|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأربعاء  29  / 1 / 2014                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الثورة التكنولوجية الثانية.... والعصر الفكتوري!

د. مظهر محمد صالح

عاشت اوروبا بوجه عام وبريطانيا بوجه خاص واحدة من اجمل حقبها التاريخية التي اطلق عليها بالفرنسية وقت ذاك بالحقبة الجميلة (بيلي باك) وهي المدة التي ابتدأت بين العام 1871وحتى تاريخ اندلاع الحرب العالمية الاولى في العام 1914. وتميزت بالتفاؤل والسلم الاهلي وظهور التكنولوجيا والاكتشافات العلمية. وقد اطلق عليها بالثورة الصناعية الثانية ، وذلك لاكتشاف الطاقة الكهربائية فيها وتسخيرها لخدمة الحياة والانتاج بشكل عام. كما شهدت الانسانية تطورات هائلة في تصنيع الفولاذ والمعادن الاخرى لسد متطلبات انتاج وسائل الانتاج. اما الشأن المهم الاخر فيتمثل بأكتشاف النفط الخام وتصنيعه للحصول على مشتقاته من الوقود والمنتجات النفطية وفي مقدمتها وقود البنزين والانواع الاخرى من الوقود ، الذي تكامل انتاجه مع صناعة محركات السيارات وانتاج الطائرات. وبهذا عدت الثورة الصناعية الثانية، بمثابة أمتداد للثورة الصناعية الاولى التي ابتدأت في منتصف العام 1700 . إذ انتقل العالم في ثورته التكنولوجية الثانية من استخدام الماكنة البخارية التي كانت تعمل بالفحم الى انتاج الوقود من المشتقات النفطية، فضلاً عن تقدم تكنولوجيا الاتصالات واستخدام الهاتف ولاسيما في التعاون بين الدول حين مُد يومها الكابل البحري بين اميركا وانكلترا عبر ساحلي الاطلسي. كما تزامن مجيْ الثورة الصناعية او التكنولوجية الثانية و ولادتها في عهد الملكة فكتوريا ، ملكة بريطانيا (1837-1901) وهو العصر الذي اطلق عليه بالعصر الفكتوري ، حيث ساد الرخاء والازدهار والتقدم العلمي والتقني الهائل او كما سمي بالحقبة الجميلة للعصر الفكتوري حسبما اشرنا آنفاً، يوم كانت الملكة فكتوريا تحكم المملكة البريطانية والتي سميت وقتها بالامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وعلى الرغم من ذلك، فقد قادت الثورة الصناعية الثانية بدء مرحلة التغيير في خريطة المصالح والنفوذ في العالم لتواجه الملكة فكتوريا، بالرغم من امتدادات مستعمراتها ومناطق نفوذها ، بدايات افول نفوذ بريطانيا الاستعماري ، ذلك عندما ظهرت القوى التكنولوجية الصاعدة للثورة الصناعية الثانية في آماكن آخرى من العالم ولاسيما في الولايات المتحدة التي اطلق عليها ببلاد العصر الذهبي و المانيا كذلك، ليكونا القوى الصاعدة الجديدة لتقاسم المصالح في العالم على حساب انحسار النفوذ البريطاني . فعلى سبيل المثال، استعجل دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا يومها بشراء اسهم مصر وحصتها في قناة السويس من ملك مصر الخديوي في العام 1875بمبلغ قدره اربعة ملايين دولار اقترضه من مصرف روتشيلد وعين احد اصدقائه من رجال المصارف حاكماً فعلياً على مصر، وهو يكابد في الوقت نفسه من اجل الامساك بممر قناة السويس الاستراتيجي وضمان المصالح التجارية والعسكرية البريطانية. كما ادت مباديْ دزرائيلي دورها ووامتداد تأثيراتها الاستراتيجية في التوجهات الاستعمارية البريطانية حتى بعد رحيله، يوم جرى تقاسم كعكة المصالح بين الدول الاوروبية بشأن منطقة حوض الكونغو الافريقية خلال مؤتمر برلين 1884- 1885، وهو التاريخ الفعلي لبدء افول الامبراطورية البريطانية وإنحسار تفردها الواسع في العالم امام القوى الاستعمارية الجديدة الصاعدة. وهكذا ولدَ العصر الفكتوري والبلاد حبلى بالثورة الصناعية الثانية، حيث توٌجت فكتوريا ملكة على بريطانيا، واعتلت عرش الامبراطورية ، بعد ان مرت خمس سنوات على نهاية عهد ما سميَ بالسلالة (الجورجية) يوم صدر قانون الاصلاح البرلماني في العام 1832 وهو قانون تعديل التمثيل النيابي بفعل تأثير نفوذ حزب الاحرار، الذي سمح بموجبه تمثيل المدن الصناعية الكبرى المحرومة من دخول مجلس النواب او ممارسة الحياة البرلمانية ، وهي المدن التي نشأت إثر الثورة الصناعية الاولى وامتداداتها ، بجعل مجلس النوب اكثر شعبية من خلال تمثيله القوى العمالية في المدن الكبرى وتقليص السماح للقصبات الصغيرة التي كان يمثلها بقايا النبلاء والتي كانت تستحوذ على مقاعد مجلس النواب البريطاني وهي لا تمثل الا نفسها او اعداد سكانية نخبوية محدودة. كما تسلم بنجامين دزرائيلي السياسي المخضرم ومؤسس حزب المحافظين رئاسة وزراء بريطانيا في العام 1868-1880 ، بعد ان استلب لب عقل الملكة فكتوريا ونال اعجابها ولكن ليس قلبها! ذلك في قوة شخصيته وصلابة منطقه السياسي ، حيث دعمت الملكة وآزرت سياساته كلها. وعُرف دزرائيلي بأنه رجل شرقي الاصول تسلق السلطة السياسية عبر إستمالته صالونات المجتمع النسائي وبذكاء مفرط ، يوم تعلم سراً مفاده أن النساء هن اقل عنصرية من الرجال بسبب اصوله الشرقية ! وهي اصول صعبة القبول في المجتمع البريطاني وحياته السياسية. وهكذا وضع ديزرائيلي وصمم بنفسه مرتسم تبدل الحياة الاجتماعية البريطانية يوم اصبح رئيساً للوزراء وتأكيده على دور و نفوذ الطبقة العاملة البريطانية وكذلك قبوله انحسار دور بريطانيا امام القوى الامبريالية الاخرى الصاعدة. كما الف دزرائيلي خمس روايات وعدداً من الكتب الواقعية صارت جميعها ادلة عمل لحزب المحافظين، إذ اقر في واحدة من رواياته الموسومة:(سيبل) او( اُمتان 1845) التي تناول فيها فكرة اتحاد النبلاء الانكليز بالشعب البريطاني ولاسيما (القوى العاملة البريطانية) تلك الجموع الصناعية المنتجة والقوى الاجتماعية المهمة التي ولدتها الثورتان الصناعيتان الاولى و الثانية بالتتابع. فعلى الرغم من ان دزرائيلي كان يحلم (بالارستقراطية الروحية) التي جوهرها الحفاظ على امة من الطبقة الوسطى والحفاظ على المؤسسة الملكية والكنيسة الانكليزية والحياة البرلمانية، الا انه اتخذ عدداً من الاجراءات ذات الميول الاشتراكية التي املتها الثورة الصناعية تجاه نشوء الطبقة العاملة البريطانية كقوى اجتماعية محركة للتاريخ ، والتي منها على سبيل المثال وقوفه الى جانب نقابات العمال في إقرار خفض ساعات العمل وتنظيم اوقات العمال وعطلهم واجازاتهم وغيرها من الحقوق.

ختاماً ، توفيت الملكة فكتوريا في العام 1901 بعد ان تسلمت العرش من العائلة الجورجية في العام 1837 وكانت انكلترا وقت ذاك في اوج انتصار الثورة الصناعية الاولى وولادة الطبقة العاملة الصناعية البريطانية وكذلك كانت البلاد على وشك ولادة الثورة الصناعية الثانية، ليتسلم عرش بريطانيا، بعد رحيلها ، الى العائلة المالكة (الادورية) يوم إعتلى الملك ادوارد السابع ابن الملكة فكتوريا عرش بريطانيا في مطلع القرن العشرين وهو يبتلع بصعوبة بقايا كعكة افول الاستعمار البريطاني و يترقب في الوقت نفسه ولادة الثورة الصناعية القادمة او ما يمكن تسميتها بالثورة التكنولوجية الثالثة في بريطانيا او في مكان ما من العالم.
 

بغداد في 21 تشرين الثاني 2013
 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter