|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  28 / 2 / 2019                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ترميم فنون الحداثة

موسى الخميسي / روما
(موقع الناس)

عاشت ايطاليا تحولات فنية كبيرة مع بدايات القرن العشرين، تلك التحولات التى تمثلت في تيارات فنية كانت تسعى في مجتمع توحد من جديد، وتشكلت لديه مقومات فكرية وتقنيات جديدة للتحرر من النمط الذى ظلت فيه هيمنة واقعية عصر النهضة وتراثها العظيم وادواتها الفنية تحدد أبعاده لفترات تاريخية طويلة. اذ ظلت تأثيرات منظرو الفن لذلك العصر يتوارثون اهتماماتهم على الدور المعرفي للفن، ويبدون اهتماما كبيرا بالتقليد الخارجي الأمين للواقع، لان الواقع الموضوعي الذى رد أليه هؤلاء النظريون اعتباره بحماس كبير، يستحق التجسيد المطابق الدقيق، ويتضح ذلك تماما من وجهة النظر هذه، اهتمامهم البالغ بالناحية التكتيكية من مسائل الفن وخاصة الرسم والوسائل التقنية الحديث للحفاظ على الموروث الفني الايطالي الذي تقدره منظمة "اليونسكو" باكثر من اربعين في المئة من الموروث العالمي. ولازالت والى يومنا هذا تجري المحاولات في اجراء التجارب بحماس كبير لايجاد تقنيات جديدة تتلائم مع ما افرزته ساحات الفنون خلال العقود الثلاثة الاخيرة في عالم الفنون الجميلة، جنبا الى جنب ، دراسة المواد التركيبية والبنائية واللونية وعمليات تجديد صناعتها وتاثيراتها الجانبية السلبية على الاصعدة الفنية والصحية والبيئية .

لا شك في أن دراسات وتحقيقات العديد من المختصين في ترميم الاعمال الفنية التي تتسم بالحداثة او ما يطلق عليها عالميا اسم "المفاهيمية" ، يترقبون كل يوم اخبار اهم الاكتشافات التي تساير المنتج الفني الحديث الذي بدأ هو الاخر يزحف بسرعة ببث وهن الاكسدة والتلف والتعفن والتحلل ليصيب جسد المنجز الفني، ليس فقط لفهم التغيير الذي يطرأ عليه، وإنما لفهم كيفية التعامل مع جملة الاضرار والتشويهات التي تصيبة كبناء وتركيب من مواد تشكيلية هجينة مختلفة .

في مجال عمليات الترميم الجديد ، استجدت مصطلحات جديدة هي الاخرى، تتماشى مع ظاهرة افول اللوحة الفنية ونهوض الفن المفاهيمي الذي مهدت له افكار الفنان الايطالي بييرمانزوني 1933- 1963، والمفاهيمية الاميركية بانجازاتها المتعددة (فن التصوير، فن الجسد، فن اللغة وفن الارض... الخ) حيث شكلوا، على الرغم من غموض اهدافهم العامة، الاتجاه السائد مؤكدين على ضرورة مشاركة فعالة في العمل الفني وابراز الظواهر النفسانية والفيزيولوجية للحركة. واقترن ذلك الى حد كبير بالحس الاجتماعي لدى الفنان الذي وجد في هذه التيارات الفنية منهجا يعتمد الفكرة بدلا من العمل الفني التقليدي، وينظر اليه كمبدأ موضوعي، وهو لايدل سوى على استقصاء هذا التصور الكامن للعملية الفنية خارج اي اعتبار تعبيري .

ان كلمة " الفن المفاهيمي" لدى اصحاب التيارات الجديدة من الفنانين والمرممين، اصبحت بمثابة معادلة لمادة مدونة ومعقدة او رسالة غامضة من الفنان الى جمهور الشارع لان زمن اللوحة باعتقادهم قد انتهى، وهذا الامر عكس نفسه وبشكل مفاجىء على الاكاديميات والمدارس والمعاهد المتخصصة في الترميم والصيانة ، في مواجهة واجباتها الجديدة، بتغيير طواقمها وكوادرها ومعداتها التقنية واساليبها.

هذه الظاهرة الاشكالية ليس في ايطاليا وحدها ، بل تشاركها عدة دول اوربية، جنبا الى جنب الولايات المتحدة الامركية واليابان،تتزامن مع ظاهرة خلو قاعات العروض التقليدية التي تنتشر في المدن والتي بدأ عددها بالتقلص يوما بعد آخر، والبدء باقامة قاعات عروض بمواصفات معمارية حديثة قادرة على استيعاب اعمالا فنية بعيدة عن المساند والحوامل التقليدية التي تعلق اللوحات على الجدران، وفقا لنظم ومواصفات تتغير يوما بعد آخر لتنسجم مع حجوم ومساحات لاترتكز على اسس تقليدية ، كما هو الحال في زمن اللوحة الفنية التقليدية.

الفنان االمفاهيمي يواجه مواقف تعرض أعماله للتلف، أو التشقق الذي ينتج، سواء عن طريقة تخزين العمل الفني، أو نقله من مكان لآخر، أو عوامل الزمن التي تشيرالى فقدان التماسك أو الالتصاق، ومن هنا خلق حاجة جديدة ، تتمثل بالبحث عن منقذ يلجا اليه لمواجهة ظاهرة التلف السريع في التركيبات التشكيلية الهجينة بعمله الفني ،حيث تبنّى الممارسون والعلماء المختصون الحفاظ على إعادة هيكلة هذه الأعمال مستخدمين في ذلك التكنولوجيات الجديدة، التي بالإمكان أن تساعدهم في فهم تاريخ العمل الفني، بالإضافة الى برامج الكترونية متطورة للغاية ، خاصة التي توفر تحليل المواد الكيميائية المكون منها العمل .

ومع أهمية هذا المجال العلمي الفني للحفاظ على الموروث الفني؛ نجد أنه ما زال يقتصر على أقسام دراسية محدودة، تتعلق بترميم الآثار وما شابه ، الا ان بحاجة التوسع والدراسة، من اجل اللحاق بالمستجدات تجعل هذا الأمر لا يخلو من حدوث تلف أو تمزق لعمل فني ما، ونحن إذ نعلم أن الأعمال الفنية المفاهيمية يصعب إعادة ترميمها وصيانتها كما كان الحال مع اللوحة المسندية حتى من قبل الفنان نفسه الذي انجزها، فلنا أن نتخيل عمل فني مركب من الالوان بشتى انواعها ومصادرها، والاسمنت والحديد والاقمشة والخشب والمواد الغذائية والعلب المعدنية..الخ، انجزت بنسب عشوائية او منتظمة لاتراعي نظام تقليدي معين متعارف عليه، فالفنان عندما ينفعل مع عمله الفني غالبا ما يهمه التعبير اللحظي ومن الصعب إعادة كل هذه العناصر حرفياً لتحقيق عمل آخر مماثل .

لاسباب حضارية وثقافية متعددة ولدت الحاجة والضرورة لحفظ الموروث الفني كشاهد على الماضي، وكخيط تاريخي يصل ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى ضوء هذه الضرورة، وعلى ضوء وصول الحياة المدنية الى نقطة اصبحت قادرة على ان تقدم للنوع الانساني ميزات تساعده على الاستمرار والبقاء والابداع. فالترميم بدأ يخطو خطوات متقدمة جديدة واول هذه الخطوات هي استخدام الاساليب التكنيكية الالكترونية المتناهية الحساسية والتي باستطاعتها رؤية اعشار الجزء الواحد من البليون. ان اجهزة المايكروسكوبات الخاصة بالكشف عن المزيج الذي تتألف منه المواد والاصباغ الملونة الداخلة في تنفيذ العمل الفني، لها قدرة هائلة في الكشف عن المزيج المكون من اوكسيد الحديد والزئبق وثاني اوكسيد التيتانيوم وغيرها من المواد والاصباغ. إذ اصبح بمقدور المختص العثور على بقايا الملوثات العضوية مهما كانت بتراكيز ضئيلة، ويطلق على هذه الأجهزة "التيرموغراف" أو العيون الالكترونية والتي تستخدم من قبل القوات الأميركية للكشف عن القناصة في الادغال والجبال والصحاري في حروبها الحالية في كل من العراق وسوريا وافغانستان.

المرمم الحديث مهمته تنحصر في بناء اللحظة الميثولوجية لاعادة معرفة العمل الفني في محتوياته المادية وفي ثنائيته الجمالية والتاريخية كي يعبر من الماضي الى الحاضر، اما عملية فرز الاساليب المتبعة من قبل النقاد والتقنيين ودارسي الفن فانها مسألة ثانوية.

المرمم الحديث يدخل دورات متخصصة ومكثفة تمتد الى اربع سنوات او اكثر يمنح بعدها شهادة تثبت قدرته على ممارسة عمله الدقيق، وهو بخلاف المرمم القديم الذي كان يعتمد على الاجهزة والادوات التقليدية القديمة التي لاتزال تستخدم في معظم بلداننا العربية والتي كثيرا ما الحقت الضرر بالعمل الفني. المرمم الحديث إضافة الى ثقافته وخبرته، فهو يحتاج الى صبر كبير في أداء عمله الدقيق والبطيء والذي يحمل الدهشة والمحبة.
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter