|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  29 / 7 / 2014                                محمد كمال                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



الاستبداد سَيِّدٌ في نفوسنا

محمد كمال
(موقع الناس)

ليست هناك من كلمة متداولة بإفراط متناقض أكثر من كلمة «إستبداد», وحتى أن المستبد نفسه، وهو يتربع على عرش سلطة الاستبداد، يستنكر الكلمة ويحسب أن ما فيه من استبداد ليس استبداداً إنْ هو إلّا ملكة شخصية حباه الله بها وميزه الخالق بهذه الملكة على بقية الخلق والعباد؛ وأن هذه الملكة تمييز واصطفاء وما هي برذيلة الاستبداد. فليس للاستبداد مكان في كل النفوس ودون استثناء. وهذا الرفض للاستبداد ومن المستبد نفسه لا يعني أننا بخير وأن الاستبداد قد محوناه من الواقع المعاش بمجرد الرفض اللفظي وحتى الذهني المخادع للذات والمُجَمِّلِ لها.

إن جهلنا أو تجاهلنا عن جرثومة الاستبداد التي تنخر نفوس معظمنا، يجعلنا نختزل الاستبداد في شخص السلطة العليا على هرم المؤسسة أو الدولة، ولا تستقرئ أذهانُنا نفوسَنا لتكشف عن مكمن الجرثومة فينا. فكلنا في الاستبداد فخرٌ وللغير هَمٌّ، ونبت الاستبداد فينا مازال يتغنى طرباً وافتخاراً بأبيات من معلقة عمرو بن كلثوم التي مضى عليها أكثر من ألف وأربعمائة عام وهذه الأبيات تتباهى صارخة:

ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا
فَنَجْهَلَ فوقَ جَهْلِ الجاهلينا
لنا الدنيا وما أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
بغاةٌ ظالمينَ وما ظُلمنا
ولكنّا سنبدأُ ظالمينا

هذا الذي فينا من استبداد تقره معاني الاستبداد ودروب سلوكه فينا. ففي عموم المعنى الذي يمس حياتنا فإن الاستبداد هو الاستفراد بالرأي والحق واستكثارهما على الغير من قريب وبعيد؛ فكل رأي غير رأيي فهو مرفوض، وزبدة المال والثروة حق لي وحدي دون غيري، والسلطة سلطتي إلهية أتتني ولا يحق أن يتبوبها غيري؛ ديني هو الدين الحق وغير الأديان كفر، ومذهبي هو الدال على الصراط المستقيم وكل المذاهب الأخرى تحت سقف ديني هي مذاهب ضلالة وانحراف عن جادة الدين.

أنا بديني ومذهبي الفئة الناجية والغير في نار جهنم خالدين فيها؛ وهذا الرفض المحوري الفاصل بين الأنا وغير الأنا يمتد إلى غرف بيوت الأسر والعائلات عندنا؛ فكم الرجل الزوج مستبد بالأنثى زوجته، فهو الذكر راجح العقل وهي الأنثى ناقصة العقل، فإذا ما تحدث الزوج فعلى الزوجة الإصغاء والالتزام برأي الزوج، كان ما كان ذاك الرأي، وعلى هذه الزوجة أن تأتمر بأوامره وعليها الرضوخ لمطالبه وسلوكه، كانت ما كانت تلك المطالب والمسالك؛ ليس للزوجة حق غير ذاك الذي يرتضيه الزوج لها، فهذه الزوجة تتموضع في دائرة الغير أمام جبروت الأنا البعل الذكور الأعلى في القول والرأي والحقوق.

أليس هذا استبداد ظالم ماحق بحق شريكة الحياة ورحم النسل ومربية الأجيال ومدبرة البيت وحامية الأسرة ؛ أليس هذا رفض مستبد لمكانتها العظيمة ودورها الحيوي وحقوقها الطبيعية؟

هذه الذكورية المتعالية الرافضة للحقوق الطبيعية للمرأة في المجتمع ولدورها الحيوي في الأسرة ولقدراتها الفكرية في الحياة تمتد بدرجات متفاوتة للمساس بالأبناء على مسالك التربية والرعاية التي يرتئيها الأب للأبناء؛ فكم من ابن حُرِمَ من حق متابعة التعليم أو حتى التعليم في بداياته بسبب تعنت الأب، وحتى اختيار الزوجة للابن والزوج للابنة هناك من الآباء، وهم كثر، من يتعسف مستبداً برأيه وخياره ضارباً عرض الحائط خيار الأبناء في شراكة حياتهم.

معظم مظاهر التعامل بيننا وبين أبناء جنسنا تفوح منها روائح الاستبداد، من البيت مروراً بالمجتمع إلى مواقع العمل. إن أكثر الجوانب حساسية بين الإنسان وأخيه الإنسان وخاصة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية هو موقع العقيدة في هذا الإنسان؛ فمن منا وكم فينا من يتعاطى مع عقائد الآخرين ومذاهبهم وقناعاتهم بالقبول والتعايش (السلمي) بفكر هادئ وصدر رحب بعيداً عن همهمة التوجس وقعقعة التصادم المبنية على العاطفة المنغلقة على ذاتها والرافضة لعقائد وخيارات الاخرين في مجتمعاتنا؟

تستذكرني هذه النزعة الرافضة – المستبدة – ضد الاخرين رواية واقعية لطالبات من البحرين في إحدى جامعات مصر في السبعينيات من القرن الماضي، حيث ان ثلة منهن – طبعاً مسلمات من سنة وشيعة – كُنًّ على صداقة قوية ذات حميمية عالية مع طالبة قبطية، وكانت هذه الطالبة لطيفة المعشر مؤدبة راقية في تعاطيها وتعاملها مع الجميع وكان من الطبيعي أن تنجذب إليها جميع الطالبات في الحرم الجامعي؛ وكانت هذه الفتاة القبطية موضع احترام الجميع، وذات يوم أرادت إحدى طالباتنا المسلمات أن تعبر لهذه الفتاة القبطية عن حبها وتقديرها لها، فما كان منها و من مكامن الثقة الاستبدادية الرافضة فيها أن أطلقت العنان لكلمات ذميمة جارحة تقول فيها وبصريح العبارة : «كم أنت يا عزيزتي طيبة ومحترمة وراقية كأنك مسلمة ولست مسيحية، وليتك كنت مسلمة مثلنا».

كم هو ذميم وبذيء هذا الحب والتقدير الذي يرفض الاخر في عقيدته ويستنكر رقي المناقب فيه، هذا السلوك الراقي الذي تأبى نفوسنا أن تراه في غير عقيدتنا وفي مَنْ هو مِنْ غير صبغتنا.

إن أحط أشكال الاستبداد بعد الظلم والقهر هو رفض الإنسان لأخيه الإنسان على هوى الهويات من دين ومذهب وعرق وجنس وحتى جغرافيا... إن رفض الاخر يفتح باباً واسعاً مُبَرَّراً للظلم والقهر ... إن رفض الإنسان لأخيه الإنسان هو اغتيال للروح الإنسانية في جوهر النفس البشرية واغتصاب للضمير.

عندما نكون كلنا، سنة وشيعة وأباضية وزيدية ...الخ، كتلة مشتعلة حارقة من الرفض للاخر، ألسنا كلنا روافض في قاموس الإنسانية الرافض للرافضية؟

وهذه الرافضية منا هي نبع الاستبداد فينا!!!

 

الأيام - العدد 9241 الثلاثاء 29 يوليو 2014

 



 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter