|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأحد  3  / 11 / 2013                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

قلم من ذهب

د. مظهر محمد صالح

لم يرحمني عقلي ويستسلم للنوم وانا اتقلب في مجهول خلاياه التي غدت فاقدة الشكل واللون وأمتدت لوحدها في ظلام بلا نهاية قبل ان تسدل جفنَي وتطبق على نعاسها ، ولم يعترضني في هذا المناخ الداكن الا خيال واحد يذكرني بضنك العيش وضيق الرزق. انه العقل المعتقل الذي صار يسبح في فضاء طاقة داكنة مفعمة بالتوتر والآلام وهو يصارع العبث ليوصله الى منتصف طاولة مكتبي التي ضمت اشياء عن عالم ماهيته الفوضى تناثرت بلا رابط وهي تتحول الى داخل ثقب اسود يبتلع كل شيْ من حوله، ولم يبق لي شيْ ذو قيمة سوى قلم ذهبي جف حبره ، كان مداده من رحيق النحل وان التفكير في استخدامه اليوم لن يجدي نفعا بعد ان عطلت آلته . فحتى الثقب الاسود رفض ابتلاعه .

قلت في سري ، لقد انتحر عقلي معنويا بعد ان غرق في عبث الجوع والعازة ولكن خبز غدي قد تم تطمينه بلا فضل وانه سيكون من ثمن بيع ما تبقى من عدة كتابات امسي الذهبية التي جف رحيقها هي الاخرى .

انه موسم هجرة اسراب النحل لخلايا عقلي ولم يترك النحل لي في مهاجع رأسي الا عواصف هوجاء اخذت تسكن في زوايا ومحاجر النحل نفسها وهي تنضح بمداد فارغ اسمه العبث. احتفلت بليلتي تلك بحزن غامر من دون غفوة. أنها ليلة هجرة ملكة النحل واسرابها لخلايا عقلي وهي خالية من العسل .... وليس امام غفوتي الا ان انتظر الصبح لاستعرض في نفسي نهاية مهرجان فرار النحل لاْوكاره بعد ان احتل اللاشيْ مكانه في حجرات ذاكرتي .

تزامنت هجرة النحل لاوكار رأسي قبيل الصبح تتقدمهم ملكة النحل وانا انتظر زوال وهج النجم الزائف لاْمسك بخيط الشمس الاول وهو يمد عنقه على لمعان قلمي المذهب الذي سيكتب اليوم قصة أخرى عن العوز الانساني مدادها العبث!

عرضت قلمي الذهبي على تاجر الذهب صباحاً ووزن الرجل ما فيه من ذهب استخرج من محفظته بضعة دولارات ثمنأ لقلمي ، وقال لي هل تعلم ان الحصول على خاتم الزفاف الذي يعادل مقداره وزن قلمك يتطلب رفع 250 طن من الاتربة والصخور وتنقيتها لكي يستخلص ذلك المقدار القليل من الذهب الذي يصنع منه خاتم الزفاف . وان هذا المعدن ما زال شديد الندرة . فما هو متوافر من الذهب فوق سطح الارض وجرى استخلاصه من المناجم منذ فجر التاريخ يقدر اليوم بحوالي 200 ألف طن متري من الذهب وان قيمته السوقية هي الاخرى تقدر بحوالي 5 تريليون دولار وتمثل في الوقت نفسه 90% من مقدارالذهب المعروف حالياً في العالم. وان 62 % من مقادير الذهب اعلاه هي تستخدم كمصوغات او مخشلات بما فيها قلم الحبر الذهبي الذي بادلته في سوق الذهب و بحفنه من الدولارات . وتعد الهند من اكثر بلدان الارض شراءً للذهب . فمن بين تسع اونسات ذهب تباع في السوق العالمية ، هناك اونس واحد من الذهب هو من حصة الهند!

كما تقدر حصة البنوك المركزية في العالم من سبائك الذهب الرسمي بحوالي 30 ألف طن متري وهي تمثل جانب من الاحتياطي النقدي لبلدانها. وان الاحتياطي الرسمي الامريكي من الذهب وهو الاعلى في العالم يبلغ اكثر من 8000 طن متري ومن ثم المانيا وهي تمتلك 3400 طن متري والصين بحدود 600 طن متري والعراق 30 طن.

تركت حديثي مع تاجر الذهب وحملت دولاراتي ماراً بسوق الكتب ليقع نظري على كتاب يتحدث عن الاساطير الاغريقية او الميثولوجيا القديمة ولم ادهش عندما وقع نظري على اسطورة اسمها (اللمسة الذهبية) وهي تحكي امنية ذلك الملك الطامع (ميداس) عندما طلب من المارد الجبار في غفوته ان يتحول كل شيْ يلمسه الى ذهب . وفي الصباح تحقق حلمه فذهب فرحاً والاشياء من حوله تنقلب الى حلى ذهبية ولكن اختفت سعادته عندما تحولت ابنته الصغيرة الى تمثال من ذهب وهي في حضنه وتحولت كسرة خبزه وماءه الى ذهب .... ولم ينقذه من محنة غناه القاتل الا السباحة في نهر (باكتوس) ليعود كما كان في ماضي دهره . فاْنهال بعدها على كسرة خبز وهو يمضغها بحرارة ليعود ملكاً سعيداً في مملكة فيها كل شيْ ولكن خالية من الذهب تماماً كما خلا جيبي من قلمه الذهبي. وهنا تعادل الحال بيني وبين (ميداس) في اكل كسرة الخبز بدلاً من الذهب . وقلت في سري ، لقد ابتعت قلمي الذهبي قبل ان تدركني لمسة (ميداس) واستبدلت الذهب بكسرة خبز اشبع فيها بطني بعد ان اشبعت عقلي بعبق الاساطير اليونانية وحكمها التي استخلصت منها لنفسي حكمة واحدة تقول : بالذهب وحده لا تسعد الامم .. فالذهب وعبث العقل هما في برج واحد !!!


25آب 2013

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter