|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  21 / 12 / 2017                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



كارافاجو
الابن الضال للقرن السادس عشر

موسى الخميسي / روما
(موقع الناس)

في الصالات الانيقة للقصر الملكي الذي يقع في قلب مدينة ميلانو ، تقيم وزارة الكنوز الثقافية الايطالية معرضا كبيرا للفنان الايطالي المثير للجدل ميخائيل آنجلو ميريسي الملقب بـ " الكارافاجو" نسبة الى المدينة التي ولد فيها في مقاطعة لومبارديا الشمالية، تحت عنوان (ضوء جديد على حياة واعمال كارافاجو).

ما زالت نظرية الرسام البريطاني وعضو الأكاديمية الملكية البريطانية ديفيد هوكني تثير ضجة كبيرة في الأوساط الفنية والنقدية العالمية. تفترض نظرية هوكني ان كبار الرسامين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وعلى رأسهم الفنان كارافاجو كانوا يستخدمون العدسات الضوئية والمرايا العاكسة في لوحاتهم التي وصلت الى حد خيالي من الإتقان والإعجاز. إذ أن هذا الفنان الذي اشتهر بأنه كان يرسم لوحاته في الظلام، لم يكن يرسم في الظلام فعلياً، لأنه ووفقاً لنظرية هوكني كان يرسم في سرداب (بدروم) بيته الذي كان يقسمه الى قسمين: أحدهما مظلم والآخر مضيء، يفصل ما بينهما ساتر معتم، ويقوم بوضع عدساته في منتصفه تماما وعن طريق تسليط الضوء على وجه وجسد الموديل في الجانب المضيء ينعكس شكله وتفاصيله بدقة عبر العدسات على السطح الأبيض لـ(لكونفاس) للوحة المعدة في الجانب المظلم، لتخرج الى النور أجمل وأروع الأعمال الفنية.

وعلى رغم ما تحمله هذه النظرية التي أيدها مارتين كيمب (أستاذ تاريخ الفن في جامعة اكسفورد وهو من أكبر الخبراء في هذا المجال)، من تشكيك في قدرة ومهارة هذا الفنان العظيم ، الا ان ظاهرة كارافاجو لا زالت، هي الاوسع والاكثر انتشارللدراسات داخل ايطاليا وخارجها.

انتشرت شهرة كارافاجو في العقود الأخيرة انتشاراً واسعاً على أنه أحد أبرز الفنانين الواقعيين في القرن السادس عشر. والسبب باعتقادنا أنه لم يتمسك بالمألوف من تقاليد التصوير، فضرب بالتقليد عرض الحائط وراح يعبر في جميع خطوطه الهندسية التي انتفض من خلالها على التأنيقيين، عن تأثيرات الضوء والظل الغالبة، وعما هو حقيقي من الأشياء حتى أنه لم يغفل العناصر الأساسية في التشكيل كالأقمشة والأردية والفاكهة والأعشاب والأزهار الخ، كما ان كفاحه ضد التأنيقيين الذين تثقف على أيديهم لم يتضمن ابتداعه قواعد جديدة وإنما تضمن تقديماً جديداً متمشياً مع الضمير لكل ما كان التأنيقيون يقدمونه بصورة سطحية، مكررين قواعد ميتة. وبذلك دشن هذا الفنان فصلاً متميزاً جديداً في فن التصوير يختلف كل الاختلاف عن الفن التقليدي، بأسلوب أظهر من خلاله قيماً فنية رائعة. فإلى جانب خطوطه الهندسية وتأثيرات الضوء والظل، فإن مصدر إبداع كارافاجو هو الكفاح من أجل الصدق مثله في ذلك مثل العديد من الرجال العظام الذين ظهروا في الفترة التاريخية نفسها. أمثال المصلح الإيطالي الديني الكبير جوردانو برونو الذي أحرقته محاكم التفتيش وعالم الفلك الإيطالي غاليلو الذي أرغم على الصمت. ففي تلك الفترة احتدمت الصراعات في الوسط السياسي الذي اصيب بانهيارات كبيرة من خلال تناقضاته الداخلية وانعكس كل ذلك على البنى الفوقية للواقع الاجتماعي الإيطالي. وضمن هذا الخضم برزت واقعيته الجديدة الثائرة إذ كان يدرك ما في الكلاسيكية من مغالطة متأصلة، كما كان يشعر بأن كل شيء في الطبيعة يستحق التعبير عنه، أما الاختيار فإنما يجب أن ينصب على الوسائل التصويرية، وبطرق تؤدي الى الأسلوب الشخصي، وكانت هذه الواقعية مستندة الى فكرة طبقية لم ترض رجال الدين ولا الارستقراطية الحاكمة فقد كان هناك رسامون يستخدمون قابليتهم الفنية لإرضاء عملائهم بإظهار النساء كالإلهات، والقديسين على هيئة الملائكة، فأحس هؤلاء باحتضار فنهم على يد كارافاجو.

ليس هناك من شك في أن الفن في عصره شهد افتراق الكلاسيكية والتأنيقية عن الواقعية وفي نهاية القرن السادس عشر صارت أشكال التأنيقيين تقليدية أكثر من اللازم، وتولدت رغبة في إصلاح يستطيع ان يخلق احتراماً جديداً للواقعية من دون حاجة الى استبعاد المثل الاعلى الكلاسيكي. ولم يكن رجال الدين راغبين في دفع أموالهم مقابل رسوم يظهر فيها القديسون وكأنهم فلاحون قذرون فالسيد المسيح رسمه على هيئة إنسان فقير والعذراء امرأة جائعة وبائسة. كانوا يريدون صوراً يجدون فيها ملامحهم بين قديسي الفردوس وكأنهم جميعاً على شكل ملائكة تقطر وجوههم بالعافية، فما كان يرسمه كارافاجو هو التحدي المعلن ضد سلطانهم ورغباتهم. رسم لوحته الشهيرة (القديس متى) وهي تمثل شخصية هذا القديس في حال بائسة مقرفصة دامية، الأمر الذي جعل رجال الدين يرفضونها بكل غضب، فقال أحد مؤرخي عصره "هذا الوجه الكئيب للرجل القابع على ساقين معقودتين مشوهتين والذي مد قدميه العاريتين بوجه الجمهور... لا يدل على الإطلاق أنه يتمتع بكرامة القديس ومظهره". أما لوحة (موت العذراء) فهي الأخرى تنطق بالألم والشقاء وتتميز بتعبير عميق عن الحزن ورفضت ايضاً واعتبرتها الكنيسة عاراً، لأن الفنان لم يحط العذراء بهالة من الاحترام والتبجيل اللائق بها، فالمرأة التي رسمها كارافاجو كانت امرأة عادية من سائر بني البشر، حيث اتخذ من جسد فتاة منتحرة في نهر التيفر نموذجاً لرسم العذراء.

يمتلك كارافاجو احساساً عيمقاً بالأخلاقية الدينية المتنورة. فهو في لوحاته يغور عميقاً من دون ارتجال، بل بالاعتماد على المقاييس الهادئة الحساسة من أجل تحقيق شهادة حقيقية وعميقة المشاعر للظروف التي تشير إليها الموضوعات المختارة، حتى وإن تكرر على سطح اللوحة الواحدة ثلاث أو أربع محاولات، وهذا ما يميزه عن فناني عصر النهضة، فهو لم يعد اي مخطط أول للوحاته. إذ يتضح من الأبحاث التي أجريت على لوحاته بواسطة أشعة أكس أنه كان يرسم دون تخطيط أولي فهو يرسم ما يتصوره مباشرة.

إن قوة عمل كارافاجو لم تأت من خلال تقليد الأشياء الطبيعية ومحاكاتها، وإنما من خلال إظهار ما تمتلكه هذه الأشياء من جوانب متعددة تظهر واقعها الأصيل المبني على الصدق ونضج التفكير ووقاره ورغبته في تمجيد الشكل البشري. وما قدمه في أغلب أعماله التي رفض من خلالها التانيقية والسطحية المجردة يعد تحدياً لعصر لا يحتمل هذه اللغة.

إن استخدامه للمساحات الكبيرة والفراغات المظلمة المملوءة بالسطوح المجسمة يسبر غور الحياة في غناها الحسي القتامة والجلاء والضوء اللامع والظل العميق. إن تلك المساحات الخالدة مثلت الحركة الديناميكية بكل جوانبها.

ميخائيل آنجلو ميريزي (1573-1610) الذي سمي بكارافاجو انتسابا الى المدينة الصغيرة التي ولد فيها بالقرب من مدينة بيركمو في الشمال الايطالي، شد رحاله الى روما بعد ان درس الفن وامتلأت حياته بالمتاعب والشجارات والمشكلات فأصبح في مقدوره التكيف مع أجوائها الفنية الصاخبة، وشرع في إبداع روائعه التي اعتبرت ثورة في عالم التصوير. وما إن أشرف القرن السادس عشر على نهايته حتى انهالت عليه الطلبات من جميع الجهات لرسم العديد من الواجهات الداخلية. فاستخدمته إحدى الكنائس لتنفيذ بعض الأعمال، إلا أنها سرعان ما اكتشفت بأن عمله لا يتلاءم والتوجهات الدينية فتركته متشرداً جائعاً في شوارع روما القديمة، إلا أن عمله في كنيسة سان لويجي دي فرانشيسي التي كانت تحتل موقعاً متميزاً في روما انهى هذا التشرد الذي دام فترة طويلة. ولكن لوحاته لم تكن موطن إعجاب القساوسة الذين وصفوها بالعامية وبأنها لا تستحق ان تعلق في بيوت الله. كان شجاعاً في عمله وحياته حتى وصلت شجاعته تلك الى العنف والقتل لكي يدافع عن نفسه. وعلى رغم عبقريته إلا أنه لم يستطع التخلص من عصبيته فكان يستل سيفه لأتفه الأسباب ويدخل في مشاجرات ومبارزات، ففي عام 1600 كانت أشهر معاركه مع الرسام ماركو توليو وبعده بعام جرح بسيف أحد الأشخاص وفي السنة التالية اتهم بكتابة ونشر العديد من المقالات العنيفة فأوقفته السلطات الكنسية وأحالته الى القضاء إلا أن السفير الفرنسي تدخل لإطلاق سراحه.

حوكم أربع مرات ما بين 1603-1605 بتهمة القتل، إلا أن القانون كان من الضعف الى الحد أخرج كارافاجو من السجن لقاء رشوات دفعها بعض أصدقائه. في عام 1604 تشاجر مع نادل في إحدى حانات روما واتهم بالاعتداء على أحد أفراد شرطة البلدية فزج به في السجن بسبب خلافه مع (لورا) التي رسم وجهها في العديد من أعماله الدينية. وفي سنة 1605 دخل معركة مع أحد مسجلي العقود الرسمية فجرحه جرحاً خطيراً ما اضطره الى الهرب الى مدينة جنوه الإيطالية الشمالية. وسرعان ما عاد بعد فترة قصيرة ليقدم عريضة يطلب فيها العفو، وما ان يحل عام 1606 حتى يدخل معركة أخرى قتل على أثرها أحد الرجال فيهرب كارافاجو وهو يحمل جرحاً خطيراً في رأسه الى مدينة نابولي ليسطع نجمه الفني من خلال ما أنجزته ريشته من لوحات فنية في الكنائس.

وبعد ان اكتشف أمره غادر سراً إلى جزيرة صقلية ثم مالطا، إلا أن وجوده في مالطا لم يدم طويلاً إذ ان اهانته لأحد الفرسان المالطيين كانت سبباً في سجنه. ثم هرب من السجن الى جزيرة صقلية عائداً الى مدينة نابولي حيث جرح من جديد في مبارزة مع أحد الذين كانوا يقتفون أثره. غير أنه استطاع الهرب من جديد، حيث قضى فترة طويلة في البحر ووصل الى ميناء اركول فسجنته السلطات لمدة يومين بتهمة ملفقة، وهكذا توالت الأحداث العنيفة في حياته حتى مات جريحاً متعباً ويائساً ومتشرداً في الثامن عشر من شهر تموز (يوليو) 1610.




 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter