|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  28  / 1 / 2015                                 مزهر بن مدلول                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مراسيم خاصة
(8)

مزهر بن مدلول

البرقية!

مرّت على هذه الحادثة اكثر من ثلاثين عام، ومما لا شكّ فيه، انّ استحضار صورة مؤلمة من الماضي، يبعث على التوتر، اكثر منه على الاحتجاج، لأنّ الأمر لا يتعلق بما نفكر به الآن، بل في ذلك الأطار الزمني وأعرافه السائدة، فنحن الذين تعلمنا ان نتأبط الصحف والكتب واصبحنا فجاة نتأبط القنايل، مازلنا نشبه شخصيات (وليم فوكنر) الجنوبية التي دمّرتها التقاليد، تلك التي كلفتنا خسائر كثيرة، وجعلتنا نرتكب افعالا قاسية!، والآن لا اجد نفسي مضطرا لأن اكتب اكثر من هذه السطور على الرغم من غموض افكاري!.

استيقظنا صباحا وتوجهنا الى المطبخ، كان العدس خال من نكهة البهارات، ومنظره يجلب التشاؤم، وقبل ان نبدأ بتناول وجبة (الريوكَ)، نهض (المستشار السياسي) واقفا، تأملنا بشرود، واعلن انه سيقرأ على مسامعنا نص البرقية التي جاءتنا من مقر (لولان)، والتي تقول: (انّ اثنين من الملتحقين وهما (ك) و (ع)، قد فرا من المقر في اخر الليل، وسرقا بعض الاسلحة)!.

كنّا انذاك في مقر (دراو السفلى) مع الرفيق الفقيد (ابو عامل) والرفيقة الشهيدة (انسام)، وهذا المقر هو الاقرب الى مواقع السلطة، ويقع اسفل قمة شديدة الانحدار، يستغرق صعودها للعبور الى (كَلي خوا كورك) اربعين دقيقة، اما من الجهة الاخرى، فيقابل (قرية دراو الاصلية) التي اتخذ منها الاقليم مقرا له ثم تركها ، كما يمرّ من جانب المقر نهر (روبار) مياهه صافية وضحلة، وبالرغم من انّنا كنّا نعيش على حافة الاشياء، لكنّ الطبيعة الخضراء تضفي على المكان سحرا يبعث على الاحلام!، خاصة لمن يريد ان يبتعد قليلا عن منطق الجبل.

اما مقر (لولان) الذي هرب منه الملتحقان، فيقع على الحدود مع ايران، وهو مكان مرتفع وتحيط به قمم جبلية ووديان غاية في الوعورة، ولا يمكن لمن لا يعرف المنطقة جيدا ان يغامر في التنقل فيها بسهولة، ولهذه الاسباب جرى اختيار (لولان) ان يكون مكانا لاجتماع (اللجنة المركزية) الذي انعقد في نفس سنة 1984، والذي مازلت اتذكر بعض الاشياء الصغيرة التي احاطت بذلك الاجتماع.

كنّا اثني عشر نصيرا مكلفين بحمايته، ولا استطيع ان اتذكرهم جميعا، لكنّ الانصار: ملازم قصي و(ابو روزا وام روزا) وثائر وآزاد (قيصر)، وابو عبلة، وابو رهام، وابو اصطيف، وابو هادي، كانوا ضمن تلك المجموعة، وبالرغم من انّ نهاراتنا وليالينا لم تكن راكدة ورتيبة، وكانت مليئة بالسهر والواجبات!، الاّ انّ اجواء الالفة بيننا وبين المجتمعين كان لها تأثير مباشر في تبديد الضجر والتعب وسلبية المزاج، فقد بدا الرفيق (عزيز محمد) سعيدا بنبأ منحه (وسام اكتوبر) بمناسبة بلوغه الستين، والذي اذاعته الاذاعة الروسية اثناء الاجتماع، وكان الرفيق الفقيد (ابو عامل) الذي يمتلك وجها قوي المعالم، اكثر الرفاق تأملا، كان يقف شابكا ذراعيه على صدره ورافعا هامته، يرمق الافق والجبل بنظرة لها فصاحة تختصر كل ما يجول في خاطره، فهو اكثر الحالمين بالانتصار!، اما الرفيق الفقيد (ابو يوسف او ابو عواطف) فكان الاكثر قربا وانسجاما، وكلما سألناه عن اهم قرارات الاجتماع، يردّ مازحا: (ان يترك ابو علي التدخين)!، فقد كان الرفيق (حسين سلطان) يصاب بنوبات سعال حادة بسبب ذلك.

وعلى الرغم من انّ جدول عمل الاجتماع كان حافلا، وخاصة انه اجتماعا مخصصا لتقييم سياسة الحزب خلال عشر سنوات خلت، كما انه انعقد في ظل ظروف الحرب العراقية الايرانية والتحالفات السياسية المهزوزة، الاّ انّ الذي نتطلع اليه ويعنينا بشكل مباشر في تلك الفترة، هو ان نحقق وجودا عسكريا مؤثرا، وان تكون لنا مقرات خلفية آمنة للاعلام والقيادة، ومنافذ سهلة للتموين والتواصل، وهذا ما حصل بعد ذلك الاجتماع، حيث اصبحت لدينا مقرات كثيرة، كما جرى استطلاع شامل للمنطقة وحددنا مواقع اخرى تصلح لان تكون ثابتة، لكننا مازلنا في (دراو السفلى)، وهو مكان الحدث!.

بعد اعلان نبأ هروب (ك) و (ع)، ساد صمت وهمس بين الانصار، وعلى الوجوه ارتسمت ملامح حزن وامتعاض، لاشك انّ حياة الجبل محطمة للروح، وليس لأيّ شخص القدرة على تحمل قسوتها، وخاصة اولئك الذين يمتلكون افكارا محايدة!، انها ضيقة جدا، ولا تتسع لطاقات ونزوات تبحث عن مكان طبيعي لكي تنطلق وتتحرر فيه، وحتى الاحلام اصبحت عبارة عن انفعالات متناقضة لا محطة لها ولا وضوح فيها!، لذلك فهي لم تكن لهذين الشابين الاّ مزيجا من الموت والخَبَل، ولما وصلا الى حالة اليأس الكامل، قررا الهروب!.

لم يكن هروبهما هروبا اعتياديا ، بل كان متهورا ويائسا، حماسة لحظة يصعب لجمها، افراط في تخيل حياة عذبة قادمة!، اوهام كثيرة في راس احمق، جعلت كلا من (ك وع) يتسللان على رؤوس اصابع قدميهما ويخرجان من المقر ومعهما : (ار بي جي) و(ديكتريوف) وبنادق كلاشنكوف وقنابل يدوية وبعض العتاد من الرصاص.
هذه الاسلحة هي الثمن الذي سيدفعانه مقابل حريتهما الوهمية، لكنّ الجبل عنيد، ومن يتحداه من دون معرفة، يجعله يندم على اليوم الذي ولد فيه!:
- اشششششش.. التفتَ (ك) محذرا (ع) الذي تعثرت قدماه بالصخور، كان وجهه اصفر كصفرة الموت، ويتنفس بمشقة كأنّه مخنوق.
- لماذا لا نعود الى المقر ونعتذر عن فعلتنا؟!، صدقني يا (ك) ان الشيوعيين طيبون وسوف يصفحون عنا، انا متأكد من ذلك.
لم يستطع (ك) ان ينطق بكلمة واحدة، لقد استولى عليه الرعب حتى انعقد لسانه، وكان الظلام على اشده، والاشجار تراءت لهما كأنها كوابيس تتبع خطواتهما، والريح تعوي، والطريق بات اثر بعد عين!.
امضيا ساعات الهزيع وهما يدوران في نفس المكان، ولما ظهر النهار اختبئا في احد الوديان وكانت تراودهما الهواجس وتستبد بهما الوساوس، فقد ادركا انّ مغامرتهما الطائشة محفوفة بالمخاطر الشديدة.
اما نحن الذين قُرئت على مسامعنا البرقية في الصباح الباكر، فقد استنفرنا جميع حواسنا، وجعلناها تعمل بطريقة استثنائية وخاصة اثناء الحراسة الليلية، لكننا لم ننتشر على جميع الطرق، ولم تخرج مفارزنا للبحث عنهما في الاماكن التي من المحتمل ان يمرا بها، ولكن، وعلى الرغم من ان هناك امكانيات كبيرة لان يفلتا، الا ان عدم معرفتهما بالطريق كما ذكرت سابقا كان سببا في القبض عليهما.
فعندما تحركا في الليلة الثانية حيث الظلام الدامس، ضاعا في الجبل مرة اخرى، ولم يعثرا على الممر الذي يؤدي الى (الده شت)، فقادهما الطريق من دون ان يعلما الى مقرنا في (دراو السفلى)، كان الحرس انذاك النصير (عدنان الاحيمر، لقب بالأحيمر لتمييزه عن العدنانات الاخرى وخاصة ان عدنان وجهه احمر)، وكانت الساعة عند منتصف الليل، فمرا من الطريق الذي يقع اسفل نقطة الحراسة، جي زه لم..... قـــــــــــــــــــــــف : صاح الحرس بهما وسحب اقسام بندقيته فورا، فأصابهما الذهول من شدة المفاجأة، ووقفا من دون ان يحركا ساكنا، وما كان من الحرس الا ان يجردهما من الاسلحة التي سرقاها، ويقودهما الى السجن!!..




 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter