|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  13 / 3 / 2020                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

كنيسة رسمية للطغاة واخرى للفقراء
(2)

موسى الخميسي / روما
(موقع الناس)

مع هبوب رياح الثورة في اوربا الرأسمالية، في الثمانينات من القرن الماضي، هبت رياح الهجوم العاتي على الكنيسة الكاثوليكية ورجالاتها، الذين صاروا رمزا لكل فساد وسوء طوية وضلال. صار رجل الدين، وخاصة المسيحي الكاثوليكي، هو مصدركل خراب . وصار وعظه بملكوت السموات للأعين حرفا لجهود الناس عن آلامهم الواقعية، وتضليلا لهم عن نضالهم بضرورة بناء عالم تسوده الكفاية والعدالة الاجتماعية، وتنتفي منه اشكال العسف والاستغلال الاقتصادي والسياسي. ومن المعروف ان الثورة الفرنسية عام 1789، دشنت عهدا او مرحلة جديدة بدأت باضطهاد حقيقي لرجال الاكليروس الذين نظر اليهم كحلفاء لنبلاء النظام القديم، الملكي الاقطاعي، وكمسّوغين لفساده واضطهاده، بالاضافة، طبعا، الى تصويرهم كمصاصي دماء الشعب ومستغلي فلاحيه وحرفييه وقواه المنتجة ومناهضي حركة التقدم الضرورية للمجتمع الجديد، الذي ستقوده الطبقة الرأسمالية الصاعدة، بنظرتها الكونية المنفتحة على العالم وعلى العلوم الجديدة، والاكتشافات والاستثمار، وفي النهاية، الاستعمار.

من يقرأ التاريخ الفكري والسياسي الاوربي خلال القرن التاسع عشر وبعض من القرن العشرين، يدرك جيدا حجم الهجوم الكبير الذي انصب على الكهنة والاساقفة، وعظم الحركة التي تمكنت ، عمليا، من دفع الكنيسة كثيرا الى الخلف، وفي اجبارها على التراجع والتقهقر، وحتى غير المنظم منه، بحيث غدت البابوية، وهي التي كانت تعيّن الملوك وتتحكم بمعظم اراضي القارة الاوربية تحكما مباشرا، بحاجة الى ان ترضى بجزء صغير من مدينة روما كمقر لمركزها وادارتها ودولتها، يطلق عليه اليوم اسم دولة الفاتيكان.

كل الاراء التي تستجيب للتطور التاريخي للمجتمع هي آراء ثورية ما دامت تعيّ تلك المرحلة، وتحاول تجاوزها تأريخيا نحو الافضل، وهي ثورية مادامت تسعى، وتتوخى مصلحة الأغلبية. والفكر الرجعي السلفي يظل بمثابة تمثيل واستعادة للزمن الذي لم يعد له وجود في حياة تلك الاغلبية من الناس. وما بين الثورية والرجعية، ما بين زمن مرتبط بوعي الانسان للحياة وآخر يعتمد الهلوسة والأخيلة، ومصالح قلة من الناس. اثيرت في تلك الفترة التاريخية، عاصفة جديدة ما فتئت بدعاويها على سطح الصحافة الايطالية والعالمية لتدحض كل منها الاخرى، ورياح هذه العاصفة الجديدة تمتد الى زمن الخمسينات من القرن الماضي حين اعلن البابا بيّو الثاني عشر" باجيلي" فتاويه ضد الشيوعية، حيث اشتملت تلك الفتاوي على مجموعة كبيرة من المحرمات تصدى لها آنذاك قائد الحزب الشيوعي الايطالي" تولياتي" بهجوم ضد الكهنة الرجعية، وضد سياسات الفاتيكان التي تستند على جذر اجتماعي قوامه النزوع خارج حدود الواقع، والنفور من عملية التوفيق بين الحداثة والكنيسة.

وقد تقدم الأب" جوزيف راتسنجر"(الذي اصبح بابا الفاتيكان من الفترة ما بين 2005ــ2013) بوثيقة اعلن فيها حربه على الماركسية، ووصفها بانها" عبارة عن خجل كبير يحمله عصرنا الراهن" كما رفض بوثيقته إشراك الكنيسة الكاثوليكية بالواقع السياسي مشيرا الى امريكا اللاتينية ولاهوت التحرر، كما ركز هجومه في وثيقته هذه على الأب " ليوناردو بوف" الذي سعى خلال السنوات العشر الاخيرة الى خلق التحول في فهم اللاهوت والحرية، وامكانية البحث عن اشكال جديدة للتعبير عن العلاقات والتحولات الاجتماعية الجديدة في ظل واقع علاقات الانتاج التي تسود العالم الثالث وامريكا اللاتينية. وقد دعا الأب " ليوناردو بوف" الى أن تتخذ الكنيسة موقفا واضحا وصريحا ازاء المشكلات الاجتماعية الجوهرية لاوسع فئات المجتمع وهم طبقة الفقراء وحريتهم المفقودة، تستند على تعاليم جوفاني الثالث عشر الذي كان بابا الكنيسة الكاثوليكية في فترة الستينات ، والذي ألغى مفعول وثيقة المحرمات التي تعود الى البابا " باجيلي"، وطالب" الأب بوف" في ان يصبح اللاهوت واقعا معاشا وتطبيقا متحققا لدى الناس، الذين يسعون ويناضلون من اجل حريتهم، لا ان يبقى اللاهوت مجرد واقع نظري. واكد بان من طبق ذلك هم فقط المسيحيون الاوائل، وحركة سان فرانشيسكو الاصلاحية حيث زاوجوا ما بين اللاهوت والواقع العملي. واشار بانه لاتعارض مع الماركسية من هذه الناحية من خلال دعاويها واستنادها الى ظواهر الحياة الموضوعية، وتعبيرها عن الحاجات الملحة للتطور وانتقال المجتمع الى نحو التقدم. وساهم البابا البولندي الرجعي جوفاني الثاني بهذه الحملة بعنف، وصلت حد تحريم ممارسة الطقوس الدينية من قبل قسسة لاهوت التحرر، وفرض عقوبات " تأديبية" بعزلهم وابعادهم عن الكنيسة الكاثوليكية. اصبحت الكنيسة في الواقع كنيستان تقفان على ارجلهما من اجل الحرب، كنيسة الفقراء وكنيسة الفاتيكان اوكنيسة البابا، حيث وصف احد قادة الحزب الشيوعي الايطالي في مداخلة صحفية ما معنى ان تكون هناك كنيستان في الواقع الاجتماعي فقال " الكنيسة الاولى تعود للبابا وشلته وللقاذورات الاخرى وكنيسة ثانية، كنيسة الللاهوت والحرية والاخلاق، وما بين الكنيستين توجد هوة عميقة". ان الحملة الكبيرة لجمع التواقيع التي قام بها قساوسة لاهوت التحرر والتي شارك بها مئات الاساقفة قد حصلت على موافقة 300 منظمة كاثوليكية في عموم البلاد البرازيلية، وقد انظم الى تلك الحملة عدد كبير من الصحفيين والمثقفين والسياسيين والنقابات العمالية ومنظمات جماهيرية، وقد وصف العقاب المفروض على الاب " بوف" من قبل البابا بأنه" يأتي في وقت حرج جدا يمر به المجتمع البرازيلي والحضارة الانسانية، فهو عقاب للخضوع يحد من حقوق الانسانية في الحرية التي يقرها اللاهوت الانجيليكي".

اما الاب " بوف" الذي ألف 31 كتابا حول اللاهوت المتحرر والماركسية، كان اخرها كتاب" كنيسة آلهية والسلطة" والذي كان يشرف على اصدار جريدة يومية والذي اكد باستمرار على على عدم وجود تعارض ما بين اللاهوت مع دعاوي الماركسية في اسنادها للظواهر الحياتية وتعبيرها عن الحاجات الملحة للتطور وانتقال المجتمع الى مراحل متقدمة، صرح قائلا" أوضح بانني لست ماركسيا، الا اني اعيد مرة اخرى للاذهان بان الرسالة الانجيلية تميز بين الفقراء والطغاة على ضوء اقترابهم وتفضيلهم الى الرب، ان البعثة التبشيرية الكنسية يجب ان تكون من دون التباس او غموض، بعثة تبشيرية من اجل الحرية وسعادة الفقراء والمضطهدين، اقبل فترة الصمت المفروضة عليّ، لكن هذا العقاب المفروض سوف لن يحول دونه تقدمي نحو الدراسة والتعمق في اللاهوت المتحرر".


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter