|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  25 / 2 / 2020                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

معرض بومبي وسانتوريني ..او آلاتا الزمان
بومبي وسانتوريني...الخلود في يوم

موسى الخميسي / روما
(موقع الناس)

بروما في قاعات الكويرينالي "مرابط الخيل" التابعة للقصر الجمهوري وسط روما ، نظّم معرض مخصص لمدينة بومباي الايطالية ولجزيرة سانتورني اليونانية اللتين دفنتا تحت حمم بركانية اثر انفجارين بركانيين مروعين. الا ان تحت الرماد وتحجر الحمم حُفظ لنا عالمان لم نجد بدا من مواجهتهما.

هل الامر متعلق بمجرد دراسة خالصة لماض بعيد؟ لا. ليس ذلك. فالاركيولوجيا او علم الحفريات الاثرية ترجع الماضي الى الحياة وتكفله الى مخيالنا وتفكرنا نحن المحدثين ثم تسلمه الى الخلود؛ سيما اذا كان الشان شان امكنة تعرضت لكارثة طبيعية جمّدت فيها سيلان الزمان في لحظة محددة، محدثة دراما غير قابلة للرد ولا للدفع ابان وقوعها؛ بيد انه، بعد الاف السنين يقع رد الماضي تحت الانوار فيطفو امامنا بكل ثرائه مثلما نجد انفسنا امام رقص تتناوب فيه الحركة تقدما وارتدادا ودورانا والتفاتا فتنطبع في ذوي الحس الفني الرهيف رسومات واشكال هندسية ،هي ثمرة رد الرقص الى الحركة والرسم .

في بومبي سنة 79 ميلادية، وفي جزيرة سانتوريني منذ 1628 سنة دفن بركانان كل شيء في كليهما لكنهما حفظا لنا ايضا كل شيء تقريبا بحيث جعلنا ومكننا هذا الحدث ، نحن ابناء اليوم، من ان نواجه اناس الامس مواجهة الشاخص اليهم وان كنا نحن الذين "اشخصناهم" بحفرياتنا. واساسا ان نواجه ونجابه عادات وطقوس ومعتقدات في دقائقها وجليلها اليومي.

المعرض الكبير الذي احتل جميع صالات هذا القصر التاريخي العريق بعنوان "بومبي وسانتوريني...الخلود في يوم". وهو ليس بالمعرض الكلاسيكي حيث يقع التمتع بمشاهدة كنوز الماضي حتى وان كانت هذه الكنوز ذات الجمال الاخاذ والذاهب بالانفاس موجودة بالمعرض. الا ان الامر الرئيس والمركزي في هذا المعرض يتعلق بالحاضر وليس بالماضي او هو الاكتشاف الحديث للماضي. والمعرض هو ضرب من آلة للزمان تمكننا من السفر في اتجاهين: اتجاه الماضي القديم بقدر ما يمكننا من السفر عبر المخيال الحديث.

يبدا المعرض ببومبي وهي المدينة التي ابتدات فيها ومنها في القرن 18 الابحاث الاركيولوجية الحديثة. ومنذ ذلك الحين صارت بومبي كناية على الكارثة الطبيعية بامتياز. مثلما اصبحت الحياة اليومية لساكنيها ملموسة وذلك بمشاهدة مصفوفة اثاث فضي عمرت به المنازل 'الراقية' لتلك المدينة مثلما هو الشأن في عدد من الدور، وفي الخزائن التي توضع فيها الاشياء القيمة، وكما تتجسد على الجدران المرسومة وذات الالوان في " دار السوار الذهبي" . لكن ينصب الاهتمام على انفجار البركان وعلى كم كان الخطر الداهم غير مكترث به (ويبدو ان اللامبالاة بهذا الخطر لا تزال موجودة).

اما جزيزرة سانتوريني اليونانية، فتعد اكتشافا حديثا اذا علمنا ان الحفريات الجديرة بهذا الاسم اي تلك التي تمت وفق منهجية قد انطلقت فقط عام 1967 ومنذ ذلك الوقت ظهر بالتدريج عالم صيّادي السمك وتجارها المعقد، عالم غمره البركان ودفنه بحممه سنة 1628.

فنحن في هذا المعرض الكبير، نجد انفسنا امام عالم لم يظهر لنا من قبل: جدران كبيرة مزينة برسومات غنية بالالوان وبالحياة تبدو فيها نساء انيقات ومشاهد طبيعية لانهار وصخور بركانية محلية ومشاهد غريبة لا ندري كم راء رآها وكم من حاك حكاها في سردية بصرية تكاد تصوت بل صائتة، نجد فيها اكثر من الرسم المشهور لصائد السمك الشاب؛ اذ نجد اكثر من مائة مزهرية سيراميكية ذات الزخرفات المتحاورة مع رسوم وذات الاشكال التي تبدو حديثة جدا. هذا علاوة على اشياء من مواد مختلفة: من الخشب، من الجلد ، من القماش من التبن. كل ذلك وقد خلدته، في شيء شبيه بالنسخ، حمم بركانية فجرت جزيرة باكملها طالت قوتها كل البحر المتوسط.
 
ولا شك انه كان مشهدا عديم النظير لو ان احدا صادفه سوء قدر مشاهدته. مشهد ترك علامة مؤثرة اذ مد، بعد اكثر من الف سنة من وقوعه، مخيال اطلانتيد، او البلاد الغائصة في اعماق البحار، بمادة مغذية وجديدة. وذلك لاننا، حقيقة، تجذبنا مشاهد الكوارث الطبيعية . انها مرعبة لكنها عظيمة، شديدة وعنيفة غير انها واسعة الافق بعيدة المدى. فهي عجيبة غريبة اذ انها تحدث فينا رعبا يجّل عن الوصف وفي نفس الوقت نجدها تخلبنا سيما ان نحن رمنا قياس قوة الطبيعة بعجزنا ازاءها وبموازنة هذا بتلك. فبحق ما هي تحدث فينا ذاك الشعور الذي نسمية الشعور بالجلال الذي نجده في اعمال فنية وادبية رائعة . وعلاوة على كل ذلك نحن نشعر بالتعاطف مع ضحايا الكوارث الطبيعية اذ نتخيل رعبهم ابان حدوثها او ابان شعورهم بالعجز عن مقاومة ما لا طاقة لهم به ولاجل ذلك فان النسخ الجبسية لضحايا انفجار بركان الفيزوف في الجنوب الايطالي، التي قام بها الاركيولوجي جوزيبى فيورالّي في القرن الـ19 كان لها ولا يزال تاثير عجيب فينا. انه الرعب من الموت الذي يمسك به ابان ضرباته من دون ان يترك لنا مهربا ولا موئلا. بل اكثر من ذلك اذ نجد ان العديد من الفنانين المحدثين قد استلهموا الكثير من تلك النسخ مساهمين في التفكير والتخيل على الاعتبار والتفكر في الموت الذي قد تكلس في تلك الصور المجسدة لهشاشة الحياة الانسانية .

وكون الكارثة الطبيعية تخلبنا فلانها تكشف لنا بقوة عن تصدعات وكسور معاصرتنا. وبالمقابل لانها تسمح لنا ببداية جديدة من شانها ان تسعى الى نسخ شرور العالم وما تثمره من آلام وتجعلنا نبدا كل شيء تحت يافطة الخير وعلاماته.

ولذلك فان الدرس الذي يمكن ان نستخلصه من هذا المعرض هو ان الاركيولوجيا مولّدة لبدايات وانبعاثات جديدة سيما وانها ترد الحياة بقوة وبيان كشّاف الى كل ما طمرته او غمرته فدفنته او دمرته الاحداث الاكثر تراجيدية لكنها مع ذلك حفظت لنا صورة من الامكان اعادة بنائها وتشكيلها في سردية فنية اركيولوجية تجعل من حدثان الزمان الماضي حديثا هو من اكثر الدواعي الى الاعتبار والتفكر في الحياة ببعديها الطبيعي والحضاري. ومن ثم في هذا الكائن وما واجهه من اقدار لا قبل له بها وان تمكن حديثا من الحد من اثارها ولو قليلا.. تلك "قوة" الانسان وقدرته التي تكاد تكون صفرا بالاضافة الى ما يتأتى للطبيعة من هيجان من تحت الارجل او من فوق الرؤوس وهو من جنس ما لا يرد. أفلم يئن لهذا الانسان الحديث الذي فتحت بصيرته الاركيولوجيا ان يتفكر في ما يحدثة الانسان باخيه الانسان من اذاقته الوانا من الموت لم تعرفها كوراث الطبيعة ولا يمكن ان تهتدي اليها. افلا يفتح التاريخ البصائر مثلما فعلت الاركيولوجيا وهو اقدم منها؟ هذا سؤال الدرس الاركيولوجي الباعث للوعي التاريخي من سنات الغفلة والتغفيل ومن سبات ثقافة اللهو والتلويث.









 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter