ولأسس النظام الإقطاعي القائم آنذاك في أوروبا ولهيمنة الكنيسة الكاثوليكيَّة المطلقة وممارساتها الوحشيَّة، وتم ترجمة ونشر كتابات هؤلاء الروّاد إلى مختلف اللغات الأوربيَّة وفي أنحاء القارة والعالم. ومن مشاهير هذه الفترة من الفرنسيين الكاتب والفيلسوف فرانسوا فولتير (François Marie Arouet Voltaire 21.11. 1694 in Paris; † 30.05.1778) والكاتب والفيلسوف شارلس مونتسكيو (1689ـ1755Charles Montesquieu) والفيلسوف والمُرَبيّ والمنظر السياسي الكبير جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau 1712–1778) والكاتب والفيلسوف والسياسي دنيس ديدروت (1713 - 1783 Denis Diderot) والفيلسوف رينيه ديسكارت (31.03.1596 – 11.02.1650 René Descartes) وغيرهم.

شَكَّلَت هذه الأحداث التأريخيَّة المتنوعة التي مرَّت بها القارة الأوربيَّة المنبع الأساسي لولادة هذه المفردة الجَذَابة، أو على الأصح هذا المصطلح السياسي ــ الاجتماعي الجديد *** العَلْمَاِنيَّة *** الذي استخدمه ولأول مرّة في التأريخ عام 1846 الكاتب الشاب البريطاني، المفكر والمُبدع، المحرِّض الناشط ضد أساليب النظام الرأسمالي الجديد والمدافع عن حقوق الإنسان وعن الحركة العماليَّة وحريَّة التفكير والعقيدة بشكل عام، جورج هولي يوك George Jacob Holyoake13.04.1817 in Birmingham; † 22.01.1906 in Brighton). تعرَّف هولي يوك عام 1837على الكاتب والمفكر البريطاني روبرت أوين (Robert Owen (14.05.1771 in Newtown, Wales† 17. 11.1858 أحد الروّاد الاشتراكيين والمؤسس الأول للحركة التعاونية في العالم، وساهموا في تقديم مجموعة من المقالات تدعو إلى النشاط السياسي والانظمام إلى الحركة الاشتراكِيَّة الجديدة. وفي عام 1841 تمكن يوك وبالاشتراك مع مجموعة من مناصريه من تأسيس "جريدة النُبُوءة" التي استمر صدورها حتى عام 1861. مع بدايات عام 1862 بَدَأَ هذا المُفَكِّر بنشر مقالاته حول العَالم العَلماني وذلك بعد معاصرته للهزات الكبيرة التي تعرض لها النظام السياسي والاقتصادي الرأسمالي في بريطانيا وبقية دول القارة الأوروبيَّة. وقد تناول في كتاباته مواضيع ذات مضامين جديدة مثل عَلْمَنَة المناهج في المدارس والجامعات وتحجيم دَور الكنيسة في حياة المجتمع وضرورة توفير الدعم للتعاونيات ووضعها تحت إدارة الطبقة العاملة وغيرها.

عام 1871 استخدم المُرَبيّ الفرنسي (فرديناند بيسون Ferdinand Buisson) الحاصل على جائزة نوبل للسلام والمدافع عن فصل الدين عن المدرسة مصطلح مشابه لمصطلح العَلمانيَّة من حيث المضمون أطلق عليه (Laizismus). تم اشتقاق هذا المصطلح من الكلمة اليونانيَّة (λαϊκισμός)، التي تعني "غير رُوحيَّة" ودعى من خلاله إلى إبعاد المشروع الإداري للدولة ومؤسساتها ونقله من سلطة الكنيسة إلى سلطة أهْلِيَّة وفق تشريعات مدنيَّة. وسرعان ما انتشرت في القرن التاسع عشر وبخاصة في فرنسا وبلجيكا المفاهيم المناهضة لسطوة القوى الدينيَّة ولجبروت الكنيسة وتم توجيه النقد اللاذع لهيمنة الكنيسة وممثليها وإجرائاتها، وبنفس الوقت تم إطلاق الدعوات الحادة على الدولة للالتزام بالحياد والوقوف أمام جبروت القوى الدينيَّة، ولمناقشة واتخاذ التشريعات والقرارات والتوجيهات التربويَّة والإداريَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة وغيرها بالاعتماد على القناعات الشخصيَّة والموضوعِيَّة وباتجاه ترسيخ مبادئ الديمقراطية، وفق المعطيات الحياتِيَّة وبعيداً عن تأثيرات القِيَم الدينيَّة.

في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر اندلعت في أوروبا ثورة جديدة هي الثورة الفلسفيَّة وذلك بعد أن وضع الفيلسوف الألماني كارل ماركس Karl Marx (05.03.1818 in Trier; † 14.03.1883 in London)، أسس الفلسفة الماديَّة الديالكتيكيَّة، التي أنهى بموجبها الجدل القائم حول السؤال المركزي للفلسفة المتعلق بأولويَّة الفكر على المادة أم العكس، واضعاً بذلك حداً لمرحلة الفلسفة المثالية التي وضع أسسها فلاسفة اليونان والرومان القدامى أمثال فلاطون وأرسطوطاليس ومن تبعهم من الفلاسفة في بقية دول القارة الأوروبيَّة والعالم. مع بدايات القرن التاسع عشر وصلت الفلسفة المثاليَّة أوج عظمتها على يد الفيلسوف الألماني الكبير فريدريش هيغل Georg Wilhelm Friedrich Hegel 27. 08.1770 in Stuttgart; † 14. 11.1831 in Berlin، هذه الفلسفة المبنيَّة على فكرة أسبقيَّة الوعي على المادة، وتبعاُ لذلك فإنَّ الفلاسفة المثاليون يعتبرون الفكر الذي يمتلكه الإنسان، وبالتالي عملية التفكير البشري، ما هي إلا ظاهرة مستقلة بشكل تام وغير مرتبطة بالمادة، وهم يرجعونها تارة إلى أشياء ملائكية، وأخرى إلى عالم روحاني مستقل، أو إلى أفكار مطلقة أو مرتبطة بقوى خارقة، أو حتى إلى كونها موضوعة مستقلة لذاتها. وقد دَعَمَت هذه الفلسفة وحَمَلَتِها والمبشرين بها الحكومات المُسْتَبِدَّة في المعمورة ووقفت إلى جانب السلطات الدينيَّة المتعاقبَة ولقرون من الزمن.

نهاية القرن التاسع عشر توصل الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ
Ludwig Andreas Feuerbach 28.07.1804 in Landshut; † 13.09.1872 in Rechenberg bei Nürenberg إلى فكرة الفلسفة الميكانيكيَّة، ممهداً بذلك الطريق للفيلسوف الألماني المبدع كارل ماركس من التوصل بعد فترة وجيزة إلى وضع أسس علميَّة جديدة للفلسفة بشكل عام، أطلِقَ عليها مصطلح مبادئ الديالكتيك، وسميَّت فلسفته تبعاً لذلك ب "الفلسفة الماديَّة الديالكتيكيَّة". اعتمدت فلسفة ماركس الماديَّة الجديدة هذه، المادة كأساس لها، وهي ترى بأنَّ "كل شيء موجود خارج حدود الوعي ومستقل عنه، يسمى مادة."* وتبعاً لذلك فإنَّ الوعي بالنسبة لها ما هو إلا شيء ثانوي، بل هو نتاج للمادة ذاتها، ووجوده مرتبط مركزياً بوجود المادة، ولا يمكن أن يتواجد بمعزلٍ عنها، "وما الوعي إلا نتاج لمادة متطورة جداً وهي الدماغ."** وقد صاغ كل من كارل ماركس وفريدريك إنجلس فلسفتهم على هذا الأساس وربطوها بمبادئ الديالكتيك واعتمدها من تبعهم منهجاً في إدارة شؤون السياسة والاقتصاد والمجتمع وعلى المستوى العالمي.

وفي عام 1917 اندلعت الثورة الاشتراكية في روسيا "ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى." تَبَنَّت هذه الثورة ومنذ قيامها مبادئ المادِّيَّة الديالكتيكيَّة، التي كانت الثمرة الكبيرة لفلسفة كارل ماركس الماديَّة، واعتمدتها كفلسفة في صياغة البرامج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للدولة الجديدة مما ساهم في دفع عجلة النمو والتطور في العالم وزيادة وتيرتها. كما أن هذه الدولة فصلت وبشكل تام الدين عن الدولة وكذا الدين عن المدرسة وأبعدت تأثير الدين على حياة المجتمع. وحرَّرت الكثير من الشعوب الراسخة تحت نير القيصريَّة الروسيَّة المدعومة بهيمنة الكنيسة الآرثودكسيَّة، وساهمت بشكل كبير في التهيئة لتحرير بقية شعوب العالم من نير السيطرة الاستعماريَّة، حيث إنها دعت إلى احترام حقوق الإنسان، وأصدرت الإعلان الخاص بحق الأمم في تقرير مصائرها وقدمت الكثير من أشكال الدعم الماديّ والمعنويّ والسياسيّ لتحقيق هذا الإعلان مما أسهم باندِلاع حركات التحرر والتخلص من السيطرة الأجنبيَّة في مختلف قارات العالم. وقد اعتمدت مجموعة الدول الاشتراكيَّة، التي تشكلت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، هذا النهج أيضاً.

وأخيراً لا بد من القول بأن الحروب الصليبيَّة والاستعمارية التي خاضتها دول أوروبا ضد بقية دول العالم، وكذا الحربين العالميتين التي قادتها ألمانيا بالتعاون مع حلفائها وما ترتب عليها من مآسي إنسانيَّة وما جلبته من ويلات اقتصادية واجتماعية ساهمت هي الأخرى في تحريك الأجواء وتقديم معطيات جديدة دفعت باتجاه وضع حلول أفضل للتعامل مع أنماط العلاقات السائدة في دول العالم.

كل هذه المُعْطَيات فَرَضَت على البشر الخوض في أمور الكون والمجتمع واعتماد طرق تفكير جديدة، وأنماط عمل سياسيَّة مُبْدِعَة، وأشكال تنظيميَّة متطورة للمجتمعات، بعيدة عن تلك الطرق والأنماط البالية والمتخلفة، وأن تكون مضامينها تصب في تحسين ظروف الحياة العامة للناس في مختلف أماكن تواجدهم بالاعتماد على الوسائل المادية وما أفرزته العقول البشريَّة وما ترتب عليهما من اكتشافات واختراعات ومبتكرات علميَّة وفنيَّة وتكنلوجيَّة. وأن تضع ثمرات كل هذه الإنجازات في خدمة المواطنين في أطر قانونيَّة يتم فيها احترام حقوق الفرد والعائلة والمنظمات الاجتماعيَّة والأقليات القوميَّة والدينيَّة بالإضافة إلى احترام العمل والإنتاج والإبداع والفكر في مجتمع تسوده العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات لجميع أفراده بغض النظر عن انتمائاتهم ومعتقداتهم، وأن توفر لهم أفضل الخدمات وترفع من مستويات معيشتهم.

وكمثال على دساتير الدول العَلمانية فقد تم في فرنسا منذ عام 1905 فصل الدين عن الدولة بشكل نهائي وقانونيّ، وتم اعتماد مبدأ العلمانية لأول مرَّة في دستور عام 1946، وجاء في المادة الأولى من دستور الجمهوية الفرنسية الذي تم إقراره في عام 1957 ما يلي: "فرنسا جمهوريَّة غير قابلة للتقسيم، عَلمانيَّة، ديمقراطِيَّة واجتماعيَّة. وهي تضمن المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دون التمييز على أساس الأصل أو القوميَّة أو الدين." بالإضافة إلى ذلك فإن لجنة الدستور الفرنسيَّة وضعت 5 مبادئ أساسيَّة تم اعتمادها في صياغة الدستور وبالتالي التشريعات في الجمهوريَّة الفرنسيَّة وهي: "حريَّة التعليم، حريَّة الضمير، احترام الحياة الشخصيَّة، حريَّة الاجتماع و حريَّة تبادل الآراء."

وقد أقَّرت العديد من دول العالم وبشكل رَسميّ مبدأ العَلمانيَّة في دساتيرها واعتمدته كأساس في تشريعاتها مثل تركيا، حيث قام السيد مصطفى كمال أتاتورك أوَّل رئيس لجمهوية تركيا خلال السنوات 1923 وحتى 1938 بتثبيت هذا المبدأ والعمل بموجبه دستورياً، وكذلك نحت دول أخرى مثل ألبانيا والهند والمكسيك والإكوادور والصين واليابان والبرتغال والتشيك وغيرها هذا المنحى.

بعد النجاحات الكبيرة التي حققتها ثورة أكتوبر الإشتراكيَّة في روسيا على طريق تحرير الطبقة العاملة الروسيةَّ وكذا تحرير شعوب الكثير من دول القارة الآسيوية من سيطرة القيصريَّة الروسيَّة ومن هيمنة الكنيسة الآرثودكسيَّة من أجل الحصول على إستقلالها وإقامة دولها المستقلة وتطوير إمكانياتها الماديَّة والعلميَّة في أجواء من الديمقراطيَّة والعدالة الإجتماعيَّة. وكذلك الموقف العظيم للدولة السوفياتيَّة وللجيش الأحمر السوفياتي في الوقوف بوجه الزحف النازي والفاشي الذي قادته المانيا الهتلريَّة وإيطاليا الفاشيَّة بالتعاون مع عساكر الإمبراطوريَّة اليابانيَّة ضد الإنسانيَّة وبالتالي تحرير دول أوربا الشرقيَّة من سيطرة الجنرالات ومساعدتهم في إقامة أنظمة ديمقراطيَّة وعدالة إجتماعيَّة .

إلا أنَّ الحكومات الجديدة التي تربعت على كرسي السلطة سواء في روسيا ومن ثم في الإتحاد السوفياتي أو في بقية الدول التي ساهمت ثورة أكتوبر ونظامها الجديد في تحريرها من ظلمات الماضي ومن طاغوت النازيَّة الألمانيَّة وبعد أن تمكنت من تثبيت أقدامها وفرض هيمنتها على أمور البلاد وتشديد الخناق على رقاب المواطنين، صارت تنهج طريق فرض هيمنة وسلطة ودكتاتوريَّة الحزب الواحد والفكر الواحد في بلدانها مما أفقدها شعبيتها وساهم في نفور المواطنين عنها وبالتالي إنهيار أنظمتها وتعرض شعوبها إلى كبواة ترتب عليها إنهيارات في أوضاعها السياسيَّة والإجتماعيَّة والبنيويَّة لا زالت تعاني منها.

وبنفس الإتجاه سارت معظم دول ما يسمى بالعالم الثالث عشيَّة إنعتاقها من الهيمنة الإستعماريَّة بإقامة أنظمة دكتاتوريَّة عسكريَّة إرتبطت من جديد بسادتها من الدول الإستعماريَّة وساهمت بهذا القسط أو ذاك بفرض الهيمنة على شعوبها، مستبدلة نظام الهيمنة الإستعماريَّة بأنظمة دكتاتوريَّة تُقَيِّد تطلعات الشعوب وتحرمهم من التمتع برياح التغيير. كما حدث هذا في معظم الدول العربية وفي غيرها من دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيَّة.

وتمكنت بذات الوقت بعض الأحزاب أو الجماعات من الوصول الى دست السلطة في بعض الدول التي إعتمدت العَلْمانِيَّة كنظام لها، إلا أنها وبعد إن مسكت بزمام الأمور في بلدانها راحت تُكَشِّر عن أنيابها وتفرض دكتاتوريتها على المواطنين متنصلة بذلك عن مبادئ الديمقراطية وعن التوجهات العَلمانِيَّة المثبتة في دساتيرها كما هو الحال في تركيا حالياً وفي ألبانيا سابقاً. فلا معنى ولا فائدة ولا أهميَّة من إستبدال نوع من الهيمنة بنوع آخر مهما كان شكله ومنبعه ومضمونه.

ويبقى السير الحثيث في نشر مفاهيم الديمقراطيَّة والمساهمة الجادة في عملية تربية المواطنين على تبني هذه المفاهيم والعمل الجاد بموجبها من أجل تحقيق المزيد من الخطوات في عملية بناء الأنظمة الديمقراطيَّة وترسيخ نماذج الحكم العلمانيَّة العابرة للأديان والطوائف والأعراق، وإلغاء كل أشكال الهيمنة والسيطرة والنفوذ وإحتكار السلطات سواءً من قبل القوى الدينيَّة أو العسكريَّة أو الحزبيَّة وغيرها هو المطمح الأساسي للكثير من الشعوب المتطلعة إلى الإنعتاق والحريَّة والعيش الكريم.


• رابط الجزء الأول ـ العَلمانيَّة ـ
• رابط الجزء الثاني ـ سِمات العَلْمانِيَّة ـ


http://de.wikipedia.org/wiki/S%C3%A4kularismus (1)
http://de.wikipedia.org/wiki/Laizismus
http://www.iphpbb.com/foren-archiv/10/606400/605840/saekularismus-43715060-17898-192.html
http://library.fes.de/pdf-files/akademie/berlin/05050.pdf
Religion und säkularer Staat
library.fes.de/pdf-files/akademie/berlin/05050.pdfÄhnliche Seiten
Dateiformat: PDF/Adobe Acrobat - Schnellansicht
tende Säkularisierung und religiöse De-Institu- ... der Unterscheidung zwischen säkularen
und nicht- .... Vereinsfreiheit (1901) und das Gesetz über die Ge- ...
http://mb-soft.com/believe/tgnm/seculari.htm
*Philosophisches Wörterbuch 2 Bände/ VEB Bibliographisches Institut Leipzig 1976/ Band 2/ Seite 769
**Philosophisches Wörterbuch 2 Bände/ VEB Bibliographisches Institut Leipzig 1976/ Band 1/ Seite 224

 

 

 

 

free web counter