|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة  11 / 10 / 2013                                د. مظهر محمد صالح                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

اللامساواة!

د. مظهر محمد صالح

عندما إستطرد الاديب و رسام الكاركاتير الامريكي الشهير (فرنسيس سكوت فيتزجيرالد) صاحب رواية (غاتسبي العظيم) معلناً صيحته المدوية : أن الاغنياء هم اناس يختلفون عنا! اجابه بهدوء الاديب والروائي الامريكي (آرنست همنغواي) صاحب رواية (الشيخ والبحر) قبل ان يغلبه الموت : نعم....لكونهم يمتلكون الكثير من المال!

هكذا غادرنا القرن العشرين بصخبه، وترك لنا العيش بأقل من دولار واحد في اليوم ، وهو المقياس الاكثر قبولا لتاْشير الفقر في العالم . و ظل اكثر من مليار من البشر، اغلبهم من البلدان الفقيرة ، يعيش على دخل يومي منخفض لا يتعدى ذلك الدولار للفرد الواحد .

اجتمع زعماء وقادة العالم في العام 2000 في نيويورك ليضعوا لنا خريطة الطريق للتصدي الى الفقر ضمن الاهداف الاجتماعية والاقتصادية للالفية الثالثة ، وجاء بعدها تأريخ (7-7-2007) (ليمثل نقطة منتصف الطريق نحو بلوغ عام الهدف 2015) لكن لوحظ ان معظم الاهداف المطلوبة التحقيق في ازالة الفقر مازالت هي نفسها وعلى سابق عهدها ! فعلى الرغم من هبوط عدد أولئك من يعيش على دولار واحد في اليوم الى النصف في دول العالم كافة بأستثناء بنغلادش والباكستان ، الا ان اهداف أخرى ظلت صعبة المنال . مثال ذلك، لم تسجل وفيات النساء اثناء الولادة او حتى حالة تحسين سبل الحصول على مياه الشرب النظيفة او تقليل عدد وفيات الاطفال ، لم تسجل جميعها تقدماً ملحوظاً عن سنة الاساس  2000 ، وان معظم ذلك التعثر في التصدي للفقر يعود الى ضعف التزام الدول بتعهداتها ازاء اهداف الالفية الثالثة ، إضافة الى تدني التزام حكومات البلدان المتقدمة في تقديم يد العون الى العالم الفقير.

ففي مجتمع يتألف من ثلاثة مجاميع متجانسة ، فاْن من السهولة بمكان ان تقسم الدخل بين ملاك الارض والفلاحين وبين الرأسماليين والعمال و اصحاب الملكيات العقارية ومن سواهم . لكن السؤال الجوهري الذي يصرخ في الوجه هو : كم يحصل او يستحوذ كل فريق على حصته من ذلك الدخل ؟ او بعبارة أخرى : ما هو توزيع الدخل ؟ ربما يكون الجواب مقنعاً بأن 65% من الدخل يذهب الى الاجور و35% منه يذهب الى الارباح ! ولكن القضايا هي ليست بهذه البساطة وانه ينبغي ان تشخص حالة اللامساوة بين الناس من خلال درجة عمق هاوية الفقر عند اْولئك الذين لا يملكون ودرجة ارتفاع الرفاهية وصعودها عند اولئك ممن يملكون!!

ان فجوة الدخل في العالم هي ليست فجوة في معدلات الاجر فحسب وإنما هي فجوة هائلة في نوعية الحياة بين الفقراء والاغنياء. إذ ما زالت ثلث نساء الهند لا يعرفن القراءة وما زال انقطاع الكهرباء في نايجيريا وكينيا يتسبب في تدهور معيشة الفقراء ، وان حالات انقطاع الكهرباء عن صالات العمليات هي ظاهرة يومية في تلك البلدان . وان هناك اكثر من 100 مليون طفل حول العالم لا يعلمون ما يجري داخل ابنية المدارس ! وان اربعة بالمئة من الافارقة يستخدمون الانترنيت بحلول الالفية الثالثة ! وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها المنظمات الدولية والحكومات لتقليل فجوة الدخل بين البلدان الغنية والفقيرة ، فأن تلك الفجوة ما زالت واسعة ، اذ تستحوذ الولايات المتحدة والاتحاد الاوربي واليابان حتى اللحظة ولوحدهم ما يزيد على 60% من الناتج السنوي العالمي ويرتفع الى اكثر من 80%عند مجموعة دول العشرين!

ان اكثر المقايس شيوعاً في قياس حالة المساوة او اللامساواة بين الدخول في البلد الواحد هو ما يسمى ب (معامل جني) وهو من المقاييس الاحصائية المتعلقة بمعرفة درجة عدالة توزيع الدخل او الثروة والتي ابتدعها عالم الاحصاء الايطالي كورودو جني.

فبين القيمة (صفر بالمئة) او (الصفر) التي تؤشر المساواة المطلقة في توزيع الدخل و بالتساوي بين سكان البلاد اوعائلاتها ، وهي حالة شديدة الطوباوية او الخيال ... وبين القيمة (المئة بالمئة) او (الواحد صحيح) وهي الحالة التي تنعدم فيها المساواة على الاطلاق (اي ان ثمة عائلة واحدة قد تستأثر بالدخل الوطني للبلاد كله)! وجد، عند تطبيق مقياس معامل جني على البلدان العالم في مطلع الالفية الثالثة، ان الدانيمارك هي من اكثر بلدان العالم عدالة في توزيع الدخل من خلال استخدام الضريبة لاعادة توزيع الدخل فيها وهي تحظى (بمعامل جني) يساوي 25%. في حين عدت ناميبيا من اكثر بلدان العالم سوءاً على مستوى توزيع الدخل وتركزه غير العادل بين سكان البلاد ،اذا بلغ (معامل جني) حوالي 70%.

ومن روح الحوار بين الاديبين الاميركيين الراحلين (فيتزجيرالد وهمنغوي) المنوه عنهما آنفاً ، ظلت الولايات المتحدة تتمتع (بمعامل جني) مرتفع طوال القرن العشرين .إذ بلغ ذلك المعامل نسبة 45% عند نهاية ذلك القرن ، مؤكداً استمرار  حالة التفاوت في توزيع الدخول والثروات في هذه البلاد الغنية وميلانها لمصلحة الاغنياء. وخير تجسيد لذلك التفاوت الطبقي هي رواية (فرنسيس سكوت فيتزجيرالد الموسومة : غاتسبي العظيم) التي مثلت في فلم سينمائي، جرى عرضه في مهرجان (كان) للسينما في العام 2013 ، والذي يروي حالة التناقض بين الشخصية الغامضة للمليونير (غاي غاتسبي) وجاره (نك) الشاب الطموح البسيط الفقير الذي نشأ وترعرع في الغرب الامريكي ثم اصطدم بحياة الرفاهية والفخامة التي يعيشها (غاتسبي) بعد ان انتقل الى نيويورك للبحث عن العمل هناك. و يحكي الفلم لقاء الغني والفقير في صخب عشرينيات القرن العشرين.

ختاماً : كان صخب عشرينيات القرن الماضي وضياعاته هو نقطة التحول التي لم يخف الاديب الراحل (فرانس سكوت فيتزجيرالد) خيبة أمله فيها ، عدا هو نفسه من جيل العشرينات الضائع . وهو نفسه من اطلق على عصره بعصر الجاز .... عصر اللامساواة!!
 


بغداد 20 ايلول 2013

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter