|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس  28  / 11 / 2013                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مزرعة البرتقال

د. مظهر محمد صالح

على مشارف حديقتي الصغيرة، صَمتَ ذلك البستاني الذي جالت اعينه حائرة وتصلبت حواسه التي لفها الابهام في سبات مع الزمن اللحظي ولم تتكفل حالته بالكشف عن فطرته على الرغم من براءتها، وهو يتطلع صباحا الى كاْس من عصير البرتقال، المنتج في مزارع هي ليست من بساتين بلادي، حيث اعتلى الكأس الطاولة وهو ينظر اليه بعين لم تعد ترى الا ما يكدر صفوها، وانتابه اسى مكتوم والماً دفيناً. قلت له ماذا دهاك ايها الرجل؟ اجابني، بعد ان انقلب لونه العادي الى لون يشبه لون البرتقال في صفرته ، لقد هجرت بساتين برتقال رافدينا ثمارها بعد ان جفت مياهها وحزنت تربتها ودفنت نفسها في رمال غريبة وهي عالقة بينها ، فهي ليست من الاحياء وليست من الجماد وانما من صنع ايدينا!!.قلت له كيف عرفت تفاصيل ذلك؟.... اجابني نحن امة تفهم من لون قدحك قبل ان تقرأ ما في داخله!!

ذكرني الامر بشجرة البرتقال الوحيدة التي افتقدتها في حديقتي الصغيرة والتي جف جذعها هي الاخرى وذبلت اوراقها مع فقدان احلام الماضي ..... وانا في حزن لا اريد ان اخسر فيه الحاضر والمستقبل في اناء لم يترع بالماء من بعد! قلت في سري، انه منذ فجر الزراعة وعلى مدار السنوات الاحد عشر الف الاخيرة وحتى أخر مطعم للوجبات السريعة على غرار (ماكدونال) اوغيره، استمرت قصة الغذاء كواحدة من مفارقات العولمة في هذا الفضاء الاقتصادي الكوني المتقلب! واستيقظت ذاكرتي الوسطى في الحال من سباتها، لتخبرني بان شجرة البرتقال قد هاجرت منذ اربعة قرون بساتينها في منطقة غرب حوض المتوسط قبل مشرقه مع الهجرات الاسبانية والبرتغالية ، لتستقرفي نهايات جنوب غرب العالم،بعد ان انتعل اولئك المهاجرون اديم الارض ليزرعوا شجرة البرتقال في ارض اسمها البرازيل. وكانت عواقب اعمالهم هي حصد الخير الوافر. قلت وكيف ؟؟ اجابت في هذه المرة ذاكرتي العليا مستيقظة هي الاخرى، لتخبرني انها قصة الزراعة في عالم متحرك على الدوام.... فعندما ازدهر انتاج البرتقال على سواحل فلوريدا في الولايات المتحدة خلال المئة عام الاخيرة ، كان الشعار الشعبي المرفوع و منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ،يلوح : بإن افطاراً من دون عصير البرتقال يعني نهارا من دون شمس مشرقة! اذ هيمنت وقتها فلوريدا والبرازيل على تجارة عصائر البرتقال في اسواق العالم وبورصة الغذاء الدولية. كما ازدهرت صناعة العصائر منذ ثلاثينات القرن الماضي مع التقدم الصناعي الهائل الذي وفر المواد الصناعية الحافظة ومخازن التبريد لهذا المنتج.

أخذت البرازيل ، مع تسخيرها لذلك العرض الوافر من اراضيها الخصبة والعمل الرخيص ، تقود اليوم بنفسها عجلة انتاج البرتقال وعصائره في اسواق العالم .اذ تنتج هذه البلاد الناطقة بالبرتغالية!! في الوقت الحاضر حوالي 27% من برتقال العالم وهي تهيمن لوحدها على 53% من حصة السوق العالمية لعصائر البرتقال ومركزاته. واللافت ان مزارع مدينة سانت باولو تنفرد لوحدها ، مهيمنةً على انتاج وتجارة البرتقال وعصائره ومركزاته وبنسبة 98% من بين مناطق البرازيل كلها.

فبالرغم من الكساد الذي اصاب اقتصادات العالم واسواقه منذ ايلول عام 2008 والذي دشنته الازمة المالية الدولية، فقد اشرت سوق عصائر البرتقال على خلاف سوق المال العالمية زيادة في اسعاره بلغت 45% ، ما اضاف جواً من السعادة على الرابحين في بورصة الغذاء في العالم، ليسعدوا بافطارهم الصباحي الذي اضحى خاصاً مشرقا و برتقالي المزاج جداً في هذه المرة!!

تقدمت البرازيل بخطى واسعة وهي تستعد لاضافة 90 مليون هكتارمن خارج غاباتها المطرية في الامازون الى اراضيها الزراعية القائمة والتي تقدر بحوالي 60 مليون هكتار، في حين تراجعت فلوريدا وهي تبني متاجر بيع الاغذية العملاقة على اراضي بساتين برتقالها نفسها.

اما بساتين برتقال بلادي التي يمتد عمرها الى اكثر من اربعة آلاف عام ، فهي مازالت تتأرجح تحت قبضة العطش ، في وقت يلتهم التملح والتصحر قرابة 83% من اراضي الرافدين القابلة للزراعة . وعلى غرار فلوريدا! فقد تهالك اهلنا على بساتين برتقالهم ليسكنوا في جذور اشجارها اليابسة ويقيموا مدنهم الجافة عليها وهي مازالت تنتظر من آمالنا ومسراتنا اسمدة لتربتها .... ولكن لم تجد يداً تسقيها اوعينا تبكيها وهي صامدة للملمات و ترى في اليأس قوة!!!
 


7 آب 2013

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter