|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  27 / 1 / 2018                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



مورافيا في كتاب جديد
"لا ادري لماذا لم اكن رساما ؟"

موسى الخميسي / روما
(موقع الناس)

ترك مورافيا وراءه اكثر من أربعين مؤلفا وآلاف المقالات المتنوعة المواضيع، ترجم الكثير منها الى اكثر من 50 لغة من لغات العالم الرئيسية ومنها اللغة العربية..

وروايات مورافيا التي شكلت تاريخا اجتماعيا ونفسيا لإيطاليا القرن العشرين، لقيت رواجا كبيرا داخل إيطاليا وفي العالم،لا تفسره نزعة الكاتب الوجودية المبكرة، ولا التركيز الكبير على الجنس، بل كذلك حرفته الروائية العالية ومقدرته على التقاط دقائق التحولات السياسية والاجتماعية والنفسية لدى أوساط المجتمع الإيطالي المختلفة، وخاصة منها أوساط البرجوازية .

ويعتبر مجيء مورافيا الى عالم الادب كممهد للواقعية الإيطالية المحدثة، جنبا الى جنب مالابرتي، وبريمو ليفي، وجوزيبى برتو، وماريو توبينو، وريناتا فيغانو، ودينو بوزاتي روائي القلق الماورائي وكارلو برناي وجوفاني تستوري وايتالو كالفينو وعشرات الأسماء الأخرى التي أنهت مخلفات القرن التاسع عشر لتبدأ بتدشين عصر جديد تجلى في عدة اتجاهات أنهت والى الأبد الضجة المثالية والروحانية الجمالية التي اعتلت الالق اللفظي التفخيمي الذي ساد كتابات الأولين.

لقد كان هذا الكاتب الشهير يرفض العمر، لانه يمثل الماضي، والماضي بالنسبة له مثل مادة الفحم، والفحم حسب زعمه لا يبقى منه سوى السخام بعد ان يتدفأ المرء بتلك القطع السوداء طيلة امتداد عمره.

سئل مورافيا قبل وفاته التي صادفت يوم 8 2 أيلول (سبتمبر) عن عمر 2 8 عاما ، فقال" انه لا يفكر فيه ابدا، وعما بعد الموت؟ قال" لا أفكر فيه أيضا فنحن مثل الأزهار نولد، ونموت ثم نودع". حتما كان يفكر في لحظته الأخيرة، ولكنه كان ينظر اليها على انها حدث خارجي، مثلما كان يرفض كل تصنيف اجتماعي، كل تبويب في نماذج بسيكولوجية، كل حكم أخلاقي، فانه لم يكن يقبل بإدخال أي حتمية الى الأمور.

كواحد من ابرز المدافعين عن العالم الثالث،وبالذات القضية الفلسطينية، كان يبتعد عن السياسة بدقة ولياقة ، ولكنه كان يقترب يوما بعد اخر من فن الرسم الذي احبه بعمق .

تسعون مقالا للفترة ما بين 1934 ــ 1990، اختارتهم الاديبة الايطالية " الكساندرا كارمو" من بين العشرات من المقالات واالدرسات واللقاءات الصحفية والحورات مع الفنانين، التي كتبها مورافيا، لتصدرها بكتاب من 450 صفحة من القطع الكبير ، تحت عنوان" لاادري لماذا لم اكن رساما" .

يتعلق الامر بنصوص مجهولة ، نشرت في صحف يومية، مجلات، كتالوكات، كتيبات يعسر الحصول عليها، طبعتها غاليريات كاستدعاءات الى معارض فنية،جمعت مع بعضها لتلافي ضياعها الغير مجدي، لانها تحيل الى الرسم والادب في حوار ذي اهمية بين مختلف التعابير الفنية.

البيرتو مورافيا تعلم صنعة التعرف الى فن الرسم في اسرته، فقد كان ابوه مهندسا معماريا يشّد رحاله كل سنة الى مدينة البندقية (فينيسيا)، موطنه ليرسم مشاهدها ثم يحتفظ بها بمحبة كبيرة في منزله، اما اخته " ادريانا مورافيا" فهي فنانة تشكيلية ذات صيت في اوساط التشكيلية داخل العاصمة الايطالية روما، لبراعتها في فن الرسم. حسب مورافيا" فان عمل الفنان يبدو اكثر جذبا، اكثر حسنا واكثر اصالة من الادب" لان العمل الفني صنع من الالوان والصور وليس من معارك الكلمات". وللسبب نفسه، فانه في مجاري حياته كلها، قد دأب على احاطة نفسه باصدقاء رسامين شغفوه انبهارا وذلك لانهم، على عكس الكتاب، "هم دائما فنانون في كل شيء"، فاحاط نفسه بلوحات فنية متعددة ومتنوعة الاساليب مثلما يشهد بذلك ذاك الجمع الهائل المحفوظ في شقته السكنية الموجودة على ضفة نهر (التيفر) في روما والتي هي اليوم متحف البيرتو مورافيا. ومنذ روايته الاولى (اللامبالون) التي نشرتها دار "بومبياني" فان مورافيا ما فتىء يقترح (اعمال) الفنانين الذين كانوا يعجبونه كما كان، في نفس الوقت، يطالب بالحاح بنشر الرسوم التوضيحية ، على هيئة تخطيطات، اذ كان قد اغرته منذ الصبا الرسومات التي كان يلحقها ويضمها عدد من الناشرين الى العديد من كتب الادب.

ويحق علينا الكشف عن امر، نجده في العديد من اللقاءات الصحفية، مؤاده ان مورافيا لايحص تأملاته في الفن التشكيلي في مجال ذاتي ويسقطه على البعد التاريخي، حتى وان كان على يقين كبير بان الثقافة الايطالية كانت " تصويرية ــ رسمية وليست ادبيةــ ذلك ان تمثيل ايطاليا كان اكثر نجاحا في اعمال الفنانين منه في اعمال الشعراء.

هذه الملاحظات المساعدة، التي هي ليست فقط من طبيعة بيوغرافية لواحد من روّاد الادب، لها قيمة تعليمية وتمهيدية خالصة لموضوع يقتضي مقاربة تتعدد فيه التنظيرات، فمن الناحية النقدية ما يهمنا هو المعاينة الدقيقة للتأثيرات الفنية، ذات الخاصية المحورية والاسلوبية، على العمل الفني، بدءا من اللجوء الدائم والمتنوع للاستشهادات الظاهرة او المضمرة. والى حد اليوم لاتوجد دراسات ذات نفس طويل عالجت وواجهت المادة، من دون ان ننسى اللوازم النظرية التي يقتضيها التفاعل بين الفن والادب، بهذه الافتراضات المسبقة اهتمت جامعة" بادوفا" الشهيرة في الشمال وجمعية " صندوق البيرتو مورافيا" في انجاز مشروع غرضه الاهتمام ، تمثل باصدار كتاب يجمع نتاجات "مورافيا"، انطلاقا من تجميع كل كتاباته عن الفن، على اعتبار ان" مورافيا" يمتهن الكتابة ويمارس النقد الفني، وبالذات الكتابة المتوهجة اولا في الرسم لكن ليس حصرا فيه بل تتوجه ايضا الى النحت والتصوير الفوتوغرافي بدرجة يمكن معها ان تعد جزء لا يتجزأ من اهتمامه بالفنون الاخرى وعلى رأسها حقل السينما.

باسم الاصالة يستجيب "مورافيا" في كتاباته، الى نداء الاشياء، شأنه في ذلك شأن رائد الواقعية الايطالية في الفن التشكيلي الراحل " ريناتو كوتوزو"، وبعفوية يثمنها في الفن، يشخصها، انطلاقا من اعمال فنية كثيرة لفنانين امتلكوا ناصية الحداثة متمثلة بالاساليب التجريدية. وبالرغم ان معظم هذه الاساليب بعيدة عن الواقعية، الا انها من وجهة نظر" مورافيا" لاتكلمنا عن الحياة الخاصة لمنتجيها" بل عن حياة من يبصروها، من المشاهدين.

وفعلا فان النص الاخير الذي كتبه "مورافيا" قبل موته باشهر قليلة، اتخذ فيه الفنان " فان كوغ" قبله له وبالاخص اربعة من اعماله: المقهى الليلي، الليل والنجوم، احد البورتريهات الشخصية العديدة التي رسمها الفنان لنفسه ، والزرّاع. فلاربعتها قوة تأثير مختلف، كشفت عنه الكتابة، ذلك ان لوحات الفنان " فان كوغ" بالنسبة لمورافيا لازالت تواصل " فعل" تأثيرها بسبب التوليفة بين الواقع والعالم الداخلي (الباطني)، تلك التوليفة التي طالما تشوّق اليها " مورافيا". سيما وان تلك اللوحات التي انجزها " فان كوغ"، تبسط انقباض جميع ادوات الاحساس وتنشر طي الحوادس لتحضها على البحث الصامت في الوجود، وانها بالاضافة الى المعاني المعطاة، فانها تمتلك قدرة على التواصل بالنسبة لـ"مورافيا"، اكثر من غيرها، في خلق التجاوب، اعني انها تجعلنا نشعر، مثلما يقول احد النقاد الايطاليين، بان ما فيها (يحمل سر محيّر وغامض،كانه ازمة ام تحل، كانه عرض معاناة، امل في مستقبل افضل، وكلها اشياء لايمكن ان يخالجنا شعور بكونها غريبة عنا، او بعيدة منّا).

هذه الكتابات الجميلة عن فنانين واساليب واتجاهات ومدارس فنية والتي هي قراءات في عوالم الرسم، هي في مجموعها قصة فنية جزئية رواها كاتب روائي مرموق، او هي طاولة عمل يقع فيها سير التماس مع العمل الادبي، كما انها الى جانب ذلك وبمعيته نمط لمواجهة افق ثقافي نثرت في صور لايجب ان ينفعل بها بل يجب تأويلها وانتقاؤها بطريقة حرة كحرية بصر مورافيا.







 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter