|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  20 / 10 / 2016                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



الثقافة والديمقراطية

موسى الخميسي  - روما
(موقع الناس)

تلح الاسئلة والتساؤلات، وهي تتصاعد اقرب الى الآهات، وزفرات الصدر المكلوم، حيثما التقيت بعراقي في وطنه ودول الاغتراب، حاملا همومه وهو يرحل. ماذا حدث، وكيف حدث، ولماذا نحن الضعفاء عاجزون؟

اسئلة تلح وتضغط منذ ثلاثة عقود، ولكن بعد السقوط المذل للديكتاتورية، فوجئنا جميعا بمشهد لم يعرفه العراق في تاريخة القديم والحديث، ولعل العالم لم يعرف له مثيل، يتمثل بذبح الوطن من قبل ابناءه.

نحن امام صدمة، لم تلبث تحرك ابصارنا جميعا صوب اضواء خافتة بدت في الافق، وبدل ان نسمع صوت الحرية، وهو الحلم الذي راودنا، تحرك حلف الاخوة الاعداء ليطلق غاراته ضد مكونات الشعب باسم الشعب نفسه، ليعلن حرب الابادة وليسّيطر اليأس والضياع على الساحة العراقية، وليظلم المكان، ويسود الوهم، ويخفت الامل، ليجلس الجميع على فوهة بركان اسمه الطائفية والحرب الاهلية غير المعلنة، وهي حقيقة ليست من قبيل الاستعارات والتشبيهات اللغوية، فلم يكن من المنطق ابدا ما حدث في سقوط النظام الديكتاتوري السابق، وما تلاه من احداث، وما رافقها لحد هذا اليوم من سيادة التهادن والتسويات المشبوهة، ومن ثم استبدال نظاما دمويا بخلق اوضاع اشد دموية، يصاحبها حركة نكوص اجتماعي عام، لنجد امام اعيننا من افلست تجاربهم ولم يجدوا ما يحققون به احلامهم السوداء ومصالحهم الدنيئة، يتبنون الاجندة الاجرامية التي تبنوها سابقا من خلال تدمير البنية التحتية للمجتمع باكمله، ليطلقوا حيوان الارهاب الذي عرف بدمويته الذي امتد الى دقائق وتفاصيل حياتنا الصغيرة ،واكتسب تكامله وشموليته بمرور الزمن، ليوضحوا لنا جميعا ومن جديد بان الارهاب ليس موضوعا عرضيا في حياتهم بل هو الجوهر الثابت في ثقافتهم.

لم يقبل الشعب العراقي شيئا من هذا، ولاهضمه العقل العراقي الجمعي ان جاز هذا التعبير، لن تقبل كل مركبات الشعب لا هزيمتها ولا كل ما تلاها من تراجع وانحسار، لانها كانت تعلم ان كل مقومات الانتصار، المادية والروحية قائمة ومتوفرة، وان الهزيمة لا يمكن ، ولا يجوز ان تكون عابرة. ومن هنا جاءت الاسئلة الحائرة، والقلق، ومشاعر الازمنة، ومن ثم جاء الذبح الحقيقي للانسان العراقي الذي اصيبت بالفشل جميع الحلول امامه.

نعم ،الكل فشل، والكل انتهى الى سراب،الحركات والاحزاب والقوى السياسية ، قوة الاحتلال الغاشمة، فنحن في ازمة، وعقولنا في ازمة، والديمقراطية والارهاب سؤالان ينطلقان من واقع وتاريخ ويشيران الى واقع وتاريخ بديلين. لاينطلق السؤال في وحدته الجدلية من ترف الثقافة او تعالي الفكر، بل يطرحهما الواقع العراقي في خصائصه المشخصة الراهنة. يطرحهما الواقع العراقي المهزوم والمأزوم. ويعيش غيابهما ويشير الى نتائج هذا الغياب المدمر، ويعيش مثل هذا الغياب في الوقت نفسه، اولا الانسان العراقي المنفي داخل بلاده ، والمنفي خارج الوطن.

والسؤال عن الثقافة والديمقراطية ، يعني الحديث عن القمع الذي تمارسه المليشيات الدموية، وما اوجدته من عنف وعسف لحق بالمواطن العراقي، والتي ما انفكت تسفك دماء العراقيين الابرياء اما بدافع طائفي او لاسباب سياسية ،يضاف الى غياب السلطات الحاكمة المتزامن مع غياب قوات الاحتلال، حيث تتفكك بناءات الدولة وتنحسر لمصلحة انبعاث العصبيات العشائرية والقبلية ، ويترافق ذلك مع انحسار مريع في مستوى الثقافة والتعليم وتبدل اتجاهاته بشكل جذري، لترتد الى ثقافة صفتها الرئيسية الجمود الفكري ومنع الاجتهاد وفرض قوالب فكرية بعيدة عن العقلانية، لتصبح ثقافة الاصوليات الدينية الصاعدة على حساب ثقافة التقدم والعقلانية والديمقراطية. ويستلزم رؤية العلاقة بين انسان وشرط اجتماعي، العلاقة بين واقع الارهاب والانسان الذي يتسلط عليه مثل هذا الارهاب ووسائل القمع اليومي المتعددة التي ترافقه. فالانسان المقموع داخل هذا النفق الضيق المظلم الذي لا تلوح في اعماقه اشارة تدل على نقطة ضوء في نهايته ، يمكنه طرح سؤال احادي الجانب يبدأ باسباب تدمير انسانيته، وهزيمة الديمقراطية، التي تحولت الان الى موضع رهان تغييري، تعني عدم تأمين الحقوق والحريات الفردية والجماعية، وامكانية وممارسات وتوفير الضمانات الحقيقية لصيانة هذا الانسان والدفاع عنه كوجود ومعتقد، واتاحة الفرص له ليشارك في اختيار السلطة السياسية وايضا بمساحة دوره في تشكيل هذه الديمقراطية ومنطلقاتها العامة.

في دولة مثل العراق حاليا يكون الارهاب شاملا، فانه يلغي الفرد والجماعة، ويحكم حركة الدولة في جميع مستوياتها الثلاث: السياسي والاقتصادي والانساني ،حيث ينزع الارهاب اليوم الذي تقوده القوة الحقيقية التي كانت تحكم البلاد وهي الميليشيات الدموية، الى تدمير الانسان والغائه بفكره وحركته، وبالتالي الى الغاء الاسئلة والبحث والفضول وتفتح الشخصية. وفي سعي هذا النموذج الاستبداي السائد حاليا يصار الى تدمير المجتمع والثقافة والانسان، والى استضعاف الدولة وتغييبها كعامل منظم ومعقلن للاجتماع البشري، فعندما تقوم الفصائل الدموية التي اعادت تنظيماتها او تلك التي تشكل واجهة احزاب السلطة الحالية، فانها محمومة بتثبيت سلطتها على اساس واقع تنافسي ، وهي تثبت هذه السلطة كحقيقة حيث يتضمن بحثها المستمر عن كل الادوات والوسائل التي تستطيع ان تلغي كل ما عداها.

شكل الثقافة هو وظيفتها، اما الشكل والوظيفة فيتحددان باصولهما وارتباطاتهما، وبالسياسة التي تمارسها هذه "الاصول" المذهبية، وسلطات قمعها وارهابها للاخر الضعيف ، وخاصة المنتمي للاقليات الدينية والقومية والاثنية ، فهي تنسلخ في سيرورتها المذهبية والعقائدية عن الشعب والوطن، كي تصبح في مطافها الاخير سلطة موجهة في كلها واجزائها ضد الشعب والوطن، واذا كان هذا هو حال سلطة الميليشيات فان ثقافتها لا يمكن ان تكون الا صورة عنها، واداة لها وجلادا وسوطا وسكينا يسلط على رقاب الناس .

ان مثل هذه الثقافة تصبح (وهذا هو الحال الآن) نفيا للثقافة الحقيقية والغاء لها، وتستحيل الى اداة تضليلية وتبريرية تطمح الى انتاج اثر معين في ادراك المواطن وسلوكه. مثل هذه الثقافة تلغي الشعب، وتؤله سلطتها، لكن الشعب بكل مكوناته السياسية والعقائدية والقومية والاثنية لا يلغى ، والواقع يظهر دنس هذه التجمعات وانحطاطها . ان استحالة معادلة هذه الثقافة الطائفية يجعلها تتخذ من القتل والتضليل قاعدة ومن التزوير والوهم والكذب منطلقا. فهذه الثقافة لا تعرف الحقيقة الا حقيقتها الوحيدة، وهي حقيقة تسلطها الذي يعدم كل حقائق الاخرين. وفي غياب الحقيقة يصبح دور الثقافة تضليلي، ليغرق الناس في مناخات تبشر بالعبودية والعودة الى الماضوية، والقدرية، واللاعقلانية، والهروبية، وبالتالي فقدان الهوية الوطنية، وهكذا تكمل مثل هذه الثقافة عمل ما خلقه جلاد الشعب وحزبه طيلة ثلاثين عاما، فتمنع حركة الفكر، وتمنع في الوقت ذاته كل ممارسة وطنية، لتدور ثقافة التضليل في مدارات الارهاب وقمع الاخر، وتسود قوة الجزء الهامشي الذي لا يمثل الامة ولا ينتمي الى تاريخ الوطن، اي ان ثقافة القمع هي ثقافة "جزء" تتعارض مصالحها وطموحات اصحابها ونزوعاتهم مع مصير الشعب بكل مكوناته.

امام ثقافة التضليل التي تقودها الطائفية المقيتة، تقف ثقافة اخرى، ثقافة تتصدى وتدافع عن خصائصها التي تناقض خصائص الثقافة الاولى من البداية حتى النهاية، تقف الثقافة الديمقراطية كتعبير عن مصالح الشعب ومصالح الوطن، وكمدافع عن الفرد والقيم الانسانية والوطنية، وكراية تبشر بالعقلانية واحترام العقل والانسان. الثقافة الديمقراطية في طموحاتها السياسية هي ثقافة التغيير التي تصنع تاريخ الوطن ارتقاءا وتعيش الحركة التاريخية صعودا، وتربط بين مصالح المواطن والشعب والوطن في مسار يبشر بالحرية والتقدم، فهي صوت العقل والتنوير الذي يتصدى لكل اشكال الثقافة الطائفية الغيبية التي تهدف الى التدمير. انها فضاء للابداع والتفتح وهي بهذا متميزة، لانها تنطلق من تاريخ الشعب ونضالات احزابه التقدمية وحركاته الوطنية، لا تتوارى بستار الماضي ولا الى مستقبل غيبي ولا تخلع الحاضر من حاضره وتمايزه لتلقي به في مكان وزمان هجينين، انها ثقافة التغيير واداة للتنوير ووسيلة لمحاربة كل اشكال السكون والثبات والعطالة والاستسلام، الثقافة الوطنية الحقة لا تنزع نزوعا ذهنيا او تجريديا او طموحا نخبويا. نحن ندافع عنها بسبب تركيزها دور الديمقراطية الحقيقية في انجاز مهماتها الوطنية، فالديمقراطية ليست صفة خارجية او قواما متعاليا بل انها جزء محايث لعملية التحرر وعنصر جوهري في هذه العملية.

ان ربط التحرر الحقيقي بالديمقراطية يضيء من جديد المعنى المتعدد الابعاد لمفهوم الديمقراطية، اي مشاركة الشعب في عملية التحرر، وبالتالي الدفاع عن مجمل الشروط الاجتماعية التي تؤدي الى تحرر حقيقي للفرد والمجتمع والوطن.

ولما كانت سياسة القمع والارهاب تناهض الثقافة وتعمل على الغائها بالمعنى الابداعي والنقدي، فان الممارسة الثقافية الديمقراطية بدورها تناهض سياسة الارهاب وتناضل من اجل خلق نظام سياسي جديد،، اي تحاول انتاج اثر ثقافي نقيض واثر سياسي نقيض ايضا، وهناك شروط وصيغ وقنوات وتوسطات تسمح لمثل هذه الثقافة ان تلعب دورا حقيقيا في محاربة الارهاب والطائفية وقمعهما. يتحدد الاثر الثقافي رغم خصوصيته في الحقل السياسي، اي ان الفعل الثقافي لا يأخذ معناه ودلالته الا بارتباطه بالممارسة السياسية الديمقراطية.

بعد هذا نصل الى نتيجة اساسية : كل ثقافة وطنية هي ثقافة ديمقراطية، وان الثقافة الديمقراطية الليبرالية هي الثقافة الجديرة باسم الوطنية لانها في منطلقاتها ونزوعاتها وآثارها تدافع عن الشعب، فهي البديل الذي لا يعرف لعبة المساومات والتزوير وهتك الاخر، ترى بان الارهاب زائل والعتمة عابرة والحقيقة ضرورية وساطعة ابدا. الثقافة الليبرالية ،قادرة اكثر من غيرها على قراءة الواقع وايجاد مفاتيح الخروج من الازمات،فهي تسعى لتحقيق مواصفات الوطن الذي لاتتسّيد فيه احدى فئات هذا الشعب، او جماعة منه او احد الاحزاب السياسية او زعيم، او قائد او رئيس عصابة، لان كل هؤلاء يزعمون باطلا عن حق او منصب او وظيفة، ينبغي ان تؤمنّها قوانين الدولة وحقوق المواطنة الصادقة.

انها ثقافة تريد عراقا للجميع، عراقا يكون ملجأ حقيقيا للانسان العراقي اينما كان، وان يكون هذا الانسان اعلى من كل انتماء او مرجعية، فقيمته البشرية الانسانية هي قيمته الوحيدة والمطلقة، وكرامته الوحيدة والمطلقة تتحقق بحصوله على كل حق ايا يكن هذا الحق، وهو يحيا في عراق جديد حياته الفردية ويفكر بافكاره، ويعلنها على الملأ بديمقراطية وحرية ومساواة، ولا يكون هناك وصيّا عليه، ولا احد يجبره على ان يتأطر في كتلة وطائفة مغلقة لتصادر حريته وتسلبه حقوقه وتنتقص منه.

ونحن في عصر التحولات الجذرية الهائلة الكاسحة،ترتبط الديمقراطية والثقافة العلمانية بعلاقة جدلية،اذ لا ديمقراطية فعلية في غياب ثقافة علمانية، ولا علمانية ليبرالية فعلية خارج اطار الديمقراطية، ذلك ان العلمانية في جوهرها مسألة سياسية لا مسألة دينية، مما يعني انها مسألة تتبع للدولة وليس للدين، وبالتالي يستحيل قيام دولة حديثة من دون تحقيق العلمانية، وان الحرية الدينية الحقيقية لكل مكونات الشعب العراقي تتفتح في ظل العلمانية وتصل الى اقصى مداها، وفي ظلها يستعيد الدين بعده الروحي ودوره الفاعل في الحياة الاجتماعية، الا اننا وللاسف الشديد لا تتمثل محنتنا كمثقفين ليبراليين في عسر ايصال خطابنا الى الآخر فحسب، ولكن بسبب المحنة الاخلاقية المتمثلة في اليقين المتزمت والمسبق والذي يحمل الكثير من الوهم، عند العديد منا، كما هو الحال بيقين اليهود بانهم وحدهم شعب الله المختار.

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter