|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  8  / 2 / 2021                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

معرض "أرض ماء" في مدينة باليرمو بصقلية
تاريخ البحر المتوسط وصراع الحضارات الانسانية

باليرمو: موسى الخميسي
(موقع الناس)

قامت مؤسسة "فريدريكو الثاني" للاعمال البحثية في مدينة باليرمو عاصمة اقليم جزيرة صقلية الايطالية معرضا كبيرا ، يضم 324 قطعة من المجسمات البلاستيكية والتحف الاثرية القديمة واللوحات الفنية والاعمال السيراميكية والصور الفوتوغرافية والوثائق التاريخية والخرائط الجغرافية القديمة، اضافة الى ثمانية أقسام متخصصة في تراث الحضارات الواقعة على ضفاف البحر المتوسط، اقيمت في سرادق منتظمة في ساحة "ريال" التي تعتبر من اكبر ساحات المدينة التاريخية، تهدف إلى نقل السياق الاجتماعي والثقافي وأخذ الزائر في رحلة عبر القرون، حتى يصبح جزءا من هذه التجربة.

عندما يذكر البحر الابيض المتوسط، فان معاني كثيرة لثلاثة قارات، غرب آسيا وشمال افريقيا وجنوب اوربا ، وعدة حضارات هائلة وراسخة،تمثل بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة والكنعانيون والفينيقيون والعبرانيون والقرطاجيون واليونانيون والاخمينيون والتراقيون والاتروسكيون والرومانيون والبيزنطيون والبلغاريون والعثمانيون والمسيحيون والمسلمون.، تعكس ثلاثة اساليب اساسية في التفكير والاعتقاد، لعشرات المجتمعات الثقافية. اولها حضار الغرب التي تمثلها الحضارة الرومانية بالنظر الى روما التي كانت ولا تزال مركز العالم القديم الذي بدأ لاتينيا ثم صار كاثوليكيا ثم امتد ليشمل العالم البروتستانتي، والحضارة الثانية، هو عالم الاسلام الفسيح الارجاء الذي يمتد من الغرب الى ما وراء المحيط الهندي حتى يبلغ جزر جنوب شرقي آسيا التي غزا المسلمون عددا منها في القرن الثالث عشر الميلادي فأعتنق اهلها الاسلام.اما الحضارة الثالثة فيمثلها العالم الاغريقي، العالم الارثودوكسي الذي يضم شبه جزيرة البلقان، رومانيا وبلغاريا ويوغسلافيا واليونان ذاتها، بالاضافة الى رومسيا الارثودوكسية بمساحتها الشاسعة. وكان مركز هذا العالم تمثله القسطنطينية، روما الثانية، غير ان القسطنطينية غدت اسطنبول عاصمة تركيا منذ سنة 1453.

عندما نتمعن في صورة البحر الابيض المتوسط، فان معاني كثيرة تفد وصورا عديدة تتجمع لعدد من الحضارات المتجاورة والمتشابكة والتي تبادلت فيما بينها عمليات التأثير والتأثر بمختلف العناصر الثقافية والحضارية، وكان ذلك من خلال التعاون في بعض الاحيان واحيانا اخرى من خلال الصراعات والحروب والاضطرابات التي تجمعت على سواحل هذا البحر الذي تعكس مساحته الجغرافية الكبيرة، صورة كبيرة ومعقدة تجمعت فيها حياة موغلة في القدم ومازالت تنبض جنبا الى جنب مع صور جديدة من حياة تستجد يوما بعد اخر.فقد كان البحر المتوسط الغربي المفتوح على التأثيرات القادمة من الحوض الشرقي، يستخدم كمحطة تبادل تجاري ،ولا يزال الى يومنا هذا، فقد كان لنفوذ التيارات المنطلقة من البحر المتوسط تأثير فعّال على مناطق واقاليم في كل انحاء العالم.

يرصد معرض "أرض وماء" بالصور والخرائط والوثائق والنماذج الحية والبلاستيكية، ميزات التاريخ الجيولوجي لكل الاراضي التي تحيط بالارض الصلبة والصخور التي تشكل سواحل سواحل البحر، التي بنت حضارات مختلفة لترسم ملامحها، عبر ما يتراوح بين ستة الآف وعشرة الآف من السنين هي عمر الوجود الانساني على ضفاف هذا البحر، الذي شهد عمليات البناء الحضاري التي حدثت على هذه الاراضي ،مع مرور الزمن وتحديد عمرها، واستعراض التاريخ التطوري والمناخات الماضية لهذا الحوض الكبيرالذي تحيطه الاراضي الخصبة والجبال والسهول على مر العصور، واهم المراكز الحضرية التي بدأت بالظهور في العصر النحاسي في الالفية الخامسة الى الالفية الرابعة في بلاد مصر وفي بلاد ما بين النهرين، ومن ثم العصر البرونزي ، وتطور الحضارات في الهلال الخصيب، واستعراض انظمة الكتابة بحلول منتصف الالفية الثالثة في بلاد ما بين النهرين، وكيف ادى ذلك الى تطوير الامبراطوريات المبكرة مثل الحيثية والمصرية على السواحل الشرقية للبحر المتوسط، التي تنافست للسيطرة على دول المدن في بلاد الشام (كنعان) ، ثم العصر البرونزي والحديدي، وتقديم نماذج لمهمات التنقيب عن المعادن والهيدروكربونات، وتقييم الموارد المائية، وتشخيص المخاطر الطبيعية والبيئية .

ركز المعرض على الاختلاط الجغرافي والتقارب المكاني، حيث خصص لها المعرض جانبا كبيرا من المعروضات والوثائق والخرائط الجغرافية، وعلى رأسها نموذج للكرة الارضية التي قام بعملها أعظم الجغرافيين في زمانه ، وهو الشريف محمد الادريسي(1100ــ1166) الذي استدعاه حاكم صقلية النورماني (رجار الثاني 1111ــ1154) وامر ان تفرغ له حسب ما اراد كرة كبيرة ، تزن 400 رطل، من الفضة الخالصة، رسم عليها الادريسي الاقاليم السبعة ببلدانها واقطارها وسبلها وريفها وخلجانها وبحارها ومجاريها ومنابع انهارها، وطلب الملك من الادريسي أن يضع كتابا عن هذه الكرة الارضية، فألف هذا العالم الجغرافي كتابه الشهير" نزهة المشتاق في اختراق الآفاق". الفلسفة، بالكتب والمخطوطات والمنحوتات، هي الاخرى تحتل موقعا متميزا من الاهتمام في المعرض ،لما لعبته من دور مهم في تشكيل ثقافات شعوب البحر الابيض المتوسط ، التي بدأت في بلاد اليونان ، فكانت في البداية تشمل العلوم والفنون جميعا ،من منطق وقيم واخلاق واقتصاد وسياسة وأدب وشعر وفن، ومن الاساطير الاغريقية الى الموسيقى، ومن الاختلاط الجغرافي والتقارب المكاني للشعوب ، الى الاستعمار اليوناني والفينيقي، إلى التجارة والعولمة والحضارة والحروب.

في إحدى قاعات هذا المعرض الكبير، تم التركيز على الصناعات الحديدية البدائية بتسلسل تاريخي، حيث بينتالحية من اواني ومعدات واسلحة، جنبا الى جنب النماذج البلاستيكية، كيفية انتشار الحديد ببطء في اوربا، والحقيقة ان شعوب الشرق الاوسط وآسيا الصغرى والحيثيين خاصة عرفوا المعدن الجديد الذي لم يبلغ اليونان ثم اوربا الوسطى قبل منتصف الالف الثاني او نهايته، وغالبا ما كان يستخدم الحديد، كمادة كمالية، استخداما استثنائيا، في تقوية حد السلاح او عدة ما او ينزل في البرونز على شكل زينة، وعلى كل حال تصبح الادوات اكثر فعالية واقل كلفة ويستخدم البرونز والذهب لصنع الكماليات والزينة بشكل خاص.

يوضح رئيس المؤسسة، "جان فرانكو ميتشيشي"، أن معرض " أرض ماء" هو أكثر من مجرد لحظة فنية وثقافية، (فمن جديد تصبح ساحة "ريال" رمزا للتعايش بين شعوب البحر المتوسط، وأنه يمكن من خلال الفن والجمال إظهار التعايش السلمي بين الشعوب من مختلف الثقافات والأديان، ومثال ذلك ماحدث خلال العصر الهلينستي، أي في القرون الثلاثة التالية للاسكندر الاكبر الذي خرج غازيا في سن العشرين، ليحقق مبدأ " العالم وطن واحد" مما ادى الى انتقال واضح لمركز الثقل الحضاري في التطور الفني الكلاسيكي من اليونان الى الشرق المزدهر بالحضارة البابلية والفرعونية والفارسية، ومع ذلك فقد كان للمؤثرات المتبادلة دورها طوال الوقت بحيث اننا نجد أنفسنا لاول مرة في تاريخ البشرية ازاء حضارة كانت خليطا حقا حيث انمحت الحدود الفعلية من خلال التواصل والمزج، وذابت الفوارق للعالم القديم. وهناك نموذج اخر اكثر حداثة، يتمثل بما قدمه عصر النهضة في القرنين الخامس والسادس عشر للانسانية).

وبعيدا عن الحروب والنزاعات، فإن البحر المتوسط يشكل بيئة فلسفية فكرية قادرة على تأكيد نفسها كعنصر استباقي نحو الحرية.
وهذا ما يبينه "ميتشيشي" بقوله "أن المعرض لا يهدف أن يكون فقط مكان لعرض الاكتشافات، بل تقديم قصة حقيقية عن روح البحر المتوسط، من العصور الأولى وحتى الآن".

 






 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter