| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الثلاثاء 8 / 10 / 2024 أ.د. محمد الربيعي كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
الجهلاء لا يدركون جهلهم
أ.د. محمد علي الربيعي *
(موقع الناس)
كيف اظهر لنا "تاثير دانينغ - كروجر" ان الجهلاء ليس لديهم ادنى فكرة عن مدى جهلهم.
يتساءل الفيلسوف الشعبي البارز ويليام باوندستون William Poundstone عما اذا كنا نبالغ في القلق بشان زيادة الجهل.
في هذا المقال، يجادل باوندستون باننا ربما لا نبالغ.
في فيلم حديث مثلت فيه ميريل ستريب دور امراة ثرية تدعي فلورنس فوستر جنكينز تعتقد انها مغنية موهوبة. كان الفيلم مستندا الى قصة حقيقية. كانت فلورنس فوستر جنكينز (1868-1944) عازفة بيانو معجزة في طفولتها، لدرجة انها قدمت عرضا في البيت الابيض للرئيس رذرفورد هايز. عندما اصبحت بالغة، حولت جنكينز اهتمامها الى الغناء الاوبرالي. بدات في تقديم حفلات خاصة في عام 1912، وكان غناؤها سيئا للغاية لدرجة انها اصبحت مشهورة في سن 44. وكان نخبة اعيان نيويورك يحضرون حفلاتها لمجرد سماع مدى فظاعة غنائها. كان غناء جنكينز الاوبرالي سيئ وغير متناسق ويشوه الكلمات الايطالية والالمانية.
هل يمكن ان تكون جنكينز غير مدركة لمدى سوء غنائها، او هل كانت تُدرك ذلك؟ لا يزال هذا موضع نقاش. من الواضح انها سمعت بعض جمهورها يضحكون عليها. اطلقت عليهم لقب الاوغاد والمحت الى انهم تم توظيفهم من قبل منافسين غيورين.
بلغت ادنى منزلة في مسيرتها المهنية في سن 76، عندما استخدمت ثروتها الكبيرة لحجز قاعة كارنيجي لاقامة اول حفلة عامة لها. حضر الحفلة مشاهير مثل كول بورتر وجيان كارلو مينوتي، وكيتي كارلايل. وكذلك حضر نقاد الفن في نيويورك، بسكاكينهم المشحوذة. كانت التعليقات الصحفية قاسية جدا. بعد يومين، اصيبت جنكينز بنوبة قلبية اثناء تسوقها لشراء نوتات موسيقية.
اليوم لدينا مصطلح لوصف سوء تقدير جنكينز لقدرتها الاوبرالية: تاثير دانينغ - كروجر.
سمي هذا التاثير على اسم عالم النفس في جامعة كورنيل ديفيد دانينغ وطالبه في الدراسات العليا انذاك جاستن كروجر، وهو يوضح ان الاشخاص غير الموهوبين، غير المهرة، او الجهلة يميلون الى الاعتقاد بانهم اكثر كفاءة بكثير مما هم عليه في الواقع. وبالتالي، يعتقد السائقون السيئون انهم سائقون جيدون، ويعتقد عازفو الغيتار المحليين انهم يمكن ان يكونوا نجوم روك، ويعتقد المليارديرية الذين لم يشغلوا منصبا عاما ابدا انهم سيكونون رؤساء رائعين. كم يمكن ان يكون الامر صعبا؟
وصل دانينغ الى هذه النتيجة من خلال قصة غريبة مثل قصة جنكينز. في 19 ابريل 1995، سرق ماك ارثر ويلر مصرفين في بيتسبرغ في وضح النهار. لم يكن لص بنك نموذجي، بدءا من حقيقة انه كان طوله 167 سم ووزنه 122 كيلوغراما. لم يرتد قناعا، والتقطت كاميرات الامان صورا جيدة لوجهه. اطلقت الشرطة اللقطات على الاخبار المحلية، وجاء تبليغ على الفور. بعد منتصف الليل بقليل، القت الشرطة القبض على ويلر في منزله في ضواحي المدينة.
"لكنني وضعت العصير على وجهي"، قال ويلر.
اوضح ويلر انه كان يعلم ان عصير الليمون يستخدم كحبر غير مرئي. لذلك، فان وضع عصير الليمون على وجهه سيجعله غير مرئي.
قال انه جربها! قبل السرقة، وضع ويلر عصير الليمون على وجهه والتقط صورة سيلفي بكاميرا بولارويد. لم يرى وجهه في الصورة، اصر على ذلك. يبدو ان ويلر لم يكن اكثر كفاءة في التصوير الفوتوغرافي من السرقة.
عيب اخر لعصير الليمون هو انه كان يلسع عيني ويلر. بالكاد كان يستطيع رؤية الصرافين في البنك، رغم انهم كانوا يرونه.
جعلت مغامرة ويلر كميزة لاغبى المجرمين في العالم. لفتت تلك المقالة انتباه عالم النفس دانينغ. راى شيئا عالميا فيها: "الشخص الغبي الواثق من نفسه هو شخص قابلناه جميعا". لذلك بدا هو وكروجر في محاولة توثيق هذا.
في احدى دراساتهم، ذهبوا الى مسابقة اطلاق النار على الاطباق الطائرة وطلبوا من عشاق الاسلحة اخذ اختبار سلامة الاسلحة النارية الذي اعدته الجمعية الوطنية للبنادق. بعد الاختبار، ولكن قبل معرفة نتيجتهم، طُلب من مالكي الاسلحة ايضا تقدير مدى ادائهم مقارنة بالاخرين.
من المدهش ان اولئك الذين حصلوا على اسوا الدرجات في الاختبار اعتقدوا انهم ادوا اداءا جيدا، افضل من حوالي ثلثي الذين تم اختبارهم. اما الذين حصلوا على اعلى الدرجات فكان لديهم فكرة اكثر واقعية عن مستواهم، رغم انهم كانوا يميلون الى التقليل من تقدير درجاتهم.
وفي دراسة اخرى اختبر علماء النفس طلاب جامعة كورنيل في مواضيع تتراوح من القواعد الى المنطق الى الفكاهة. طلب اختبار الفكاهة من المشاركين تقييم مدى طرافة النكتة من مثالين:
الاول: ما هو الشيء الذي بحجم رجل ولكنه لا يزن شيئا؟ الجواب ظله.
الثاني: سال طفل من اين ياتي المطر؟ الجواب هو ان “الله يبكي”. سال الطفل لماذا يبكي الله، والجواب هو “ربما بسبب شيء سيئ فعلته”.
يتفق معظم الناس على ان المثال الاول ليس مضحكا، بينما الثاني (وهو مقتبس عن كاتب الكوميديا التلفزيونية جاك هاندي) يعتبر رائعا. ولكن هناك شريحة من السكان غير قادرة على التمييز بينهما. اعتقدت المجموعة التي تفتقر الى حس الفكاهة انها افضل من معظم الناس في الحكم على ما هو مضحك.
نشر دانينغ وكروجر نتائجهما في ورقة بحثية عام 1999 بعنوان لا يُنسى: "جاهل وغير مدرك لذلك: كيف تؤدي الصعوبات في التعرف على عدم كفاءة المرء الى تقييمات ذاتية مبالغ فيها". منذ ذلك الحين اصبح ذلك جزءا من لغة علم النفس بل ومن الانترنت. جون كليز (وهو كوميدي مشهور) يعرف دانينغ شخصيا، قام بعمل فيديو على يوتيوب يشرح التاثير في 60 ثانية. يوضح كليز: "اذا كنت غير جيد تماما في شيء ما، فانك تفتقر بالضبط الى المهارات التي تحتاجها لتعرف انك غير جيد تماما فيه. وهذا ينطبق ليس على هوليوود فقط ولكن تقريبا على كامل قناة فوكس نيوز".
كما ينطبق على فلورنس فوستر جنكينز، المغنية ذات الصوت النشاز لكونها غير قادرة بطبيعتها على ادراك لماذا يختلف غناؤها عن غناء المواهب التقليدية. في الواقع، اصرت جنكينز على انها تساوي اعظم نجوم يومها. كانت غالبا ما تؤدي اكثر الاغاني تطلبا وصعوبة. لو كانت لديها فهم افضل للتفاصيل التقنية، ربما كانت ستختار مجموعة اغاني اكثر ملاءمة لقدراتها، مهما كانت.
يرسم المنحنى البياني لدانينغ-كروجر الثقة مقابل الكفاءة.
يقدم درسا واضحا: القليل من المعرفة شيء خطير.
