|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس  16  / 1 / 2014                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

اليد الخفية...!

د. مظهر محمد صالح

لم يغفل فيلسوف القرن الثامن عشرآدم سمث، في كتابه الشهير ثروة الامم عام 1776،عبارة اليد الخفية the invisible hand للسوق ،والتي كررها ثلاث مرات، وعدها في الوقت نفسه الدليل الذي يرشد المنتجين والمستهلكين لاْتخاذ القرارات الاقتصادية الصحيحة.

لذا ينطلق آدم سمث في نظريته حول السوق من حقيقة مفادها : لو تركت الاسواق حرة لتصرفات اصحابها انفسهم ، فأنها ستجد الطريق الاكثر كفاءة في بلوغ غاياتها. فاليد الخفية كما يصفها سمث،هي نتاج القرارات الاقتصادية والتصرفات العقلانية لملايين المنتجين والمستهلكين الذين يسعون الى تعظيم منافعهم وارباحهم . وان اليد المذكورة التي يُعتقد انها توجه السوق نحو الطريق الاكثر منطقياً ستضمن توازن جميع القوى الاقتصادية الفاعلة فيها. وعلى هذا الاساس فأن اليد الخفية هي مختصر لقانوني العرض والطلب في علم الاقتصاد ، وتفسر في الوقت نفسه كيف ان دفع وسحب هذين العاملين (العرض والطلب) يخدم منفعة المجتمع بأكمله وعلى وفق التصور العقلاني الاتي : ان ممارسة الافراد لمصالحهم الذاتية هو امرٌ ليس معيب في اخلاقيات التعامل.

ففي السوق الحر، عدت مساهمة كل فرد في مواصلة مصالحه الشخصية هي مساهمة مجتمعية، وانها تصب في نهاية المطاف في مصلحة المجتمع ككل. وان توازن المصالح بين الافراد يؤدي الى غنى كل فرد في ذلك المجتمع . وبهذا تؤدي المصالح الذاتية المجتمعة للافراد كافة وعن طريق اليد الخفية الى توازن المصالح الكلية للمجتمع . كما ينظر الى ذلك التوازن الكلي في السوق بكونه (سلعة عامة) تصب في مصلحة مستخدميها وهي متاحة لهم دوماً او بشكل مستمر دون ان يتسبب استخدامها حصول نقص في كميتها وهي على خلاف مفهوم (السلعة الخاصة).

فعندما اخترع توماس إديسن (1847-1930) المصباح الكهربائي على سبيل المثال وهو الرجل الذي اضاء العالم، كانت فكرته جديدة و كفوءة من حيث مدة انارة مصباحه والقدرة على توفير الاضاءة مقارنة بالوسائل الاخرى المتاحة ، فان توماس إديسن قد حقق مصلحته الذاتية أملاً ان يحظى بالمال و الشهرة. ويلحظ ان نتائج اختراعه ادت الى منفعة المجتمع بأسره . حيث اقيمت المصانع لتصنيع المصابيح واستخدم مئات او آلاف العمال في تلك المصانع لهذا الغرض ، فضلاً عن تحسن حياة الناس وتمتعهم بأضاءة في صالونات جلوسهم ومكانات اعمالهم وغير ذلك . ولو لم تكن اليد الخفية فاعلة في هذا الشأن ولو لم يوجد طلب حقيقي على المصابيح على سبيل المثال ، لكانت اليد الخفية قد وضعت توماس إديسن في زوايا النسيان لغلطته الشنيعة التي ارتكبها !! ولكن يبقى التساؤل قائم في النظام الراسمالي : اذا كانت المصلحة الذاتية للفرد تحقق الكفاءة و التوازن في السوق عن طريق اليد الخفية هنا .. فماذا يصنع الجشع الذاتي في الاقتصاد وعن طريق اليد الخفية ايضاً؟ وعلى الرغم من ذلك لم نجد اجابة على هذا التساؤل هي ابلغ مما اجابنا به المخرج السينمائي الامريكي البارع أوليفر ستون في العام 1987 في فيلم (وال ستريت) الذي تناول فيه دور شارع المؤسسات المالية العملاقة في نيويورك في حركة الاقتصاد الامريكي من خلال النماذج الفاسدة التي حوّلت الحلم الامريكي في تحقيق المصلحة الذاتية وبلوغ التوازن والنمو عبر اليد الخفية الى ما يسمى بالجشع الذاتي ! إذ يعلن بطل الفيلم وهو شخصية افتراضية من شخصيات المضاربة والاحتيال في البورصة الامريكية والتي أخذت اسم جوردن جيكو Gordon Gekko معتمداً فلسفة مفادها (ان الجشع امرُ طيب!). والواقع ان معتقدات جيكو تحولت الى طبيعة غالبة متوحشة خلال عقد كامل من الزمن مثلته مختلف التجاوزات في القطاع المالي الامريكي والتي انتهت في آواخر ثمانينيات القرن العشرين بأزمة سوق السندات الامريكية وازمة القروض والمدخرات وانتهت بحبس جيكو لمدة عقدين من الزمن بعد ان جمع ثروات طائلة من الاحتيال على الناس . وبعد مرور جيل كامل يروى الجزء الثاني من فلم (وال ستريت 2 : المال لا ينام) في العام 2010 الذي اخرجه اوليفر ستون نفسه و مثله ايضاً الممثل الشهير مايكل دوغلاس بشخصية جوردن جيكو ليعود ثانية بشعار (الجشع امر طيب) ذلك قبل ان تأخذ ازمة الرهن العقاري الثانوي دورها في تفجر الازمة المالية العالمية 2008 يوم كان قطاع الاعمال المالية في وال ستريت ينعم بالرخاء. ولكن اليد الخفية تعاملت هنا مع عقيدة الجشع الذاتي ضد عقيدة المصلحة الذاتية وعلى فق مباديْ جيكو الفاسدة نفسها لتقود العالم الى هاوية الازمة المالية وضرب عناصر الاستقرار والتوازن في النظام المالي الدولي.

ختاماً، اقتضت متطلبات الفيلم الجديد (وال ستريت 2) الذي جرى عرضه في صالات السينما في ايلول من العام 2010 ان يتدرب الممثل المعروف (شيا ليوف) في سوق المال الامريكي على اعمال التعاطي والمضاربة وحركة تداول الموجودات المالية ، الا انه قام من فوره بممارسة البيع والشراء الفعلي ولمصلحته ، الامر الذي جعله يربح نصف مليون دولارحقاً قبل بدء التمثيل في الفلم آنفاً. ولكن لا ندري هل مارس شيا ليوف معتقد المصلحة الذاتية ام معتقد الجشع الذاتي في تحقيق ربحه ؟ الجواب متروك الى اليد الخفية....!!!!
 

16كانون اول2013
 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter