|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  30 / 6 / 2019                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ديوان شعر للروائي الراحل البيرتو مورافيا

موسى الخميسي / روما
(موقع الناس)

ما بعد النثر، مورافيا في علاقة عمودية مع ذاته

الروائي الايطالي الراحل البيرتو مورافيا (1907 - 1990) الذي يعتبر من أشهر كتاب إيطاليا في القرن العشرين، تميزت أعماله الأدبية بالبراعة والواقعية لنفاذه إلى أعماق النفس البشرية، فقد هاجم مورافيا الفساد الأخلاقي في إيطاليا. ترجمت معظم أعماله إلى عدة لغات عالمية، كما تم تحويل العديد من رواياته إلى أفلام سينمائية. يتسم أدب مورافيا بتبسطه في سرد مشاعر الجنس لدى أبطال رواياته والتداخلات في الأحداث التي تنشأ عبر تلبية تلك المشاعر والرغبات، حيث أنه يتسم بالتركيز على التحليل النفسي لنوع العلاقة بين الجنسين أو الزوجين وهذا واضح في روايته (الاحتقار). كان مورافيا متعدد الشخصيات، وجوانب الابداع، كلما قرأته اكتشفت اكثر من زاوية جديدة لديه، تستحق التوقف والدخول في ادق التفاصيل. وقبل ايام اصدرت دار نشر بومبياني الايطالية كتابا بـ207 صفحة ، يحمل عشرات القصائد التي كتبها في سنوات السبعينات من القرن الماضي ، كتب الروائي مورافيا نصوصا باللجوء الى قصائد شعرية قصيرة جدا وكان يجمعها في ملف واحد مما يجعلنا نقول بانه كان يفترض نشرها: والان ظهرت طبعة " الديوان الشعري " وقد تولت هذا الامر الاديبة الشابة ألساندرا اغراندليس .

"في جنازتي"

لقد تابعت جنازتي

مشيا

الاحصنة المزينة بريش الاجنحة

اللاهثة بقوة

من الملل

تجر عربة الجنازة المذهبة وذات الزينة العربية

في الزوايا الاربعة

ملائكة الفضة الاربعة

للشعر

يبكون

دموعا

من جبس

مصبوغ

ومن سواد النعش

تدلى تاج واحد

من اقحوان اصفر

وعلى الشريط

البنفسجي

كتب اسمي ولقبي

وفي الصندوق

مسجاة

جثة ادبي

وقد كانت في ما مضى حية ايما حياة

لم اتبع الجنازة

الى المقبرة

اذ انعطفت في شارع ما

وذهبت.


الانطباع الذي مؤداه ان في كل راو يكمن شاعر غالبا ما يجد اثباتا وتاكيدا له. من دون شك ان هذا يقع اكثر مما يقع عكسه اي ان القول بان في كل شاعر يتخفى راو ليس مما يثبت بكثرة. وربما هذا يجعلنا نعتقد بان الشعر يجلب معه علاقة جذرية مع الكلمة ومع الواقع ويضع نفسه كجزيء بسيط او خلية اولى للابداع. الا ان قولنا هذا يجعلنا نغمط حق ضروب التعبير الاخرى الممكنة او سائر اجناس الادب بحيث وكاننا نجعلها شيء لاحق او متفرع عن الشعر. وهو امر غير صحيح. فنترك اذان الانطباع الاول او البداية كايحاء او كسؤال بسيط.

ايا كانت الحال فالبيرتو مورافيا كتب ايضا شعرا. وهو كان من كل وجهات النظر قصاص-قصاص وبالرغم من ذلك فانه من منتصف السبعينات، ولمدة عقد تقريبا، كتب شعرا كثيرا وتحديدا كتب 83 قصيدة. وجمعها في مكتوب مرقوم وهو ما يجعلنا نعتقد انه كان يعد نشرها امرا‍‌ ممكنا. اتسمت تلك السنين بفاجعتين انسانيتين الاولى جريمة قتل الشاعر والمخرج السينمائي الشهيربيير باولو بازوليني (ونجد ان هذا الديوان قد اختتم بقصيدة خصصها مورافيا لموت بازوليني) ثم جريمة قتل رئيس وزراء ايطاليا الديمقراطي المسيحي آلدو مورو وفي ذلك الوقت نجد فيه الكاتب مشغولا بالتحرير الطويل والمضني لروايتة "الحياة الباطنة" (التي ظهرت سنة 1978) . وبالجملة في تلك السنين كانت تفد على مورافيا علامات سالبة من كل حدب وصوب ليس هذا فحسب بل نجد لديه ضربا من عيش لمعنى قطيعة هي في نفس الان تاريخية وخاصة. وفعلا فاننا نجد لديه شعورا شخصيا بـ "ما بعد- مورافيا" يتركب مع ادراك ما اطلق عليه "ما بعد التاريخ" . ومن هذه النقطة بالذات، اي بعد خمسين عاما من تمارين الشباب الاولى على الكتابة الادبية، نجده يستعيد اخذ ادوات الشعر، والاحرى اسلحته، ليوجهها اولا وقبل كل شيء ضد نفسه.

وبالرغم من ذلك فان هذا لا يدهش ،اذ الوصل بين مورافيا والشعر لم يغب ابدا مثلما تبين لنا ذلك من اعتنت بهذا الجمع من القصائد، اذ انها في الدراسة المقدمة لهذا الديوان نجدها تعيد بدقة بناء عناصر ومراحل علاقة مورافيا بالشعر: قراءات، معارف، مداخلات ترجمات، احالات في داخل العمل الروائي وبالخصوص نجد ايضا تصورا للشعر وللشعراء ان لم نقل عنه بانه رومانسي او قدسي فانه يظل تصورا عال وراق ومهيبا شيئا ما ،كما لو ان الشاعر والشعر يمتلكان كلاهما، في عالم الحياة الارضية، بصرا اكثر عمقا واكثر مضمونا.

وبالفعل فمنذ 1931 مثلا نجد ان مورافيا قد نجح في الاتصال وفي التعرف شخصيا على الشاعر بول فاليري والشاعرسان جون بارس في باريس، ثم الشاعر الانكليزي ييتس وزميله الشاعر ت. س. إليوت بلندن. وفي هذا الاخير تعرف مورافيا على نجمه الهادي ، وهو الشاعر الايطالي الحاصل على جائزة نوبل، ايجنيو مونتالى. وهذا مفهوم ذلك ان شاعرقصيدة "الارض اليباب" وشاعرقصيدة "شر العيش" كانا يمثلان بالنسبة الى قصاص وروائي بحجم البيرتو مورافيا، اخوين كبيرين اصيلين، وهو الذي يمكن ان نعده احد الاباء المؤسسين للوجودية الاوربية، والذي ركزفي معظم اعماله الروائية على مقاومة الانسحاق الانساني تحت اقدام الحضارة الرأسمالية، تلك المقاومة التي اخذت في منتجه الروائي والشعري على حد سواء الانسحاب الى البدائية، وهو ليس بالانسحاب، بل هو يعتبره ضرب من ايجاد الصلات بينه وبين الادب عن طريق رموز جديدة .

وبالتحديد نجد ان القلق والرعب متناثرين في اشعاره. الا ان الاحالة هي احالة غير مباشرة كما لو ان الكاتب المتاخر عن نفسه يحيل الى تاريخه بعد ان وجد نفسه ما وراء نسيج زماني . والسمة المميزة للقلق والرعب، والتي تثير الاندهاش، تكمن في هذا الامر بالذات. ذلك ان مورافيا يلتجئ الى الشعر كامكانية لخطاب عديم الوسائط لكن مباشر وعمودي مع ذاته ومع حركاته الباطنة. وهذا البعد العمودي الحانق والمغيظ والمستفز يبدو لنا من قصر ابيات الشعر (مع استثناء القصيدة التي خصصها لموت بازوليني والتي اشرنا اليها في البداية) كما لو ان الكاتب يريد ان يجعلنا نلاحظ بان الامر لم يعد متعلقا بالنثر. وبالرغم من ذلك فان ضرورة هذا الحوار الحميمي يفضي بالكاتب الى تعميق المسافة بينه وبين نفسه الى حد لا يحتمل والى عزل نفسه عن حياته نفسها بما فيها الادب . وهكذا نجد انفسنا ازاء حميمية قصوى مصحوبة بتنصل اقصى . ويمتد بين الامرين شريط دقيق الا انه مرير فلا ينقطع ابدا. وفي هذه الاثناء يمكننا بان نعلق قائلين بان الراوي السارد والزارد ينبثق من هذه "الجدلية" ليبرز على السطح: فحركة الاستبطان تضع الانا في مركز الاهتمام كما لو كان شخصية، لكن ليست اي شخصية بل شخصية قاضمة.

وفيما تبقى، في هذا التعامد الاقصى، لا يستخدم مورافيا اي نمط من الاحالات الباطنية، للمعاني والمعاني المضادة ، للتلاقي والتناظر بين المعنى والصوت اللذان من حيث هما كذلك، يميزان اللغة الشعرية. بل على العكس نجده دائما، يركز قوله الى اكثر اللغات المشتركة فيمضي مباشرة، لصيقا بالارض كانه يمشطها، بطريقة تكاد تكون تليغرافية كما لو كان منشغلا اولا وقبل كل شيء بأن لا ينحرف فكره الخاص. وهو اذا نفس الامر الذي نجده في سرده وزرده الروائي. من يعلم فعله من الممكن ان نتحدث عن شعر في خدمة النثر عند مورافيا.

نموذج من شعره: صورة المرأة عنده، وهو يصف أجزاء جسدها ، تعكس لوحة ملفتة:

الصوت

يجيّء إليّ وكانه جمال الزمن نفسه

هو المباراة السهلة التي تتصادم في اسلاك الهاتف

اذ يأتي الاسم " كارمن" عرضا

منقادا وكانه نسمة، او نفحة

هو مثل ائتمان الغضب القادم

انه سرقة الاسرار

في الجانب الآخر.. في لحظات الهياج المترامية بعيدا

يكون هذا الصوت بطبقات اكثر حدة حتى من طرق المعادن

بفضول كبير يتغير هذا الصوت ليمتلك حقيقته حين تتحدث " كارمن"

بلغتها الاسبانية

ما يحكيه الصوت هو الخفة والرشاقة في تعبير يشبه " الفنسياني" *

دائما ينطلق متصالحا مع فضول آخر

هذا الصوت الذي كان من اصول تحمل الدهشة

حيرّت الرومان



الجسد

هكذا اذن.. هي النهاية

هي المحط الاخير الذي اسمه الجسد

ذلك المتخفي دائما تحت الهندام

وما ادرانا في ظاهر هذه الحالة ذات الخصوصيات الكثيرة..

هذا التآلف المتجاذب الذي نبحر فيه تنقيبا.. هو الجسد

هو التعلق الخصب المثمر الواثق، الاكيد، والذي يعرف نفسه

كل الاشياء التي فيه لايمكن استبعاد تلك الفرص الرائعة التي يحويها

حيث تتكاشف مع نفسها وهي تعوم في ماء البحر

هذا التعرف يكشف، ويفحص من خلال معابر الملاحظة وهي تحط بنفسها على الجسد

لنقل بصفاء

ان الجسد تعمد مع واجب الانتباه حين اوحى ببعض المواصفات

هذه المواصفات ليست مختصرة بالاهتمام

فالصدر له ما يخدم كل المواصفات في صنعة التكوير

وهو يحمل هذا الهواء من المهابة والمكابرة

الحياة تعتز بروحها وهي تحط بنفسها على الافخاذ

طويلة كما هي في الجداريات (البومبوية) **



*
فينيسياني : نسبة الى مدينة فينسيا (البندقية)

**
بـومـبوية : نسبة الى نساء مدينة بومبي الايطالية القديمة التي خلدتها بقايا جدارياتها

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter