|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  28  /  7 / 2024                       محمد جواد فارس                            كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 حياة شرارة
الثائرة الصامتة

محمد جواد فارس *
(موقع الناس)

(حياة) و لدت بين غبار الطلع
و خطت فوق كتاب البردي
و ضعت حبات العنبر في النص الطيني
القت و لها تحت جذور الأرز المانع
أسرت دون وداع لقيافي الغيب الابدي
فلا تنسوها !

محمود حمد
شاعر عراقي - مقيم في الإمارات

استعرت العنوان من كتاب أعداد الرفيق الخالد الذكر خالد حسين سلطان ، وها انا الان اقرأ هذا الكتاب و الذي يتحدث عن حياة محمد شرارة زوجة المناضل الوطني الشيوعي الدكتور محمد صالح سميسم ابن النجف التي أنجبت الشهيد سلام عادل و حسن عوينة و محمد حسن مبارك و صاحب الحكيم ومحمد موسى التتنجي، كتبت اختها قيس شرارة و هي زوجة المعمار المعروف في العراق رفعة الجادرجي و هو الإبن للشخصية المعروفة في الاوساط العراقية و العربية كامل الجادرجي و هو رئيس الحزب الوطني الديمقراطي ، و جريدة الاهالي الناطقة بأسم الحزب ٠

دونت بلقيس شرارة عن حياة اختها تحت عنوان [سيرة حياة الفقيدة (حياة شرارة)] جاء في هذه السيرة التي كتبت كمقدمة للرواية التي كتبتها الفقيدة حياة (أذا الأيام أغلقت) ، جاء فيها عن مدينة النجف : فالنجف مدينتان ، مدينة الموتى و مدينة الأحياء، فمدينة الموتى لا تخلو من الأحياء القادمين من مدينة الأحياء و تستطرد عن مدينة النجف تعج الوقت جمعها التاريخية بالطلبة القادمين من جنوب لبنان و ايران و الهند لانتهال العلوم العربية و الإسلامية ، يستمعون اليها على شكل حلقات دراسية تحت إرشاد (علمائها الدنيين) ٠ وهناك جو اخر ازدهرت فيه نهضة ثقافية واسعة ، اذ صدرت عدت صحف ومجلات كان لها دور مهم في الدعوة للإصلاح الاجتماعي ك (الهاتف) و (الحضارة) و (الغري) و (البيان) ، وبرز فيها كتاب وشعراء اغنوا تراث العراق الأدبي مثل محمد مهدي الجواهري و علي الشرقي و جعفر الخليلي و سعد صالح ومن الجالية اللبنانية ظهر حسين مروة ومحمد شرارة و الاخير هو والد حياة وبلقيس و مريم ، و لدت حياة عام 1935 في حي المدينة القديم بالنجف وهي الابنت الثالثة لمحمد شرارة ، تقول بلقيس : كان والدي يؤمن بالمساواة التامنة بين البنين والبنات ولم يدع مجالا لسيطرت عقول مؤمنة بمفاهيم قروسطية، من التدخل في توجيه أبنائه و بناته وتربيتهم ٠ عانت حياة معنا بعد أن قضيتا الصيف في ربوع لبنان ، التحقت بالروضة بمدينة الحلة ، لم تكن تحب الذهاب إلى الروضة ، فقد رفضت الذهاب اليها مرات عديدة ، كانت تعيد نفسالجملة : الأطفال لا يتكلمون اللهجة التي نتكلمها، و تصر عليهم أن يتكلموا لهجتها ٠ تكتب بلقيس عن حياة : كانت حياة تجلس دائما في زاوية في غرفة الضيوف و بين يديها الصغيرتين دفتر تسجل فيه ما تستمع اليه في تلك اللقاءات الشعرية من قصائد جديدة ، ولن تكن تدري ان تلك اللقاءات كانت تمثل بداية (نشأة الشعر الحر) كان الجدل يدور حول تجديد الشعر و جعله حرا بلا قافية ، كان الشعراء يقرأون اخر ما نظموه من القصائد ، وكانت تتكرر اللقاءات الأسبوعية هي البذرة الأولى في توجيه حياة !ادبيا و سياسيا ٠ كان بدر شاكر السياب و لميعة عباس عمارة من المواظبين أسبوعيا على تلك اللقاءات ٠ وشارك بتلك اللقاءات محمد مهدي الجواهري و حسين مروة و نازك الملائكة و أكرم الوتري و بلند الحيدري ، و محسن الأمين ، كانت نازك تزورنا معظم الوقت بصحبة والدها صادق الملائكة و احينا مع أخيها نزار ٠

ومن ما تقدم نجد أن حياة تأثرت بثقافة سياسية وشعرية من خلال هذه التجمعات التي ضمت قامات شعرية و سياسية عراقية و من جنوب لبنان ، و هذا التأثير ضهر في شبابها و رسمت مستقبلها الثقافي و المعرفي ٠ و تشير بلقيس عن حياة انها حفظت معظم شعر بدر و لميعة و نازك ، و كانت تترنم بقصائدهم و هي لم تبلغ بعد سن الثانية عشرة ٠

و تستطرد و تكتب : كان عام 1948 , عاما مضطربا، مملوءا بالماسي، وقد شمل الغليان معظم البلدان العربية ، لخسارتهم فلسطين في حربهم مع اليهود ، و كانت تلك الخسارة بعد ولادة دولة (إسرائيل) ، بقرار من هيئة الأمم المتحدة، بمثابة كارثة على العرب ، و لم يكن الفكر العربي متهيأ لها يومذاك ، وما زالت أصداؤها سارية بعد خمسين عاما ٠ خرجت المظاهرات في شوارع بغداد ، تطالب بسقوط الصهيونية، و شملت جميع المدارس في العاصمة ، بما فيها المدارس المتوسطة و الثانوية ، ولكن لم يسمح للمدارس الابتدائية بالمشاركة فيها ، و تألمت حياة عندما عدنا من المظاهرة المنظمة من قبل الحكومة نقص عليها ما حدث ،و تمنيت لو سمح لمدرستها الابتدائية بالمشاركة أيضا ٠وهذا يدلل أن حياة رغم صغر سنها كانت تريد المشاركة بالتظاهر ضد اغتصاب فلسطين العربية من قبل الصهاينة المستوطنين ، هذه المشاعر و الرغبة لم تأتي من فراغ لان العائلة و خاصة الوالد محمد شرارة و توجهاته الفكرية كان ممن لديهم موقف حتى ضد التقسيم لفلسطين و الذي أقر في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة ، وكان لعصبة مكافحة الصهيونية و التي شكلت عن طريق الحزب الشيوعي العراقي ومن رفاق يهود عراقيين لها دور كبير بفضح الصهيونية و احتلال فلسطين العربية ٠ و في عام 1948 العام نفسه جرى التوقيع في مدينة بورت سموث البريطانية على معاهدة تربط العراق بقيود تمس بالسيادة الوطنية وهي قبول حكومة العراق بالقواعد العسكرية وقعها وزير الخارجية العراقية صالح جبر ، ومن المملكة المتحدة ممثل عن وزارة الخارجية و هب الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه حتى أسقط المعاهدة الجائرة ، و في معركة الجسر استشهد الالوسي و جعفر الجواهري شقيق الشاعر الجواهري و كتب قصيدة التي كان مطلعها ، أتعلم ام انت لاتعلموا بأن جراح الضحايا فمو الخ ٠ و أطل عام 1949 , و صادفت الذكرى الأولى للوثبة التي أسقطت معاهدة (بورتسموث) فأعلنت الأحكام العرفية ، و تم إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) ورفاقه ، و بدأت حملة اعتقالات واسعة في العراق ، لم يشهد لها مثيل منذ حركة رشيد عالي الكيلاني ، فحلت الأحزاب وعملت الصحف عن الصدور ، و اعتقل عدد كبير من مفكري وسياسي العراق ، وكان والدي و عمي مرتضى ممن شملهم الاعتقال ٠اختفى والدي وعمي مرتضى مع الكتب و الأوراق التي صودرت و اعتقلا في معتقل (أبو غريب) كان المعتقل يزخر بالمفكرين اليسارين ، من أمثال بدر شاكر السياب و الشاعر محمد مهدي الجواهري ، مع رجال الأحزاب المعارضة و روؤسائها وطلبة الكليات ٠

وهنا تسطر بلقيس لنا ذلك التاريخ السعيدي في محاربة الفكر التقدمي و الذي كان يدعوا إلى عراق برلماني فيه حرية لصوت الأحزاب الوطنية ، و الخلاصة من هيمنة الامبريالية البريطانية ، وقواعدها العسكرية ، و سيطرتها على النفط العراقي من خلال شركاتها الناهبة لنفط كركوك و حقوقها في التنقيب عن النفط في العراق ، كانت القوى الوطنية و في طليعتها الحزب الشيوعي العراقي و كذلك جماعة الاهالي في الحزب الوطني الديمقراطي بقيادة كامل الجادرجي ، الصوت الذي لن يسكت عن هذه التجاوزات ٠ و تنقلنا بلقيس إلى مشاهد من عملية اعتقال الطبيب الجراح الدكتور محمد صالح سميسم في عهد انقلاب تموز ومجيئ سلطة البعث ثانية بعد انقلابهم الأول في الثامن من شباط عام 1963 , و تكتب : سمع صوتا هادئا وقورا قائلا له : دكتور تفضل معنا للإستفسار عن بعض الأسئلة ، ولن تتأخر أكثر من ربع ساعة ، وتعود إلى دارك و عائلتك، كان هذا الأسلوب هو المتبع والسائد في إلقاء القبض على الفئة المتعلمة و المثقفين من الناس ، بكل أدب و دماثة، ، وعندما حاول محمد جلب أدوات الحلاقة و بعض الملابس الداخلية ، أصروا على عدم الحاجة اليها ، فعاد يجر قدميه بثقل نحو السيارة البيضاء ٠ ظلت حياة صامتة ، شاخصة بنظرها نحو السيارة التي ابتعدت تدريجيا ، ولم تسمع هديرها، واختفت عن انظارها، كما اختفى من بها ، عادت إلى غرفتها ، مخنوقة العبرات ، ولم يغب شبح زوجها طول الليل عن نظريها ، و تملكها قلق ممزوج بعجز غريب ، لا تدري ما يخبئلها الغيب ، فمصير من يلقى عليه القبض بهذا الأسلوب مجهول عادة ، وهو بيد جلادين لا يرحمون، وتبقى الأسئلة على الشفاه دون جواب ، هل سيعود و متى ؟ و ليس من جواب الا الانتظار وربما الانتظار طويل ٠ ولكن لم تستسلم حياة للضغط و لم تعرف القنوط و اليأس ٠

و استمرت معانات حياة حتى بعد أن عملت أستاذة في جامعة بغداد أستاذة الأدب الروسي في كلية اللغات، حتى انها كانت منهمكة أضافة للتدريس كانت تتدرب على استخدام السلاح ابان الحرب العراقية الإيرانية و رغم الحرب فانها كانت مجدة في انتاجها الأدبي و في التأليف و الترجمة من اللغة الروسية و كتبت مقالات عن الشعر والمسرح منها (تأملات في الشعر الروسي 1981) و (غريب في المدينة) و مسرحية (المفتش العام 1983) و (اذا الايام أغلقت 1987) و(تلك أيام خلت 1988) و (يسينين في ربوع العربية 1989) ٠

لقد عانت حياة الأمرين عندما قدمت و لمرات عديد منحها جواز و سفر و لكن تقول واخيرا حصلت على جواز سفر بعد مرور عشرة أعوام من الرفض المتواصل للطلبات التي قدمتها للحصول على موافقة بالسفر ٠

كتبت بلقيس شرارة بمناسبة مرور عشرة سنوات على انتحارها و ابتها مها مقالة من لندن اقتبس منها : مر عقد كان أول يوم من شهر اب عام 1997يوما محرقا بحرارته عندما غادرت حياة شرارة بغداد إلى الأبد، كان يوما هز كياننا و قيمنا ، واحرقتنا شمس الفراق بحرارتها ، ولم تخلف إلا الشهقة و اللوعة في استيعاب هول الخسارة ، كانت خسارة أنعكست ظلالها على محبيها وعملت حتى تلامذتها ، فوضعوا لافتة حداد في مدخل كلية الآداب، معبرين بها عن عمق الفقدان الذي سببه رحيلها عنهم لم نكن نعلم برحيل (حياة) عنا ذلك اليوم حتى المساء ، عندما لفتا الليل بعتمته ، وجمعنا زوجي رفعت الجادرجي في غرفة تطل على نهر التايمز في لندن، وقابلنا موجها كلامه لي و لشقيقتي مريم زوجها جيم : لقد جمعتكم هذا المساء لأخبركم بخبر مؤلم جدا بالنسبة لي و لكم ، وتوقف لحظة عن الكلام ، ساد صمت غريب ، آذان صاغية ، عيون محدقة، مالذي سيقوله لنا ! بلع رفعة لعابه ، ونحن بالانتظار!! احتسبت الكلمات بين شفتيه ، شعرت بمعاناته، أحسست أنه يحمل عبئا ثقيلا، لا يدري كيف يتخلص منه !! طال الصمت، ونحن لازلنا آذانا صامتة و عيونا محدقة ، ثم اردف بجرأة : توفيت (حياة) هذا اليوم ساد الصمت ثانية وهيمن الوجوم علينا ، انفلتت كلمتان من بين : سكتة قلبية ؟ لم يرد علي ، توقف قليلا متنهدا بعمق ، ثم استرسل في أكمال جملته ، لقد أنهت حياتها !! كما كما أنهت ابنتها مها حياتها أيضا !! ، و هكذا انتهت حياة (حياة وابنتها مها) بهذا الشكل المأساوي ٠

فقد العلم والثقافة و السياسة إنسانة احبها طلابها ومعارفيها و زملائنا من أساتذة الكلية لها المجد والخلود ، وتركت لها ما كتبته و ما ترجمته من الأدب الروسي ٠ انها حقا (حياة) الثائرة الصامتة الثائرة ٠

كل الشكر لمكتبة السدن لنشرها الطبعة الثالثة من كتاب خالد الذكر خالد حسين سلطان ٠

 

 * طبيب وكاتب
 

 

 

 

 


 

 

 

 

 

 

          موقع الناس .. موقع لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

             جميع حقـوق الطبع والنشر محفوظة لموقع الناس                                                              Copyright © 2005-2012 al-nnas.com - All rights reserved         

  Since 17/01/05. 
free web counter
web counter