|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس  25 / 10 / 2013                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الفحم الملتهب

د. مظهر محمد صالح

ارتخت عيناي امام منقل الفحم ، الذي كان الدخان هو الوجود الوحيد الذي علا لهيب النار المشتعلة ، لاْبحث عن صاحب مطعمنا القديم ، مطعم الرصيف ، فوجدته خلف ستار من اللهب مازال يقارع الحياة ويكابد من اجل البقاء، ولم تترك له كهولته الا الشيب ، الذي اشرق عليه وتخطاه بيسر كالشمس والقمر وهو يتقلب على شغف العيش بعد ان احمرت عيناه و التهمته زرقة باهته قلبت اخاديد وجهه وهي تصد حرارة النار عنه عبر زمن شديد العبثية .

قلت له ، وهو منهمك يتفحص بقايا قوته الخفية ، وهو يقلب قطع اللحم على سحابات الدخان ، من اين تحصل ياعم على الفحم ؟ اجابني بأْلم مغلف بالحزن الانساني ، انها من تلك الجذوع المعمرة الهابطة جذورها في ارض احتضنتها بعد ان جرى اقتلاعها ، ولم تشفع لها اظافرها التي انتشبت في عمق الارض ، هاربة الى مجاهيل القاع ، وهي مندفعة تعانق التحدي وتكابد الالم وقت اقتلاعها.
قلت في سري ، انه الصراع مع الطبيعة وان الانفلات في معرفة الضرورات (العلة والنتيجة) يجعلنا ان نستحيل غاباتنا الى ميدان معركة لا تخلف سوى اكوام من الفحم الاسود في لعبة الطمع اسمها القطع الجائر ، وهي من لعب الفناء لمظاهر استقرار الطبيعة بعد ان فقد البشر توازنهم وهم يسعون الى حفنة من المال!

غادرت مطعم الرصيف ، وانا اتذكر تاريخ الثورة الصناعية، يوم كتب الشاعر البريطاني (وليم بليك) قصيدته الشهيرة (ماسح المدخنة) متناولاً ظاهرة تشغيل الاطفال الصغار في انكلترا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ممن هم بعمر الرابعة و الخامسة ، ووصف طريقة استخدامهم كاْدوات عمل رخيصة باْنزالهم في عمق مداخن المعامل ومداخن المنازل لصغر احجامهم وتسخيرهم لتنظيفها من مقذوفات دخان الفحم المحترق وازالة بقاياه المتراكمة من على الجدران الداخلية في اعماق تلك الاعمدة السوداء المظلمة ، وكيف كان يتعرض أولئك الاطفال الصغار الى الموت الداهم والفقدان السريع ، لينتهوا في احضان الملائكة!!.انها قصائد الفحم يوم اصطبغ اولئك الصغار باللون الاسود ليتاح استعبادهم وتحويلهم الى فئة الرقيق البشري الداكن حيث ابتدأت العبودية فجر تاريخها بالميل الى الجنس الاسود!

لم تنته العبودية بشكلها القديم بعد ان تحول البشر اليوم الى اشباه رقيق تقني ، ولم ينته الطلب على الفحم الطبيعي هو الآخر . اذ ما زال الفحم ، الذي يبلغ انتاجه بحوالي 7 مليار طن قصير سنوياً ، و يتم تحصيله حاليا وبنسبة 60% عن طريق حفر المناجم الارضية ، هو المصدر المهم لتوليد الطاقة في العالم والذي يقدر بحوالي 27% من حاجة العالم الى الطاقة. وهو يأتي بعد النفط مباشرة في سد احتياجات سكان الارض الى مصادرها حيث يسد النفط حاليا حوالي 36% من حاجة سكان الارض الى مصادر الطاقة.

واللافت ان الولايات المتحدة الامريكية مازالت تولد طاقتها الكهربائية من استخدامها للفحم الحجري وبنسبة 48% وهي تعادل تحصيلها للكهرباء عن طريق الغاز والطاقة الذرية. وان الفحم يساهم اليوم كذلك بنسبة 83% من توليد الكهرباء في استراليا وتليها الصين وبنسبة 80%. وتقر المنظمة الدولية للطاقة ، بان نمو الطلب السنوي على الفحم في العالم وحتى العام 2015 سيظل بمعدلات عالية تبلغ (اقل من 2% بقليل) وهي تفوق معدلات الطلب السنوي على مختلف مصادر الوقود الاحفوري الاخرى عدا الغاز الطبيعي.

ختاما ، لم تختلف حيرة صاحب مطعمنا الذي يكابد من على رصيف محلتنا وهو يقضي آواخر حياته بين دخان منقلتة الغاضب ، والبديل المفقود لمستقبله ، وبين ما كابده (كيفن رود) رئيس وزراء استراليا قبل سنوات ، الذي مازالت بلاده تتصدر الاولوية منذ العام 1797 في تعدين الفحم وتصديره . فقد اختلط على الاخير الامر، وهو في حيرة بين اقناع المنظمات المدافعة عن حقوق البيئة في بلاده وهي تطالب بوضع قيود على انتاج الفحم المصدر وبين اتحادات المنتجين التي تدفع بها الارباح وفرص البيع الى ما يحقق توسيع المداخن ومضاعفة اعدادها حول العالم.

فالدائرتان ، بين الرجلين ، متداخلتان في حيرتهما ولا تفصل بينهما عبر البحار سوى مساحات خريطة جيولوجية محفورة مغطاة بركام المداخن ومخلفات الدخان.



13أب2013

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter