|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  11 / 2 / 2019                                موسى الخميسي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ايطاليا تحتفل بذكرى رحيل
أديب صقلية الكبير شاشا الذي كان يفتخر بلقبه العربي

موسى الخميسي / روما
(موقع الناس)

تحتفل إيطاليا هذه الأيام بالذكرى الثلاثين لرحيل كاتبها الراحل الكبير ليوناردو شاشا (1921 -1989) الذى أولى اهتماما فائقا بأرضه صقلية التي احبها حبا جما وكانت ملهمته فى كل أعماله الروائية. فهي مرآة عكس من خلالها الوضع البشري بقساوة وألم شديدين. ونظر بوضوح وحياد الى عيوبها وآفاتها المتمثلة بعصابات الأجرام المنظم التي لا تزال تعكر صفو الحياة في دوامة من الجرائم والعنف. اخررسالة كتبها لاحد اصدقائه كانت بتاريخ 16 ابريل 1989 وجاء فيها "عزيزي دينو في الضعف الذي رددت اليه اجد ان الكلام عبر الهاتف يملأني عاطفة ولبسا. لاجل ذلك فانا اكتب اليك فقط لاقول لك باني لا زلت على قيد الحياة (؟). من العجيب انه لكأنني بافكاري اترصد مرضا هو دائما اكثر دقة ودائما اكثر حدة ، لكن لا يجدي معه نفعا.... " لم يفصح شاشا بطريقة مباشرة عن مرضه الذي صار عيشة من 'التحاليل والفحوصات" .

لقد تقابل مع واحد من اعز اصدقائه لاخر مرة، فيصف الصديق اللقاء :
(لقد اسرعت الى باليرمو لاعانقه ولقد تاثر مثل عادته. شهوره الاخيرة كانت كوميديا مؤلمة مثلما يحدث دائما، نحن نظن ظنا كاذبا بان بامكانه ان يتعافى وهو يتصرف كما لو انه غير مدرك لظننا الكاذب". لقد عاش شاشا الذي كان يفخر على الدوام بلقبه العربي (شاشا)، في بيئة قروية قريبة من مدينة اغريجينتو العريقة، قام باختبارات حياته الاولى، فاكتسب معرفة أساسية لواقع الجزيرة في فترة مضطربة من تاريخ إيطاليا التي شهدت الحرب العالمية الثانية وانهيارات نظامها الديمقراطي المسيحي. احدى صداقاته التي دفع الوفاء بها الاديب الايطالي انطونيو موطّا سنة 1990 الى انشاء "مركز توثيق ليوناردو شاشا" الذي جمع فيه رسائله، لقاءات صحفية، شهادات، صور، محاولات نظرية، مخطوطات لاعمال روائية، وكلها ان لم تكن غير منشورة فهي في طي النسيان ؛ بل ونجد الى جانب ذلك كلاما عن ايطاليا العهد الجديد "جوهرة البساطة" "كتاب يتحدث عن ايطاليا كيف كانت وكيف اصبحت.

عاشت صقلية طيلة تأريخها القديم والحديث أزمات محتدمة، القديم يتفسخ ويتحلل ومعه جنبا الى جنب تبدو وتتراكم نذر الجديد العاصف، وفيما أرادت المافيا استهلاك صقلية بالتقسيط، فأنها اصطدمت بالضحية تنظم نفسها وتقبل نزاع التحدي فى أعلى درجات الاستعداد.

بعد بضعة مؤلفات نثرية وشعرية يمكن اعتبارها من تمارين الشباب أمثال (خرافة الديكتاتورية) و(صقلية وقلبها) و(بيرانديللو وأسلوبه)، صدرت روايته التي أذاعت شهرته في البلاد ككاتب مقتدر ومتميز وهي (رعايا ريغالبيترا) عام 1956والتي توقف فيها طويلا على تحليل هوية أرضه المعذبة، اتسمت بالصرامة الأخلاقية .

تميزت أعمال شاشا التي توزعت ما بين الرواية و الدراسات الفكرية والتاريخية بتأثيرات الثقافة المحلية، والعودة الى التاريخ القديم وخاصة العادات والتقاليد العربية التى أبرزها في نواح عديدة من سلوك أبناء قومه. وقد كتب العديد من رواياته التى هي أشبه بالتحقيق، أبرزها (مجلس مصر) و(موت محقق) وتتسمان بلهجة فولتيرية ساخرة ولج من خلالهما في حياة المجتمع الصقلي وهادفا الى التعمق في معنى أحداث اليوم على ضوء الأحداث التاريخية القديمة.

له روايتان (يوم البوم) و(لكل إنسان ماله) افلح من خلالهما في الجمع والتوفيق بين الإدانة الاجتماعية والمدنية وبين وثبة الخيال. وكتب بعد ذلك مؤلفه الشهير (أعمام صقلية) أعقبه في بداية السبعينات (البحر بلون الخمر) وهما نوع من السرد التاريخي بأسلوب روائي.إلا انه في كتابه (الصافي) نراه يبتعد نهائيا عن عالم الخيال والأحداث التاريخية ليرمي نفسه في خضم الحياة اليومية وتفاصيلها الدقيقة ، راميا الى إخضاعها بصفاء وواقعية لغربال العقل المرتكز على الحكمة الساخرة والمريرة فى آن واحد. وقد ركز في كتاباته في الاخيرة من حياته ،أبرزها واشهرها (تودو مودو) التي نجد ان اغاتا كريستي هي التي الهمته في كتابه هذا الذي ترجم الى اكثر من اربعين لغة عالمية ، والذي قال عنه الروائي الراحل ايتالو كالفينو ''انها الرواية الضديدة للديموقراطية المسيحية التي كانت تنتظر احدا ان يكتبها" والذي (كالفينو) توقع من شاشا ذاك النفس الراديكالي: "تصوراته الايديولوجية هي عينها تصورات اليعقوبية (الفرنسية) ، تصورات ليبيرالي. اعني الشخص الطوباوي الذي لم يكن له مثيل في ايطاليا في زمننا هذا" . كان ذلك عام 1975 وبامكاننا ان نلاحظ بطريقة مانزونية: "هكذا كان العالم يسير، او على الاقل هكذا كان يسير في القرن العشرين" .

كان يكتب بحماسة ، في تحليل الإرهاب والأجرام المنظم مبتعدا عن أي منطق أيديولوجي مع انه ظل حتى النهاية قريبا من الأفكار اليسارية ومعترضا على العديد من مواقف الحزب الشيوعي الإيطالي، فشن حملاته الشهيرة لما اسماه بالسلطات الفاسدة، ورافضا كل أدوات الحكم بكل ألوانها السياسية.

كتب (موت مايورانا) و(قضية الدو مورو) و(اسود فوق اسود) و(الطاعنون بالخنجر) و(مافيا) و(الحبل المجنون) و(النطاق) فاعتبرت كتاباته امتدادا لكتابات بيرانديللو وتوماسو دي لامبدوزا في روايته الوحيدة والشهيرة (الفهد) حيث توصل الى قناعة باستحالة إصلاح التدهور الأخلاقي الذي تجاوز صقلية ليشمل كل إيطاليا.

صدرت له ثلاث مجلدات، تحوي رواياته وأبحاثه ومقالاته الصحفية التي اشتهر بها في صحيفة "الكورييري ديللا سيرا " الواسعة الانتشارعن جرائم المافيا ما بين عام 1978-1988 والتي اعتبرت اعنف محاكمات شنها كاتب إيطالي لمؤسسات النظام الحاكم .

كما نجد في بعض تعبيراته تاخير الفعل وجعله في اخر الجملة "يتامى تركونا" و "هذه الاشياء في الحين يرونها' و "جيدا يعرف بعضهم بعضا" . وايضا "انا شديد الانشداد باللغة العامية، واتكلمها دائما تقريبا. لكني وان توفرت الدواعي فلن افعل شيئا كي يعود الشباب الى استخدامها' . كان شاشا يقول على الدوام"لا كتبا كتبها رجال بل رجال كتبتها كتب" و شاشا المحاولات النظرية في الادب، وشاشا النقولات المكتوبة او المتلفزة وشاشا النقد الادبي "خارج الصفوف وعن الفرق المتصارعة".


جريدة الشرق الاوسط

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter