|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأثنين  23 / 9 / 2013                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 المصلح والفيلسوف

د. مظهر محمد صالح

إنتابني احساس وكأني فارس يركب جواده في الهواء وهو يبحث عن ذلك الكون الذي جسده مبدع الرسم الكاريكاتيري الامريكي الشهير(بل واترسون) في مقولته الشهيرة : أن ثمة إشارة مؤكدة تدل بأن هنالك دنيا شديدة العقلانية توجد في مكان ما بين ظهرانينا ولكن على الرغم من ذلك لا يوجد احد من اولئك العقلاء حاول الاتصال بنا!

سألت في سري من هم اولئك العقلاء واين يسكنون في هذا العالم الفسيح ؟ اجابني واترسون من بين رسوماته المعبرة ، انهم سكان جزيرة (انوتا) التي تقع في جنوب المحيط الهادي والتي لا يتعدى قطرها 750متراً، واذا كنت تبحث عنها على خريطة الكرة الارضية ستجدها على بعد 400 كيلومتر جنوب شرق جزر سليمان في حوض الهادي . وهي ابعد نقطة جغرافية على سطح الارض . والمدهش في الامر، ان جزيرة (انوتا) قد قطنها السكان منذ ثلاثة آلاف عام بشكل دائم ، ولكن ظل عدد سكانها ثابت منذ مئات السنين ولا يتعدى 300 إنسان.

هناك رئيسان يحكمان الجزيرة وعلى وفق مبدأ يسمى (أروفا) اي (الحب) والذي ينص على العيش المشترك (الخير الاكبر للعدد الاكبر) فالمحاصيل والصيد البحري التي يولدهما النشاط اليومي لسكان الجزيرة يوزع على الجميع بعيداً عن التبادل النقدي الذي إختفى في هذه الجزيرة إطلاقاً ، و لم يهاجرها أحد من اهلها الى جزر أخرى ، وان من يحاول العيش خارج النظام المشترك لابد من ان تسحقه الحياة الفردية وهي حكمة قالها احد كبار السن في هذه الجزيرة منذ عهد بعيد ويتمسك بقدسيتها الجميع الى يومهم هذا !

انها انموذجاً فريداً يجسد الضمير الجماعي المشترك الذي يتطلع اليه الرابحون وفي اي نظام تنافسي حر يسعد فيه الجميع وخالي من الفقر والاحتكار .

استيقظت على صوت يهمس في أذني ويقول :
لا تبالغوا في توطيد الحب (اروفا) في هذا العالم الساخن وان جزيرة(انوتا) هي مجرد ملاذ للحكمة البشرية !

قلت :
هل التطلع الى المطلق في الفطرة البشرية هو هروب الى اللاشيْ ؟

اجابني (بل واترسون) هذه المرة في كتاباته قائلا :
انك لابد ان تبحث قبلها عن صراع الاضداد ، فانظر الى رسومي الكاريكاترية في النقد الاجتماعي والتي ابتدأتها برسومي التي اطلقت عليها (كالفن وهوبس) وهل تعلم ماذا تعني في مضمونها ؟

قلت في نفسي :
كلا.

اجابني :
انه جمع الاضداد ! فاعني بالاسم الاول المصلح البروتستانتي الفرنسي الاصل (جون كالفن) مؤسس المذهب الكالفني في القرن السادس عشر الميلادي وهو من اتباع المدرسة اللوثرية (مارتن لوثر) التي تؤمن بالقضاء والقدر وتعتمد فكرة النداء . فلكل انسان نداء طيب في الارض يحصل على ما يماثله في السماء.اما الاسم الاخر وهو (هوبس) ، فقد اردف (بل واترسون) منوهاً :
انه يشير الى الفيلسوف الاجتماعي البريطاني (توماس هوبس) صاحب النظرية الداكنة للطبيعة البشرية في القرن السابع عشر ، عاداً البشر مادة وحركة تنفذ القوانين المادية نفسها . وامام الحالة الاصلية للحياة بكونها منعزلة وفقيرة وهمجية وحقيرة وقصيرة ، فقد دعى الى نظريته في الفلسفة السياسية التي تقوم على العقد الاجتماعي.

وهكذا بدأ (بل واترسون) يخط رسوماته الكاريكاترية في كبريات الصحف الامريكية وهو يؤمن بانه يوجد بطل كامن في كل فرد ولكن يتطلع الى العيش المشترك وهو يرسم بصراحة، منتقداً المجتمع السياسي بصورة مثيرة للسخرية ولكنها توافق الرؤية العقلانية والصدق الفطري المحيط بنا.

اعتزمت ان افك سلاسل افكاري ثانية وانا اتطلع بنظرة ذات نواة صلبة الى لغز صياد الكاركاتير السياسي الامريكي (بل واترسون) في واحدة من رسومه و تخطيطاته الشهيرة ب(كالفن وهوبس) المنوه عنها آنفاً و التي كانت تضمر في محطاتها وانتقالاتها نظرة قوية ودهاء خفي من الحوار بين بائع العصير (قوى العرض) ومشتري العصير( قوى الطلب) والتي جاءت تحت عنوان الرأسمالية.

وانا اتفحص العمق والمعنى من ذلك الرسم التخطيطي الذي بدا صارخ الغرابة وقلت في سري عندما انتهيت منه :
كل قلم يتناول حال الرأسمالية كما يراها نقادها! وكنت اتلقى في الوقت نفسه احساساً هابطاً تلقائياً من ذلك الرسم الكاريكاتيري في الاقتصاد السياسي للرأسمالية والذي انتهى بي حقاً الى تجسيد الكيفية التي ينغمس فيها بعض المديرين في تعظيم المنافع والامتيازات الشخصية في المشروع الرأسمالي على حساب تدنية ارباح اصحاب حقوق الملكية والمساهمين الاخرين ، ومن ثم لجوء المشروع بعد خسارته وتآكل ثروته الصافية الى طلب رافعة مالية مؤازرة قوامها الدعم والاعانة الحكومية!

وازاء اشنع تهمة في عصرنا الراهن وهي تهمة المساس في تسيير النظام الاداري الرأسمالي الحديث التي جسدها (بل واترسون) في رسوماته التي بنيت على اساس انفصال الادارة عن الملكية في المشروع الرأسمالي ، فقد ختم (بل واترسون) سلسلة رسومه الكاريكاترية التي بدأها في العام 1985وانتهى مغادراً فيها مسلسل (كالفن وهوبس) في العام 1995 ، ذلك بعيد تصويره كاركاتيره الناقد أنفاً حول إختلال الشروط الموضوعية الناجمة عن ذلك الانفصال بين الادارة والملكية الرأسمالية والذي يطلق عليها اليوم في علم الاقتصاد الاداري (بالحوكمة السيئة) .


بغداد 14 ايلول 2013

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter