|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  22  / 7 / 2021                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ايطاليا تحتفل بمئوية الكاتب دينو بوزاتي
صاحب رواية "صحراء التتر" وانتظار الموت الذي لا يأتي

موسى الخميسي  - روما
(موقع الناس)

تحتفل ايطاليا هذه الايام بالذكرى المئوية لميلاد كاتبها دينو بوزاتي الذي اندلعت شهرته في العالم بفضل الفيلم الفرنسي / الايطالي الذي حقق انطلاقا من روايته الاشهر" صحراء التتار".وبهذه المناسبة اعدت ايطاليا، برنامجا حافلا يستعيد مجد هذا الكاتب الذي يظل بالنسبة للكثيرين كاتب التحقيقات الصحفية المتميزة، وصاحب الخيال الملغز في قصصه القصيرة ورواياته التي وصفت بالطلائعية. في مناسبة المئوية الاولى لولادته، صدر عن دور نشر ايطالية مرموقة مثل "اناودي" و" مندودوري" كتاب عن سيرته الذاتية، يتناول اليومي والعادي في حياة بوزاتي، ويقدم الكثير للقارىء المهتم باعماله بوزاتي، الكاتب الجاد، الذي اعاد صياغة وتعديل كتابة القصة القصيرة، لكي تتواءم مع مشاريعه الروائية، وهو البحث عن اشكال قادرة عن التعبير عن اللاشيء في الحياة، وادخال التساؤل الدائم في عالم الفن والادب. اضافة الى كتاب يحوي مجموعة مختارة من مقالاته وكتاباته النقدية وابرزتحقيقاته الصحفية الشهيرة.

وكما في السياسة كذلك في كتابة الرواية والقصة القصيرة، في التعامل مع لغة الواقع، واستنطاقه التفاصيل، وابتعاده عن التجريد ودخول الى عالم المحسوس، بملامسة هذا الحزن وذاك التفاؤل بالعفوية طورا، وفي القصدية المتغضنة احيانا، فان بوزاتي كان يتعامل مع اللغة كمن يتعامل مع اشيائه الخاصة، بعفوية كاملة مليئة بالاحساس بالذات دون ان تكون الذات هي محور ما يكتب.

اشتهر بوزاتي بكتابة القصة القصيرة جنبا الى جنب الرواية،كاشفا وراء الصمت المعتل في حياتنا اليومية، بعد ان جعل الانتظار في الكثير من اعماله لعنة من اللعنات التي انصبت على رأس الانسان المعاصر، وهو محاصر بين الامل، والرفقة، والانتهاك والتوقعات،، فكشف وراء الصمت اقصى درجات الصخب والعنف والاحتدام، في بحث دؤوب عن عما يسميه بـ" الصدمة الايحائية".

في ادبه كما في حياته، كان دينو بوزاتي ابنا بارا من ابناء القرن العشرين، في كتاباته ومواقفه،فهو انسان منفي مبحر على الدوام بقلقه، كان قادرا على التغلغل في المعنى الخفي لترحله وتيهانه بين القيم والبنى والتعاليم التي لم تختف ، في العصر الحديث، بل تسترت في اشياء اخرى، فكان يرى بكتابة القصة والرواية اسطورة تنتمي الى الذاكرة الجماعية التي يستبد بها الخوف والقلق الممزوج بالانتظار المميت كما في روايته الخالدة " صحراء التتار" تلك الرواية التي تدور احداثها في حصن للقوات الايطالية في الصحراء الليبية، حيث يعيش الجنود وضباطهم، في خوف ورعب يومي من العدو الذي يرتقب مجيئه الجميع مع عمق الصحراء بين لحظة واخرى، ولكن وهمية العدو الذي لن يأتي ابدا الى هذا الحصن العسكري المدجج بسلاح المواجهة، كان سببا في خلق وفيات وانهيارات جنونية في صفوف من ينتظر الموت الذي لا يأتي.

يبقى ان نقاد بوزاتي يلحوّن على العديد من ايجابياته الكتابية التي تقلق اكثر مما تقنع، وتسأل اكثر مما تجيب، فهي تتمتع بشهوانيته الفائقة تجاه الكائنات والاشياء اليومية، ومادة الكلمات وتركيب الجمل، كما انه يتميز عن اقارنه الطليان في قدرة النص عنده على افتتان قارئه دون معرفة اي سبب مباشر، مستفيا من قدرته الصحفية الفائقة في كتابة التحقيقات لصحيفة "الكوريرا ديللا سيرا" الايطالية الذائعة الصيت، التي عمل فيها لسنوات عديدة، حيث كانت تلك التحقيقات الصحفية ذات الطابع السريالي، تثير خيال العديد من الراوائيين العالميين من ذوي التخصص بقصص الخيال العلمي، في تقليد اجوائها ومحاكاتها، كما هو الحال في التحقيق الذي انجزه عن اعمال الحفر في محطات مترو مدينة ميلانو وتصوره ان شيطانا كبيرا يتجول فيه اثناء الليل.

يصفونه بانه كافكا ايطاليا مع انه بدأ كتاباته في القصة القصيرة قبل ان يطلع على كتابات كافكا بسنوات طويلة، حيث بدأ وهو شابا، في مدينة بيلونو التي تحيطها الجبال في مقاطعة الفريولي الشمالية الساحرة الجمال، يمزج بين تلك الاجواء البيئية ورحابة العالم وحساسية العصر، وقد صاحبه النفور والضجر من مقارنة النقاد له بكافكا فكتب يقول "لم يكن كافكا يسبب لي عقدة نقص وانما عقدة ضجر وسأم ومنذ ذلك الحين لم تعد لي رغبة لقراءة كتاباته ولا حتى سيرته الذاتية".

عشق السينما وكتب الشعر، والنقد الفني ،ومارس الرسم بالزيت والالوان المائية ، ونظر على الدوام الى الحقيقة على انها ذات وجهين: وجهها الظاهر المرتبط بالحياة اليومية المنظمة، والوجه الاخر، وجه الغموض والفوضى الكامنة المطبوعة بالألم والاسرار، وظل وحتى اواخر ايام حياته متعلقا بفنطازيا الواقع، يتشرب هذا الواقع لتستولد رؤاه هياجا باحتدادات وهمية، ذات خلفية عميقة تجترح فضائح المجتمع المؤثثة بالزيف والهشاشة للمضي الى عري العلائق الوهمية، والى هندسة الروح والواقع، حيث مات يوم التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني (يناير) عن عمر يناهز السادسة والستين، في العام 1971.

ولد دينو بوزاتي في السادس عشر من تشرين الاول سنة 1906 ودرس وتخرج من جامعة ميلانو- قسم الحقوق- وعاش طيلة حياته في مدينة ميلانو، التي درس فيها الموسيقى والرسم وعمل فيها ولم يبتعد عنها الا لرحلات قصيرة قام بها خارج المدينة ، نحو البحر والصحراء وهما البيئتان اللتان يمكن تسميتهما بالحوافز التي قدمت لاعماله الراوائية والقصصية قالبا ديناميكيا.

كتب روايته الاولى" برنابو الجبال" عام 1933، وهي رواية قصيرة، واعقبها عام 1935 برواية "سر الغابة القديمة" التي اطلقته الى عالم الادب كواحد من الروائيين الشباب الواعدين، ومن ثم بدأ بتسطير روايته الثالثة "صحراء التتار" في كل ليلة بعد عودته المرهقة من عمل الجريدة، حيث اعتبر هذا العمل الذي احبه كثيرا بانه" كتاب حياته"، واثارت عقب صدورهذه الرواية كثيرا من الاهتمام بين اوساط النقاد والادباء في داخل ايطاليا وعدد من الدول الاوربية، فاقترن اسمه باسم فرانز كافكا، ليقارن النقاد بين شخصياتها بشخصيات كافكا الحبيسة بوهمها الذاتي والتي كانت تستهلك نفسها بالانتظار الذي لانهاية له. وفي عام 1942 اصدر مجموعة قصصية تحت عنوان" الرسل السبعة" عالج فيها ظاهرة الموت والحياة العسكرية، لتجيء متزامنة مع رياح الحرب العالمية الثانية. وفي عام 1945 ظهر له كتابان. الاول مجموعة حكايات للاطفال تحت اسم" غزوة الدببة لصقلية" والثاني، رواية" الغليون" ويظهر فيه سخريته من الواقع نحو عوالم اخرى بعيدة عن منال الانسان.

في عام 1948 خرجت مجموعته القصصية الجديدة بعنوان" اللاسكالا" وقد استقى موضوعاتها من الاخبار والريبورتاجات الصحفية التي كان يكتبها للصحيفة. وبين عامي 1954- 1958 خرج بوزاتي الى القراء بثلاث مجموعات قصصية جديدة هي" سقوط البالفرينا"و" تجربة سحرية" و" ستون قصة قصيرة" حيث بدأ من خلالها بطرح اشكال تعبيرية جديدة مشحونة بالمعاني الاخلاقية وباساليب مبسطة ممزوجة احيانا باسلوب ادبي ساخر. عام 1959 كتب عدد من المسرحيات وعدد من السناريوهات لبعض المسرحيات المأخوذة عن اعمال سترانفسكي ، بريخت، شيللي وغيرهم، وفي عام 1960 انجز روايته ذات الخيال العلمي" الصورة الكبيرة" ليقترب من اجواء الادب السريالي، ثم تبعها بمجموعة قصصية اشبه ما تكون بمقالات صحفية ساخرة واطلق عليها اسم" السيد العزيز نحن آسفون". وفي عام 1963 كتب روايته الرومانسية الشهيرة " حب" التي يصور فيها حياة النساء وعذابهن وعشقهن، ثم اعقبه عام 1971 باصدار كتاب يحوي مجموعة من قصائده الشعرية، كما اصدر مجموعة قصصية جديدة تحت اسم " الليالي الصعبة" التي انتقاها من مجموعة من القصص التي نشرها في صحيفة الكوريرا ديللا سيرا. وكان آخر كتاب نثري ساخر يصدره قبل وفاته التي خلقت صدمة كبيرة في الاوساط الثقافية والادبية الايطالية والاوربية.

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter