| الناس | الثقافية | ذكريات | صحف ومواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. محمد شطب

 

 

 

 

                                                                                                 الجمعة 9 / 8 / 2013

          

العَلمانِيَّة
SÄKULARISMUS
وهي مشتَقة من الكلمة اللاتينيَّة (saeculum) التي تعني العَالَم

د. محمد شطب

I. تعريف العَلمانية:
العلمانيَّة "عَمَلِيَّة طَبِيعِيَّة أو عَقْلانِيَّة تقود إلى الفَصْل بين الدين والدَولة، وإلى فَصْل المؤسسات الدينيَّة عن مؤسسات الدَولة."(1)

والعَلْمَنَة: هي الإجراءات المحددة التي تهدف إلى حل الهيْمِنَة السياسيَّة والروحِيَّة للمؤسسة الدينية، بوصفها قوَّة شِموليَّة فَرَضَت نَفسها على المجتمع، لتحل محلها نظرة عِلميَّة آخذة بالتطور تتولى النهوض بإدارة أمور الدولة ورعاية مواطنيها. وفي مقدمة هذه الإجراءات فك كافة أشكال الإرتباط للمؤسسات الرسميَّة مع السلطات الدينيَّة، وتحرير كافة أشكال الممتلكات العامة ونقلها من سلطة المؤسسة الدينيَّة إلى الدولة والحد من تدخل القوى الدينيَّة في الشؤون السياسيَّة للبلاد وكذا في شؤون المجتمع، واعتبار قضية الأديان والإيمان من الأمور الخاصة، التي يمكن أن يمارسها الناس بشكل شخصيّ ومباشر وبدون أية إملائات أو تدخلات خارِجِيَّة لا من قبل رجال الدين أو وكلائهم وممثليهم ولا من قبل المؤسسات الدينيَّة التابعة لهم.

وباعتماد هذه الإجراءات تم تحجيم وتفكيك عِلاقات الهيمنة المتينة والمتداخلة التي فرضتها القوى الدينيَّة على الدولة في مجتمعات القرون الوسطى في أوروبا، حيث كانت الكنيسة ومعها رجال الدين هم المسيطرون على كافة أمور البلاد والعباد بعد إن تمكنوا من تحويل سلطة الدين إلى دين للسلطة والتسلط. وبنفس المسار تم إلغاء الحروب الدينيَّة التي فرضتها طائفة معينة على الطوائف الأخرى وإقرار التعددية في المجتمع والسعي لتلبية مطاليب المواطنين وتقديم الحلول اللازمة للمشاكل التي تواجههم مع تقديم الضمانات العامة لهم بالاعتماد على المنجزات العَقلية والمادية المتوفرة.

 فالعَلْمَنة تعبير واضح عن موقف فلسفي وسياسي يضع إنجازات التطورات العِلميَّة والطبيعيَّة والتحولات الإجتماعيَّة المستمرة في مواجهة هيمنة القوى الدينيَّة على حياة المواطنين. بل هي نموذج جديد للحياة تم استخلاصه من عمليات عَقلنة المجتمع ونُضج ثقافته ونقلها من أعمال الإيضاح والإرشاد والتنوير إلى مجتمع متطور مبني على مبادئ الجدل وتبني منجزات العلم والتكنيك الحديث. وهنا يجب القول بأن الكم الهائل من التطورات المتلاحقة التي أفرزتها التجارب البشرية في القرون الأخيرة وما ترتب عليها من ذخيرة علمية أخذت تتفوق وبشكل واضح في تقديم الحلول والإجابات الرصينة على احتياجات العصر، فيما أخذ الفكر الديني يتراجع في تقديم مثل هذه الإجابات. ومن جانب آخر أفرزت هذه التطورات مجالات جديدة في حياة الناس انعكست نتائجها على مجمل القِيَم الأخلاقيَّة السائدة وتجاوزتها ووقفت القوى الدينيَّة عاجزة عن تقديم الإيضاحات لها أو توفير الأدلة اللازمة لدحضها أو تأييدها.

كلمة العَلمانية مشتقة من كلمة العَالَم، وطابعها دنيويّ (säkular: weltlich). ظهر هذا المفهوم كنتيجة منطقية للإجراءات والتطورات التي حَدَثَت ولا زالت مستمِرَّة في كافة بقاع العالم وفي كافة المجالات وعلى مختلف المستويات، والتي حَصَرَت اهتمامها بالأمور المُعْتَمِدَة على الوعي والتجارب البشريَّة فقط، بعيداً عن الأسرار والغيبيات وأعمال السحر والشعوذة والظلاميات وما رافقها من تحجُّر عقلي وجمود فكريّ. وترى العَلمانِيَّة بأنَّ طرق البحث العِلْميَّة هي الكفيلة بالتوصل إلى الحقائق وزيادة المعارف، كما أنَّ اتباع الأساليب العِلميَّة والعقلانيَّة في التربية هي الكفيلة في إعداد الإنسان القويم.

تتعمق القناعة وبشكل متزايد لدى المواطنين في الدول الأوروبية وغيرها من دول العالم من كون العَلمانية أصبحت من الشروط المنطقيَّة لإقامة المجتمع المتطور، الذي يضمن حريَّة الإنسان ويصون كرامته ويؤمن استقلاليته ويوفر له الأمن والأمان، وتزداد مطالباتهم بنشر وتطوير هذه المبادئ والعمل بموجبها، وترتقي طموحاتهم إلى العيش في عالم حُرِ تسوده مبادئ العدالة والمساواة، بلا أسياد أو مُتَسَلِطين، وبنفس الاتجاه تتعزز قناعاتهم من كون الدين، إذا ما أُقْحِمَ في الشأن السياسي، يهدد التوجهات الديمقراطية في المجتمع وإنَّ القوَّة البَرّاقة التي كان الدين يتمتع بها خلال سنوات القرون الوسطى في فرض سطوته على المجتمع أخذت تفقد بريقها في المجتمعات الحديثة، ويرون إن السبيل إلى إقامة الدولة العَلمانية يأتي من خلال السير الحثيث على طريق ترسيخ مبادئ الديمقراطية والعمل بما ينسجم مع مضامينها وتوجهاتها وأن يتجذر هذا النهج وبشكل مستمر بالاعتماد على فك أواصر الصلة بين الدين والدولة.

في المجتمعات التعدديَّة، المتكونة من نسيج اجتماعي متنوع القوميّات والديانات، لا يمكن الحديث عن ديمقراطية حقيقية تضمن حرية المواطنين ومساواتهم التامة مع بعظهم البعض وفي كافة المجالات من غير اعتماد العَلمانية. وهنا يمكن القول بأنَّ العَلمانية تَحَوَّلت في الوقت الحاضر إلى ظاهرة ملازمة للتطور الاجتماعي، وإلى مَعْلَم لإشاعة الحريات والمساواة بين المواطنين، وهي ثمرة من ثمرات الحداثة والتطور.

يُشَكِّل كل من الدين والدولة في المجتمعات العَلمانيَّة مجالات مختلفة ومنفصلة عن بعضها البعض بشكل تام، ورغم أنهما يتعايشان مع بعضهما في علاقات غير تناحرية فإنه لا يسمح بأية حال بتدخلات رِجال الدين أو المؤسسة الدينيَّة في الأمور السياسيَّة للبلد أو في كيفيَّة تنظيم دساتيره وتشريعاته وإدارة شؤون مواطنيه. وإنَّ ما يبعث على التفائل في نشر المفاهيم العَلمانِيَّة ما تقوم به الكثير من اللجان والمنظمات الدوليَّة وبخاصة تلك المطالِبَة بالدفاع عن حقوق الإنسان عن طريق إصدارها للتشريعات التي تُحَرِّم التمييز القائم بين المواطنين على أسس دينيَّة أو قوميَّة وغيرها، وتدعوا إلى إلزام الدول بتنفيذ هذه التشريعات، مما يترتب عليه تعميق لمبادئ العَلمانيَّة على المستوى العالمي.

أخذت موضوعة العَلمانيَّة والعَلمانيين في الدول الإسلاميَّة عامة والعربيَّة منها بشكل خاص تغزو خنادق قوى وأحزاب الدين ـ السياسيَّة المتنفذة وتدق مضاجعهم، وذلك تزامناً مع سلسلة التغيرات التي حصلت وتحصل في العالم العربي والتحولات السياسيَّة والاجتماعيَّة التي تبعتها، حتى أصبَحَت هذه الموضوعة تَحْتَل أماكن الصَدارة من إهتماماتهم بعد إن أَعْيَتْهُم من قبل مفردات مشابهة لها مثل الماديَّة والديمقراطيَّة والفدراليَّة وغيرها.


وبعد إن تَمَكَّنَتْ الديمقراطيَّة، بهذا القَدَر أو ذاك، من أن تجد موطئا لها بين هذه القوى (قوى أحزاب الدين السياسيَّة)، ولو بصورة شكلية، بالرغم من التفاوت الشاسع في فهمهم لمضامينها وفي كيفية تطبيقها، كونها شكل من أشكال الحكم، حتى صارت القوى الشعبية والرسمية تجد في الديمقراطية الحل المنتظر للمشاكل المستعصية والأزمات المتلاحقة في الدول التي رزخت تحت حكومات الاستبداد السياسي وعلى مدى عقود من الزمن، لكن العراك بخصوص العَلمانيَّة لا يزال مستعراً ليس فقط من جانب القوى الحاكمة والمتنفذة بل أيضاً من جانب المحكومين، وبخاصة بعد إن أدرك العَلمانيون بأن طبيعة معركتهم الفكرية والسياسية ضد هيمنة القوى الدينيَّة وضد الدولة الدينِيَّة والاستبداد لن تتغير، فهي معركة من أجل الديمقراطية الحقيقيَّة ومن أجل الحريات الأساسية الواعدة بمجتمع إنساني يليق بتطلعاتهم ويحقق أمانيهم وطموحاتهم بعد المعاناة الطويلة. والعَلمانية الغائبة أو بالأحرى المُغَيَّبَة قسراً عن المشهد السياسي، هي وحدها التي تضمن هذه الحقوق وتُؤمن الحريات المنشودة.

وَبَعْدَ إنْ استطاعَ السيل الجارف لجبروت الديمقراطية من فرض حضوره في أوساط قوى الدين ـ السياسية مُجبِراً إياها على تَجَرُعِها، والعمل بموجبها تحت ذرائع مختلفة، رُبَّما لم تكن مقتنعةً بها في أغلب الأحيان، أجبرها أيضاً على البحث عما يُمَكِّنها من تأصيل هذه المفردة حتى ارتضت بها وعلى مضض كونها ليست إلا الشورى الإسلامية مع الاختلاف في اللفظ فقط. بينما الشورى لا تمت بالديمقراطية بصلة، خاصة إذا طبقت وفق المفهوم القرآني الذي مفاده "وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل" فالقائد كما واضح من النَصْ غير ملزم برأي الشورى أصلا. فَسَتُرْغِم عجلة التطور لا محال القوى عينها على تقبل جُرعات العَلمانية كونها تؤسس إلى بداية مرحلة تأريخية جديدة في حياة المجتمع حتى وإن كان هذا المصطلح وما يتضمنه من مفاهيم اجتماعية وسياسيَّة لا يشكل بأية حال طريقاً لهم للوصول إلى مراكز السلطة أو الحكم كما فعلوا ذلك من قَبْل حين ركبوا حصان الديمقراطيَّة للوصول إلى مواقع المسؤوليَّة، كون مفاهيم العَلمانيَّة دُنيَوِيَّة مُسْتَنْبَطَة من عقول الناس تُلَبي مقتضيات الحياة وسُننِها، ويتم تحويلها إلى شرائع ودساتير وقوانين تتم مناقشتها بعقول بشرية وبدون أية وصاية جَبْرِيَّة، تُوضع في خدمة جميع المواطنين دون تمييز ديني أو عرقي أو فكري أو مذهبي وحتى جنسي. وهذا بحد ذاته يتعارض مع الهدف الأول والأساسي لهذه القوى والمُتَمَثِّل بفرض وصايتهم الاجتماعية على الناس وإلزامهم التَمَسّك بتشريعاتهم.

وقد ألصقوا تُهَم الإلحاد والزندقة والكفر بمفاهيم العَلمانيَّة وأعلنوا ضدها وضد مؤيديها حرباً ضروسا مستخدمين بذلك كافة الإمكانيات المتاحة بما فيها تلك البعيدة عن مبادئ الشرع والقانون والأخلاق، رغم أنَّ مبدأ العَلمانية من أساسياته التسامح الديني والسماح لكل الأديان والمعتقدات الأخرى ومعتنقيها بممارسة حقوقهم وبحريَّة تامَّة. والسبب الحقيقي لمعاداة العَلمانيَّة والعَلمانيين يكمن بمعارضة هؤلاء لقيام الدولة الدينِيَّة ورفضهم سيطرة رجال الدين على كافة مرافق الدولة والتحكم بشؤون البلاد والعباد وكأنهم أولياء مرسلون.

وأصبح من الأمور المعروفة للجميع أن الدول العَلمانيَّة في أوروبا وغيرها من بلدان العالم تَسْمَح بالتَدَيِّن وكذا بعدم التَدَيِّن، تَسْمَح للفَرد بأن يؤمِن بأيِّ دين يرتئيه أو يترك الدين الذي آمَن به وينتقل إلى دين آخر، كما أنَّها تسمح ببناء الصوامع والكنائس والجوامع والأديرة وغيرها من دور العبادة والتردد عليها من قبل منتسبيها في أي وقت يشاؤون وتمنحهم كامل حرياتهم بممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينيَّة دون رقيب أو حسيب. فهي تتعامل مع الأديان ومعتنقيها بأساليب حضاريَّة عالية تحميها الدساتير النافذة وتوفر القوانين المرعيَّة الحماية اللازمة لها، وتتعامل هذه الدول مع مواطنيها بدرجة واحدة، فمبدأ المواطنة يساوي بين الجميع أمام القانون بغض النظر عن أديانهم، وفق المبدأ الديمقراطي الذي تم طرحه في العقود الأولى من القرن الماضي من قبل رئيس الوزراء المصري السابق السيد مصطفى النحاس باشا (الدين لله والوطن للجميع) . فحتى أولائك غير المتدينين في هذه الدول يتمتعون بنفس الحقوق ولهم ما عليهم مثلهم مثل الآخرين من أبناء وطنهم، ولا يحق لأي مواطن النيل من الآخرين أو التجاوز عليهم أوالنظر إليهم شذرا والتعامل معهم كونهم كفّارأً أو فاسقين أو ملحدين أو خارجين عن الدين لأنهم يختلفون بانتمائاتهم إلى أديان أخرى أو لعدم التزامهم بالدين. فالجميع متَّفقون على احترام الآخرين وصيانة معتقداتهم، حتى صار سلوك التسامح والمساواة والتربية في هذا الاتجاه من المُسَلَّمَات التي يتعلَّمها الصغار في رياض الأطفال كما أنها أصبحت من الممارسات المعمول بها يومياً في حياة المجتمعات العَلمانيَّة.


(يتبع الجزء الثاني)
 


 

free web counter