عندما لا يكون لديك اي معرفة او خبرة على الاطلاق في مجال معين، يكون من السهل عادةً التعرف على حدودك. لم المس كمانا في حياتي، لذا لا اتوقع ان التقط واحدا وابدا في العزف. ثقتي في قدرتي هي بشكل صحيح صفر. وبالمثل، كما ذكر دانينغ وكروجر في ورقتهم البحثية عام 1999، "معظم الناس ليس لديهم مشكلة في تحديد عدم قدرتهم على ترجمة الامثال من اللغة السلوفينية، او اعادة بناء محرك V-8 (نوع من محركات الاحتراق الداخلي) او تشخيص التهاب الدماغ الحاد".
لكن اولئك الذين لديهم القليل من المعرفة او الخبرة غالبا ما يعتقدون انهم يعرفون كل شيء. هذا يفسر الصعود الحاد في اقصى يسار الرسم البياني وبلوغ القمة العالية. ستكون فلورنس فوستر جنكينز وماك ارثر ويلر في مكان ما بالقرب من قمة المنحنى.
اولئك الذين لديهم الكثير من الموهبة او الخبرة يكونون اكثر قدرة على فهم حدودهم. يعرفون ما لا يعرفونه، يفهمون اين تفتقر مجموعة مهاراتهم. يقدرون كيف ان الاخرين افضل حقا في بعض الاشياء منهم. تصل مستويات الثقة الى الحد الادنى، في وسط الرسم البياني.
اخيرا، اولئك الذين هم خبراء حقيقيون يعرفون انهم جيدون. يميل المنحنى صعودا الى اليمين. اولئك الذين في مستوى ماريا كالاس (من اشهر مغنيات الاوبرا في القرن العشرين) يدركون خبرتهم - رغم انهم لا يمتلكون بالضرورة الثقة المطلقة التي يمتلكها الجاهل. العبقري يدرك عيوبه، حتى لو لم يلاحظها الجميع. قلة من المستمعين مؤهلون لادراك ان كانت ماريا كالاس قد اخطات قليلا في غنائها.
من السهل السخرية من الثقة الزائدة لدى غير الموهوبين. لكن القيام بذلك هو تفويت الرسالة المزعجة لابحاث دانينغ وكروجر. في عام 2003، كتبوا ان البحث "يثير التساؤل عما اذا كان الناس، او يمكن ان يكونوا، في وضع يمكنهم من تكوين انطباعات دقيقة عن انفسهم. اذا لم يكن لدى الافراد غير الاكفاء المهارات اللازمة لتحقيق البصيرة في محنتهم، فكيف يمكن توقع ان يحققوا رؤى ذاتية دقيقة؟ كيف يمكن لاي شخص ان يكون متاكدا من انه ليس في نفس الموقف؟"
لكي تحصل على الجواب الصحيح لابد ان يكون لديك شبكة اجتماعية مستعدة لقول الحقيقة. كانت فلورنس جنكينز معزولة عن واقع عدم كفاءتها بسبب محبة زوجها، ومدرب صوتها. ولم يطلب سارق المصارف ماك ويلر الراي بطريقته لاخفاء وجهه. العلاج، اذن، يجب ان يكون بسيطا: تجنب الممكّنين والموافقين (اللوكية)، اسال اصدقاء يمكنهم ان يكونوا صادقين بقسوة، اقرا التعليقات حولك، عبر الانترنت وغيرها.
هذه ليست وصفة سيئة، لكنها ايضا ليست علاجا شاملا. فمثلا، كره النقاد عرض الباليه لسترافينسكي "طقوس الربيع" في ادائه الاول. وشكك المجتمع العلمي في امكانية الطيران بجسم اثقل من الهواء. ولم يستطع اينشتاين الشاب الحصول على وظيفة تدريس، ولم يهتم احد كثيرا بما كان يفعله فان كوخ باستثناء شقيقه المحب. قد لا يتعرف الاصدقاء والنقاد على العبقرية الحقيقية، في حال امتلاكها.
قد لا تحمل اوهاما حول قدرتك على اداء متفوق. ومع ذلك، في السيرة الذاتية التراجيدية الكوميدية للحياة، نعاني جميعا من اوهام الكفاءة، بطرق صغيرة وكبيرة.
تاثير دانينغ - كروجر ليس حالة مرضية - انه الحالة الانسانية.اخيرا، سؤال يهمنا جميعا:
كم في مجتمعنا وخاصة بين صفوف القادة السياسيين والطبقة الحاكمة من تنطبق عليه صفات المغنية فلورنس جنكينز وسارق المصارف ماك ويلر؟
مترجم عن الاندبندنت البريطانية
* عالم احياء مهتم بزراعة الخلايا والانسجة وانتاج الادوية البيولوجية وهو استاذ متمرس في الكلية الجامعة دبلن (UCD)