|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 السبت  5 / 10 / 2013                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الابيض والاسود

د. مظهر محمد صالح

إمتلاْت اقداح الشاي ببلورات السكر الشديد البياض ثانية وبسرعة وخفة متناهية، قبل ان يٌغرق صاحب مقهانا أقداحنا بسائل الشاي الذي تكحل بلون شديد السواد وهو يتدفق بسخاء من ذلك الابريق الذي دٌفن بين احضان الخشب اللاهب.قلت لصاحب المقهى وهو منشغل بنار موقده،انها مفارقة بين سائل الشاي الذي تفحم بلونه و بين بلورات السكر الابيض التي سطعت ببياضها،انهما لونان متناقضان في مكان واحد! ابتسم الرجل وهو يقلب عيناه اتجاه ناظرية بحكمة وود واحترام وبدا لاْعينهم هادئاً مطمئناً قوياً رائعاً ،قائلاً: ان التناقض يخلق الانسجام! وان في الاسرة الواحدة لايوجد مكان للاسياد او العبيد!ذكرني هذا الرجل الحكيم صاحب مقهانا بحقيقة السكر ومرارته في تطور التاريخ الاقتصادي للعبودية.فالشاي الاسود والسكر الابيض هما حقيقتان في تاريخ الصراع الدامي بين الرجل الابيض والرجل الاسود في العهود الاستعمارية الماضية ومنذ القرن السادس عشر الميلادي ،يوم شهدت الانسانية مآسي محزنة على حافات الاطلسي الافريقية ،قلت في سري ،كلنا مدينون في تناولنا لاقداح الشاي الاسود وهو يغرق ببلورات السكر الابيض اليوم، لاولئك الرجال السود الذين سرقهم البيض من القارة السمراء بما فيهم ذلك الصبي الذي انتزعه البيض من ذراعي امه وهي تصرخ ليلقوا به في سفن صيد البشرالتي حطت بوحشيتها على شواطيْ افريقيا الغربية وهي متجهة الى العالم الجديد من دون رحمة!! فحتى تاريخ يوم تحريم العبودية في بريطانيا في العام 1807ميلادية ،كان عدد الافارقة الذين جرى صيدهم وترحيلهم الى العالم الجديد بحراً قد بلغ 11مليون انسان وان نصفهم قد انتهى في مزارع قصب السكر وان الملايين قد قضوا نحبهم عند محاولتهم الفرار والرجوع الى اذرع والديهم او زوجاتهم في القارة السمراء!يقول المؤرخ والسياسي اللاتيني(وليم إرك):إن العبودية لم تولد من رحم العنصرية ،بل ان العنصرية ولدت من رحم العبودية! لقد توج القرن الثامن عشر نهاية زواج العبودية بالسكر،بعد ان استعمرت اكثر جزر البحر الكاريبي.وان الجانب الاكثر دموية كان ما يسمى بالتجارة المثلثة للسكر. حيث أخذت السفن التجارية للاوربين البيض المحملة بالسكر وهي تجوب سواحل افريقيا الشرقية هذه المرة لمبادلة السكر مقابل العبيد ليزج بهم في مزارع السكر في العالم الجديد ثانية ولاسيما في مناطق الكاريبي والبرازيل وغيرها والتي سميت في التاريخ الاقتصادي(بدورة السكر-العبودية).

تقول الكاتبة والمؤرخة الكندية (اليزيبث أبوت )في كتابها الصادر في العام 2008والموسوم(السكر:مرارة الحلوى) وهي تنقل نصاً لاحد القادة العسكريين واسمه وليم فوكس، ممن ركب البحر،وهو يتناول خطيئة اوربا ليجسد احساسه بالشعور المخجل والمرارة لما جرى للانسانية السوداء باْصطياد الجنس الاسمر من القارة الافريقية واستعبادهم كقوة عمل في مزارع قصب السكر فيما سمي بالعالم الجديد ،منوها فوكس بالقول:إن كل باون (سكر) يجب ان ينظر اليه على انه جاء من اقتطاع اونسين من( لحم البشر)!!ومع تطور الزمن وتصاعد الطلب العالمي على السكر وتحوله من صنف التوابل لندرته في القرون الماضية الى مادة خام غذائية تستهلكه الطبقات المتوسطة و الفقيرة ، تزايد انتاج السكر واستهلاكه عالميا وبشكل لافت، حيث غدا انتاج العالم السنوي من السكر في الوقت الحاضر يزيد على 160 مليون طن متري ،في حين لم يتعدى انتاجه العالمي السنوي في العام 1900سوى 14 مليون طن متري ،وكانت حصة المواطن البريطاني اوالامريكي منه لاتتعدى 21 كيلوغرام سنوياً في مطلع القرن العشرين ارتفعت حصة( المواطن الامريكي) اليوم على سبيل المثال الى 35 كيلو غرام سنوياً او مايعادل 22 ملعقة شاي ممتلئة بالسكريومياً .وتعد البرازيل في طليعة البلدان المنتجة للسكر في العالم ،حيث تستحوذ على انتاج اكثر من 20% من الانتاج العالمي منه وتصدر قرابة 42%من حاجة العالم اليه.وان 72% من السكر ينتج من القصب ولاسيما في المناطق المدارية وشبه المدارية من العالم وان البنجر السكري الذي يوفراكثر من 12% من انتاج العالم للسكر يزرع في المناطق الباردة المطرية.وتعد الهند ثاني اكبر منتج للسكر في العالم وتستحوذ على 14% من انتاجه العالمي ،يليها الاتحاد الاوربي وتايلند وبواقع انتاج بلغت نسبته 11% لكل منهما على التوالي واستراليا بواقع 8% سنوياً.

ختاما،كان العالم ،وحتى نهاية القرن التاسع عشر،ينظر الى السكر نظرة استراتيجية وعلى غرار ما ينظر الى النفط ودوره الآن في السوق العالمية . وان البرازيل التي اضحت المنتج الاول في العالم للسكرهي من يقود العالم في الوقت الحاضرفي تحويل السكر الى وقود اخضر(أثنول) والذي يباع في محطات الوقود في تلك البلاد .وان غالبية محركات السيارات المستخدمة في البرازيل تعمل حالياً بالوقود المزدوج(الاثنول او البانزين) وأذا ما قام الاتحاد الاوربي واميركا برفع التعرفة الكمركية عن (الاثنول) البرازيلي المنتج من قصب السكر، فأن السكر سيعود الى سابق عهده وتصبح اهميته كاهمية الوقود اليوم في اسواق الطاقة شريطة: (اولهما) ان يتبدل لون السكر من الابيض الى الاسودّ!! و(ثانيهما ) ان تعوض افريقيا السوداء التي نكبت بشبابها ،وافرغت من قوة عملها المنتجة في القرون الماضية، تعويضاً عادلاً لها ثمنه قيمة (الاثنول) المنتج من السكرلتنهض في ثروتها البشرية!!!
 


بغداد 17 ايلول 2013

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter