|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  1 / 4 / 2016                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



وداعا للعبقرية البابلية
المعمارية العراقية زها حديد

موسى الخميسي - روما
(موقع الناس)

"عينان سوداوان يملأهما ذكاء خارق لواحدة من اكبر فنانات عصرنا الراهن " هكذا وصفت إحدى الصحف الإيطالية، المعمارية المستقبلية العراقية زها حديد ـ غيّبها الموت، يوم أمس، عن 65 عاماً، جرّاء أزمة قلبيّة مفاجئة ـ العام الماضي بمناسبة افتتاح معرضها الكبير في صالة مركز الفنون المعاصرة الذي فازت بتصميمه عام 1998 وكان إحدى الثكنات العسكرية القديمة في أطراف العاصمة الإيطالية روما، والذي بدأ العمل فيه مطلع العام الجاري وانتهى العمل فيه قبل عامين، ليشمل على قاعات للعروض الفنية وبارات ومخازن للاعمال الفنية ، وقاعات داخلية للترميم ،بمساحة 30 الف متر مربع تتقاطع فيه الانسيابية التقليدية المألوفة، وتنمحي فيه أساليب العلاقة التقليدية بين الداخل والسياق الخارجي .

ولدت في مدينة بغداد عام 1950 ودرست علوم الرياضيات في الجامعة الأمريكية ببيروت ثم التحقت بالدراسة الجامعية في بريطانيا تحت إشراف (الكولهاس) وحصلت على شهادتها في الهندسة المعمارية في جامعة
Architecture Association في لندن 1977 ثم عملت بعد تخرجها في مكتب عمارة الميتوبوليتان مع عملها كمعيدة في كلية العمارة وأستاذة زائرة في ابرز جامعات العالم منها هارفرد وشيكاغو وهامبورغ واوهايو وكولومبيا ونيويورك.

خصصت عدة مجلات إيطالية متخصصة بفن العمارة والتصميم ملاحق خاصة عن فن زها حديد الذي يتميز بالحداثة والعنف وعدم التوازن في الاشكال، واستخدامها الخطوط الهابطة والأشكال الجيوميترية بما ينسجم مع أفكارها الهندسية، لتجمع هذه الصحف على انها ابنة العباقرة البابليون الذين وضعوا أسس أول حضارة في التاريخ الإنساني. هذه العبقرية الفذّة ،طرحت نفسها كواحدة من أشهر المعماريّات في العالم، وأكثرهنّ حضوراً على ساحة الهندسة المعماريّة العالمية خلال السنوات الأخيرة.

أشكالها وألوانها في المفروشات واللوحات والموبيليا والأدوات المنزلية التي تقدم تصاميمها لكبريات شركات التصنيع في العالم الغربي، تحمل منهج جديد في فن العمارة يطلق عليه تيار التفكيكية الذي يتجاوز تيار ما بعد الحداثة، يقوده عدد قليل من أساتذة العمارة العالمية من أمثال ، كوب هيملبلاو، اينمان، كيري، كولهاس، تشومي، ليبسكيند. وهذا التيّار يقوم على رفض النظام الخطّي للهندسة المعاصرة. ربّما هي بهذا المعنى، وإن جاز القول، تشكّل معادلاً معمارياً لما قام به فلاسفة "التفكيكية" في حركة الفكر والفلسفة المعاصرة. إذ ينظر المنهج التفكيكي الذي يحمل تأثيرات الطراز الإنشائي السوفياتي والذي ظهر في الثلاثينات من القرن الماضي، للفضاء الخارجي كمساحة لامتناهية ينصهر بها الرسم والنحت في بودقة العمارة لتخرج قيم تعبيرية لعملية الإنشاء، حيث تبان القيم الجمالية لأي بناء في النزعة التعبيرية للعلاقات الشكلية للحجوم والكتل والفراغات التي تبرزها المعطيات الإنشائية.

أبنية زها حديد المثيرة للجدل والتي تعتبر ابرز الصرعات التجديدية ذات الأشكال والسطوح المستطيلة المنحرفة التي تعتمد أحيانا على التشويه والتجزئة، والمقاطع المتعرجة، والتي تقطع الرؤيا الانسيابية والانسجام والاستقرار الظاهري المتعارف عليه، تحمل قطيعة مشوشة لما يربط الشكل الخارجي بالداخل ، وتقترب الى أفكار الأسلوب التكعيبي،كما انها لا تخلو من غرابة الشكل وتوجسه محملة بالأسمنت والزجاج والمعادن.

عمارة زها حديد تحمل إبهار كبير بالنسبة لكل المعماريين في العالم لاتمت بأية صلة للعمارة التراثية التي تشكل خلفيتها العمارة الحديثة التي أنتجها عدد من الأمريكيين أمثال لويس خان وفنتورا ورايت.. الخ ، او العمارة العراقية الحديثة التي برزت مع جيل من المعماريين البارعين أمثال رفعت الجادرجي وهشام المدفعي ومحمد مكية ، بل ان عمارتها تمازج رائع بين الحلم والحقيقة، بين الخيال والواقع، والتجريد الزخرفي الذي لا يحده الإطار المحدد للسطوح كما هو متعارف عليه بالعمارة التقليدية. فنها هو عالم المتناقضات الذي تتكسر فيه المجسمات كما هو الحال في الصور الفوتوغرافية والمجسمات البلاستيكية لابرز أعمالها في قاعات معرض روما مثل مبنى بيك كلوب في هونك كونغ، ومركز الفن والإعلام في مدينة دوسلدوف في شمال ألمانيا، ونادي الذروة في كولون بألمانيا، ونادي مونسون بار في اليابان، والمتحف الفني في سينسيناتي في الولايات المتحدة، وتوسعات مبنى البرلمان الهولندي في لاهاي، ومرسى السفن في مدينة باليرمو بجزيرة صقلية، والمسجد الكبير في مدينة وولفسبورغ، ومتحف الفنون في الدوحة وجسر ابو ظبي ، وصالة أوبرا كارديف، ومركز إطفائية فيترا في ألمانيا التي استعملت فيها الأشكال المتعددة الجوانب والركائز المثلثة التي تبدو وكأنها تتطاير في الجو. اضافة الى البناء الضخم المركب في ساحة «الونغ داموم» في ســيول وهي من أكــثر ساحات العاصمة الكوريّة الجــنوبيّة حركة ونشاطاً، كذلك المسبح الأولمبي في لندن، وأوبرا «كانتون» في الصين، وعشرات الاعمال البنائية والتصميمية في جميع انحاء العالم.

اللوحات الفنية والمفروشات والتصاميم والموبيليا وكل ما تلمسه يد هذه العبقرية التي تقول (المساحات ليست بالضرورة بحاجة الى جدران لتعليق اللوحات عليها، يمكننا، لا بل يجب علينا ان نخرج من الغرف التي هي أشبه بالعلب ذات الزوايا التسعين درجة) فالمساحة وكيفية معالجتها ينحصر في القيمة التعبيرية للإنشاء وعدم التخلي عن الجوانب الوظيفية.

نظرية العمارة عند زها حديد تعتمد كما يبدو من أعمالها على تداخل العلوم والتطورات الأخيرة في التكنولوجيا والعلوم الإنسانية الأخرى والتي دفعت العمارة بعيدا عن النطاق التقليدي لتظهر الى الوجود كظاهرة اجتماعية وتاريخية محددة تستجلي القوانين وأنماط السلوك التي تتحكم في هذه البنية، فهي ترى بنية العمارة ونظامها يملكان مقومات وعلاقات غير محددة تتداخل في عملية التفاعل لتكون نتيجتها النهائية تحويل المادة الخام الى جسم لكيان مادي معاصر قادر على التفاعل مع ناس هذا العصر. فالشكل المعماري يخطو ذاتيا بخطوات حرة غير مستند بالضرورة الى العوامل التي ولدته على ضوء حاجة اجتماعية معينة. ولهذا فان زها حديد ترفض التقاليد الموروثة في العمل المعماري على اعتبار ان عملية توليد شكل جديد تبع من حاجات جديدة مختلفة لان لكل عمارة دور تؤديه وعصر تنتج فيه.

كفي أن نذكر، مثلاً، أنَّها أوّل امرأة حازت جائزة "برايتزكر" (التي تعد بمثابة "جائزة نوبل" في الهندسة المعماريّة) في العام 2004، كما أنّها أوّل امرأة في العالم تحوز "الميدالية الذهبية"(2015)، وتمنحها "المؤسسة الملكيّة للمهندسين البريطانيين"، التي قالت عنها رئيستها جين دونكين، في حيثيات منح الجائزة: "تشكّل زها حديد قوّة رائعة ومؤثّرة في سُلّم الهندسة العالمي"، فعملها، والكلام لدونكين، "على كثير من التجريبية، كما على كثير من الصرامة والتطلب".

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter