|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  12 / 11 / 2014                                محمد كمال                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



الجنوب اليمني وعودة الوعي

محمد كمال
(موقع الناس)

لقد أصبح العالم العربي من أقصى شرقه الى أقصى غربه، بفعل الحراك والعراك وتغيير الحكام واشتعال الحروب الداخلية، بقعة استقطاب الاعلام العالمي والعربي والإقليمي، وهذه البقعة التي تلامس قارات العالم القديم كلها تتشكل من فسيفساءات إقليمية تتفاعل فيما بينها كفعل المغناطيس حيث أقطاب تتجاذب وأقطاب تتنافر، إلّا زاوية برمائية استراتيجية في الجنوب الغربي من الجزيرة العربية، ورغم الحراك السلمي النشط فيها والذي يواجه بعنف القتل والتدمير من قبل السلطة الرسمية ورغم عشرات الألوف من المواطنين الذين خرجوا في آخر تظاهرة سلمية لهم يوم الجمعة الموافق 31 أكتوبر 2014 والمواجهة الشرسة من قبل السلطة المركزية، إلّا أن ذاك الاعلام العالمي وهذا الاعلام العربي والإقليمي لم يحرك قلماً على أسطح قراطيسه لينقل للعالم عمّا يجري من حراك شرعي في الجنوب اليمني والذي يستسيغ آخرون أن يُسموها الجنوب العربي.

وكان شعاره في هذه التظاهرة «شعب الجنوب ينشد دولة مدنية» و«ثورة نحو التحرير والاستقلال»، وهذا الشعب المتمرس بروح النضال وبالنزعة المدنية وتخطيه بمراحل متقدمة على القبلية يريد أن يعيد موقع دولته الى نصابها المدني بالانفصال عن الشمال الذي تغلب عليه النمط والنزعة القبلية، فصيغة العلاقة بين الشمال القبلي والجنوب المدني ليست علاقة اندماج كيانين منسجمين متناغمين في وحدة مصيرية مشتركة، ولكنها علاقة احتلال شبيه بالاستعمار والاستغلال، حيث ان الشمال القبلي يحتل الجنوب المدني وينهب ثرواته ويهمل مناطقه ويعزل شعبه عن المناصب الرسمية والإدارية. هذا الشعب الجنوبي قبل خطيئة الوحدة كان رائداً ومتقدماً في مجالات التعليم والصحة والبنية الاساسية بدرجات متفوقة على الشمال القبلي.

تاريخ هذا الحراك يعود الى اللحظة التي أعلنت فيها سلطة الشمال الحرب على كيان الجنوب في 27 ابريل 1994، والذي مثل البيان الرسمي للانفصال بين الشمال والجنوب منهياً بذلك صيغة الوحدة التي تم التوقيع عليها في 22 مايو 1990.

كانت الحرب الغادرة الغدارة شرسة في دمويتها ودموية في شراستها، ولم تتردد السلطة في الشمال القبلي في استخدام اكثر الأسلحة فتكاً ودماراً من مخزون اسلحتها واكثر الأساليب شراسة ووحشية مما تختزنه من بربرية القبلية ضد رقي المدنية. وكان الثمن عالياً ومؤلماً ومحرجاً لاستيعاب الخطئ في دمج المدنية مع القبلية وكانت حينها لحظة عودة الوعي الى أبناء الجنوب، عودة الوعي الى المدينية بكل مدنيتها في فرز سليم وصحيح عن القبلية بكل صنوف قبيليتها.

وبهذه التجربة الفريدة من نوعها في تاريخ اندماج الشعوب ووحدتها، أعطت هذه التجربة درسها الانساني بأن الوحدة او الدمج بين المدنية والقبلية هي إغتيال للمدنية، ولا يمكن في مسار وإطار هكذا وحدة أن ترتقي فيها القبلية الى مراتب المدنية وخاصة إذا كانت قيادة الوحدة في يد السلطة القبلية. ونسترسل من هذا الاستنباط الى المدى الذي يمكن فيه أن تكون قيادة الوحدة في يد السلطة المدنية، ونستقرؤ من هذا الوضع الإيجابي في صورته أن تواجه السلطة المدنية سطوة الانغلاق القبلي في تحالفات قبلية لا تسمح للسلطة المدنية أن تتنفس، فالدرس من هذه التجربة يؤكد عدم جدوى وحتى عدم إنسانية الدمج بين كيان قبلي رجعي متأخر مع كيان مدني حضاري متقدم.

إن القوى العالمية والدول الإقليمية وخاصة العربية، في إطار الجامعة العربية، أمام مسؤولية إنسانية اكثر منها سياسية للنظر الى واقع الشعب في الجنوب اليمني وتفهم الواقع الوحدوي المأساوي والشاذ الذي يعيشه وضرورة دعم مسعى حراك هذا الشعب التواق للعودة الى عالمه المدني وتحرره من قبضة السلطة القبلية، خاصة وأن هذه السلطة القبلية تعيش الآن حالة تتقارب من شبه حرب أهلية، ليس للجنوب فيه ناقة ولا جمل.

إن استقلال الجنوب عن الشمال يساهم في استقرار حركة الملاحة الدولية في ممر مائي حيوي يربط المحيط الهندي بالبحر المتوسط ومنه الى المحيط الأطلسي عبر مضيقين حيويين واستراتيجيين هما قناة السويس ومضيق باب المندب على مرفئ مدينة عدن الجنوبية. قناة السويس الآن تحت سلطة وطنية مستقلة لا خوف عليها رغم الشغب الذي تثيره فصائل ارهابية في مناطق من سيناء بعيدة عن قناة السويس، ولكن السلطة المصرية أثبتت أنها قادرة على احتواء تلك الفصائل بغية القضاء على منابع ولادتها وحياتها. المضيق الجنوبي عند باب المندب على كف عفريت وليس من الواضح، على مرمى الايام والأشهر القادمة، الى أية قوة، وطنية او إقليمية، سيؤول هذا المضيق إليها. إن هذا المضيق يسبح على ظهر غيب انتظاراً لسلطة -شرعية- تنتشله من قبضة الاحتلال الى يد سلطة وطنية جنوبية خالصة تستقر معها سلامة وأمن حركة الملاحة الدولية بعيداً عن تجاذبات بؤر النفوذ الإقليمية والعالمية.

إن قيادة الحراك الجنوبي الآن أمام جبهتين، جبهة النضال الداخلي بكل خلفياتها وتبعاتها وآمالها، وجبهة التفاهمات الإقليمية والدولية بكل تعرجاتها ومحاذيرها.

النضال الداخلي متواصل ومعظم الشعب يقف بقوة وراء مشروع الحراك الجنوبي وفي هذه المرحلة الحرجة فإن ثبات الموقف وتعميقه ضروري من أجل تحقيق مشروع الاستقلال، وضرورة الابتعاد عن المشاريع الجانبية خاصة وأن قوى إسلامية وجدت لها موطئ قدم في الحراك الجنوبي في عموميته بجانب القوى القومية والماركسية التي كانت تقود جمهورية اليمن الديمقراطية في زمان استقلاليتها وبرامجها الحضارية التقدمية.

على جبهة التفاهمات الإقليمية، فإنَّ هذا الجنوب اليمني يمثل نقطة استقطاب، إقليمي ودولي، تفرضها شروط جغرافية الممرات المائية الدولية. فعدن والسويس في هذا السياق يكمل بعضهما الآخر وشريط البحر الأحمر هو شريان الاستقرار لكليهما، فمن هذا المنظور فإن التآزر والتفاهم والتعاون بين عدن والسويس يمثل محور التحالف الأساسي والممكن بكل أبعاده الوطنية والعربية والإقليمية، إضافة الى أن استقرار عدن يهم الجانب المصري في الصميم. ومن المهم التنبيه بان استقرار وسلامة الملاحة عبر مضيق باب المندب مرتبط باستقلال اليمن الجنوبي عن الشمال، وذلك لأسباب العلاقة المتناقضة بين المدنية في الجنوب والقبلية في الشمال إضافة الى عدم وضوح الرؤية بالنسبة للوضع السياسي في الشمال والذي قد يتواصل فيه العراك الى حالة التفكك الداخلي، وهذا حتماً لن يساهم إيجابياً في سلامة المرور من مضيق باب المندب. إن عنصر مضيق باب المندب ورقة قوية بيد الحراك الجنوبي، وهذه الورقة تهم المجتمع الدولي عامة وجمهورية مصر العربية خاصة.

إن الحراك الجنوبي يتمتع بمقومات النجاح لتحقيق مشروع الاستقلال وبناء الدولة المدنية، داخلياً يملك عناصر القوة المتمثّلة أساساً في الدعم الشعبي لمشروع الاستقلال، وإقليمياً يملك ورقة استراتيجية الممر المائي الدولي، وهذه الورقة الاستراتيجية تجتذب اليها القوى العالمية والإقليمية ويمكن لهذا الاستقطاب أن يساهم في دفع النضال الداخلي الى الامام. من المهم في جميع الحالات والظروف أن تكون أوراق اللعبة السياسية بيد القيادة الموحدة والمتفق عليها للحراك الجنوبي.

 

الأيام - العدد 9346 الثلاثاء 11 نوفمبر 2014
 



 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter